للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دعوة إلى تأصيل المصطلحات السياسية]

(١ ـ ٢)

محمد بن شاكر الشريف

المعارضة السياسية بما تحمله من مضمون تنافسي ـ بين جماعات سياسية منظمة لها تصورها الخاص في كيفية سياسة المجتمع وإدارته ـ للوصول إلى السلطة عبر برامج معدة سلفاً، أو التأثير فيها عند عدم القدرة على الوصول إليها، مصطلح حديث نسبياً؛ إذ لا يتجاوز ظهوره في العالم قرنين من الزمان، ويجمل بنا أن نتعرف على المعنى اللغوي لكلمة المعارضة؛ فمادة عَرَضَ التي ترجع إليها تلك الكلمة لها عدة معانٍ، والذي يتعلق بموضوعنا من ذلك مما جاء في لغة العرب أمور ثلاثة:

أحدها: المقابلة بين شيئين أو عدة أشياء لتبين مدى الاتفاق أو الاختلاف بينها؛ فمن ذلك قولهم: عَارَضَ الشيءَ بالشيءِ مُعَارضةً: قابَلَه، وعارَضْتُ كتابي بكتابه أَي قابلته، وفي الحديث: إِن جبريل ـ عليه السلام ـ كان يُعارِضُ النبي -صلى الله عليه وسلم - القُرآنَ في كل سنة مرة وإنه عارضَه العامَ الذي توفي فيه مرتين (١) ، قال ابن الأَثير: أَي كان يُدارِسُه جمِيعَ ما نزل من القرآن من المُعارَضَةِ المُقابلة.

الثاني: المسابقة والتنافس والمباراة، ومن ذلك قولهم: فلان يُعارضُني أَي يُباريني، وعارَضَه في السير: سار حِياله وحاذاه، وعارضه بمثل ما صنع: أي أتى إليه بمثل ما أتى، وفلان يُباري الريحَ سَخاءً، وفلان يُباري فلاناً أَي يعارضه ويفعل مثل فعله، وهما يَتَبارَيانِ إِذا صنع كل واحد مثل ما صنع صاحبه، وفي الحديث: نهى عن طعام المُتَبارِيَيْنِ أَن يؤكل (٢) ، هما المتعارضان بفعلهما ليُعَجِّزَ أَحدُهما الآخَر بصنيعه، وإِنما كرهه لما فيه من المباهاة والرياء، ومنه شعر حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ:

يُبارِينَ الأَعِنَّةَ مُصْعِداتٍ على أَكْتافِها الأَسَلُ الظِّماءُ

المُباراة: المُجاراة والمسابقة أَي يُعارِضْنَها في الجَذْب لقوة نفوسها وقوة رؤوسها وعَلْكِ حَدائدها، ويجوز أَن يريد مُشابَهَتَها لها في اللِّين وسُرعة الانقياد.

الثالث: المنع والاعتراض، ومن ذلك قولهم: كل مانِعٍ مَنَعَك من شغل وغيره من الأَمراضِ، فهو عارِضٌ، وقد عَرَضَ عارِضٌ أَي حال حائلٌ ومَنَعَ مانِعٌ ويقال: اعتَرَضَ الشيءُ دون الشيء أَي حال دونه واعْتَرَضَ فلان فلاناً أي وقع فيه وعَارَضهُ أي جانبه وعدل عنه (٣) ؛ فالمعارضة تعني الاعتراض والممانعة الناتجة عن اتضاح الرؤية من المقابلة والموازنة بين الأمور، أو الناتجة عن التنافس والتسابق، وهذه المعارضة منها ما هو ممدوح ومنها ما هو مذموم. وقد كثر استخدام لفظ معارضة في كلام أهل العلم بمعنى المخالفة والاعتراض والممانعة، فيقولون مثلاً: هذه الرواية ليست مُعارَضة بتلك، ورواية فلان مُعارَضة برواية فلان، وقد اعتُرِض على هذا الاستدلال وهذه مُعارَضة صحيحة، ولا تجوز مُعارَضة الخبر الصحيح بالأخبار الضعيفة، وهذا نص صحيح صريح سالم من المُعارَضة، ومثل هذا كثير في كلامهم؛ فليس لها استخدام عندهم يزيد عن المعنى اللغوي من غير أن يكون لذلك اللفظ دلالة اصطلاحية، حتى إن الماوردي ـ رحمه الله تعالى ـ عندما استخدم ذلك اللفظ في الأحكام السلطانية لم يخرج في استخدامه له عن حد معناه اللغوي، فقال الماوردي بعدما تحدث عن شروط الإمام: (فعلى كافة الأمة تفويض الأمور العامة إليه من غير افتيات عليه ولا مُعارَضة له ليقوم بما وكل إليه من وجوه المصالح وتدبير الأعمال) (٤) ، وقال عندما تكلم عن اختصاص بعض الوزراء وما يكلفهم به الخليفة: (يكون تقليد كل واحد منهما مقصوراً على ما خص به، وليس له مُعارَضة الآخر في نظره وعمله) (٥) ، فالمُعارَضة هنا تعني الاعتراض عليه فيما يقول، ومخالفته فيما يذهب إليه، والامتناع من الإقرار له أو الخضوع والطاعة، وسبب المعارضة بمعنى الاعتراض والمخالفة والامتناع راجع إلى التباين في الآراء والتصورات، وذلك يرجع من المنظور الشرعي لعدة أمور؛ فمن ذلك: عدم الإقرار لأحد من البشر غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بالعصمة؛ فكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك، ومنه: ليس أحد من الناس قوله ملزم بمجرده إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ومنه: عدم انحصار القدرة على معرفة الصواب في أناس معينين أو محددين، ومنه: الاشتراك في مسؤولية إدراك الحق والعمل به والدعوة إليه، ومنه: اختلاف ملكات الناس وقدراتهم في الفهم والاستنباط، ومنه: أداء الأمانة في تبليغ الحق وعدم كتمان العلم، ومنه: عدم إمكانية الإجماع في كل رأي.

كما قد يكون من أسباب المعارضة التنافس بين الناس؛ فكل ذلك وما جرى مجراه يكون داعية للاختلاف والتباين والممانعة والاعتراض والمعارضة، لكن هذا كله لم يجعل من تلك اللفظة مصطلحاً فقهياً أو سياسياً في لغة أهل العلم يخرج عن حد معناها اللغوي، والمضمون الذي يريده بعض الناس من استخدام هذه اللفظة كاصطلاح، موجود على وضع أفضل وأدق منها في ألفاظ الشريعة؛ وذلك في ألفاظ مثل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة، والشورى، ولا شك أن ذلك الاستخدام هو الأوْلى والأفضل بل الصحيح؛ إذ إن لفظ المعارضة لفظ محايد، لا يدل على ما إذا كانت المعارضة أو الاعتراض على أمر باطل أو على أمر حق؛ فكله يطلق عليه معارضة؛ فهو لا يحمل بمقتضى لفظه قيمة تحمد أو تذم، وهذا بعكس الأمر بالمعروف فإنه لا يكون إلا بأمر تعرفه الشريعة وتقره وتدعو إليه. والنهي عن المنكر لا يكون إلا عن أمر تنكره الشريعة وتحض على تركه. والنصيحة تعم الأمرين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فالمعروف ينصح بالدعوة إليه والحض على فعله، والمنكر ينصح ببيان نكارته والحض على تركه، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة المتعلقة بكليهما والشورى كل ذلك يحمل في طياته المعنى الحسن من المعارضة أو الاعتراض أو الممانعة؛ فهو يخلو من المعنى الفاسد كمعارضة الحق والخير، وليست هذه مجرد مفارقة شكلية أو مماحكة لفظية يمكن التغاضي عنها؛ إذ إن الأسماء والألفاظ لها تأثير في التعامل مع ما تدل عليه من المعاني، ولذلك جاء توجيه الرسول -صلى الله عليه وسلم - لأصحابه عندما كان الأعراب يسمون العشاء العتمة لكونهم يعتِّمون بحلاب الإبل أي يؤخرونه إلى شدة الظلام، فقال لهم: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء؛ فإنها في كتاب الله العشاء، وإنها تعتم بحلاب الإبل» (١) ، فنهاهم عن استعمال ما تستعمله الأعراب في الدلالة على وقت العشاء، مع أن الوقت الذي يشير إليه الأعراب بهذه التسمية هو وقت صحيح للعشاء؛ وذلك لئلا تغلب السنة الجاهلية على السنة الإسلامية. وهذا يدلنا على أن علينا أن نعض بالنواجذ على ألفاظنا ومصطلحاتنا الإسلامية لا نبتغي بها بدلاً، ولا نستبدل بها شيئاً مما يُتداول اليوم في سوق الألفاظ والمصطلحات؛ الجري وراء المصطلحات الوافدة والاغترار باستخدامها سوف يوقعنا في أسرها وأسر مدلولاتها؛ بحيث لا نملك الانعتاق منها ومما يتعلق أو يرتبط بها؛ لأن اللفظ إذا كان مستورَداً فإنه يأتي ومعه معناه وشروحه وحواشيه، ولا يأتي مصطلحاً فارغاً من المضمون؛ فإذا حدث اختلاف في شيء يتعلق بذاك المصطلح فإن الاحتكام يكون لتلك المعاني والشروح والحواشي؛ لأنه لا تفسير له إلا هناك، وهذا واضح بيِّن في مسلك الآخذين بتلك المصطلحات؛ فإنهم ينزعون في الاستدلال على مخالفهم في صحة طرحهم وآرائهم بما قاله أرباب هذه المصطلحات، مما تتحول معه تلك المصطلحات في نهاية الأمر أن تكون عربية الحروف والمظهر، أعجمية المعاني والمخبر.

وعلى ذلك فإن التحذير من ضرر استخدام المصطلحات الغريبة على شريعتنا وثقافتنا لا يمثل موقفاً انعزالياً أو تقوقعاً وانكفاء على الذات، وبُعداً عن التفاعل مع العالم من حولنا، وإنما يمثل موقفاً محافظاً على مقومات الأمة وخصائصها ألا تذوب في غيرها؛ فإن تلك المصطلحات محمَّلة بدلالاتها الخاصة بها التي تكونت عبر أجيال عدة، وخبرات متطاولة في بيئة غير إسلامية، وهي بالطبع بيئة مناقضة لبيئتنا؛ على أن هناك من يظن إمكانية استعمال هذه المصطلحات واستخدامها بعد تفريغها من المضمون المخالف لشريعتنا وتعبئتها بمضمون صالح يوافق شرعنا ولا يخالفه، وهذا في الحقيقة يعد غفلة عظيمة، كما يمثل في الوقت نفسه اعترافاً بسمو تلك المصطلحات وعمومها وصلاحيتها، وقبولاً بسيادة تلك المصطلحات على مصطلحاتنا، وفي المقابل يمثل اعترافاً بعجز ثقافتنا أن يكون لديها المصطلحات الخاصة بها التي تدل على المضمون الذي نريده، ثم إن هذا التصرف سينتهي ـ ولا بد ـ إلى قبول المصطلح بكل شروحه وحواشيه؛ لأن عملية التفريغ ثم التعبئة هي في الحقيقة عملية غير ممكنة بل هي وهم كبير، وحتى إذا أمكن القيام بذلك فما جدوى الإتيان بمصطلح ذي مضمون نابع من بيئة مناقضة لبيئتنا فنفرغه من مضمونه، ونملؤه بمضمون مناسب لنا؟ ألا يمثل هذا تبعية شديدة لهذا المصطلح؟ وكيف يمكن لنا أن نتحرر من الفكر الغربي ونحن نسلك هذا السلوك ونقدم مصطلحاته على مصطلحاتنا؟

لقد مثَّل استخدام تلك المصطلحات الوافدة كالديمقراطية والاشتراكية والمعارضة والليبرالية وغيرها في العقود الماضية، جناية عظيمة على الأمة في عقيدتها وشريعتها وثقافتها، ولم تفلح أية محاولة من محاولات التفريغ والتعبئة أو الطلاء بقشرة إسلامية أن تنتزع تلك المصطلحات من مضمونها، وقد كان هذا المسلك أحد العوامل المهمة التي ساهمت في إحداث قطيعة مع تراثنا الحقيقي، كما حالت دون أي عملية تجديد أو إصلاح حقيقية؛ مما ترتب عليه نشوء أجيال من المثقفين أو ممن يشار إليهم على أنهم نخبة أو صفوة المجتمع لا تعرف من دينها في الجانب السياسي أو الاقتصادي إلا ما كان مستجلباً من الفكر الغربي، وقد أحدث ذلك التصرف شقة عميقة بين تلك الأجيال وبين معرفة دينها معرفة صحيحة خاصة في تلك الجوانب، حتى أصبح من الصعوبة بمكان التغلب عليها إلا ببذل جهد مضاعف في سبيل ذلك.

إن من الأمور الغريبة أن تجد من يريد إدخال مصطلح المعارضة بمعناه الغربي في جسم أو ضمن نسيج النظام السياسي الإسلامي يحتج بأن هذه اللفظة عربية، وكأنه نسي أو جهل أن هذه اللفظة العربية لا تستخدم الآن حسب استخدامها العربي المعروف، وهم يحتجون على صواب إدخال تلك المفردة في المصطلحات السياسية الإسلامية بالنصوص الشرعية التي تتحدث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحض على النصيحة والدعوة إلى الشورى، ولكن عندما يأخذون في الحديث عن المعارضة وتفصيلاتها، تجدهم يتحدثون عنها على نحو ما هو موجود في الفكر الغربي، فكأن هذه النصوص لم يلجأ إليها في الواقع إلا لتكون مجرد وسيلة للعبور عليها إلى قبول فكرة المعارضة، وإذا أعوزتهم الحجة التاريخية على أن يجدوا في التاريخ الإسلامي ما يدعم نظرتهم إلى مصطلح المعارضة، يمموا وجوههم شطر الفرق المذمومة التي جاء ذمها في النصوص الشرعية كالخوارج والشيعة وأضرابهم، وجعلوها سنداً تاريخياً على معرفة المسلمين بالمعارضة واستعمالهم لها، وهذا من أعجب الاستدلال؛ حيث يستدل على صواب المعارضة بسلوك من ذمتهم النصوص من أجل سلوكهم هذا، وكان حقه أن يستدل بذلك على فساد المعارضة لا على أنها ظاهرة صحية.

- ظاهرة المعارضة في السلوك الإنساني:

الاعتراض أو المعارضة، والاختلاف أو المخالفة؛ ظاهرة إنسانية من لوازم المجتمع الإنساني؛ فحيثما وجد الإنسان في جماعة فلا يخلو ذلك الاجتماع من تباين وجهات النظر تجاه كثير من الأمور التي ينظر إليها على أنها من المضار أو من المصالح، وما يترتب على ذلك من تعارض الإرادات في السعي لجلب ما يُظن مصلحته، أو العمل لكف ما يُنظر إليه على أنه من المضار؛ لذلك فلا يمكن أن تتحقق مصالح بني آدم عند اجتماعهم إلا من خلال نظام صالح يحقق المصالح ويدفع المضار، ولا يتأتى ذلك إلا في ظل وجود القواعد المنظمة لذلك، والتي لا تؤدي وظيفتها ودورها إلا إذا كانت ملزِمة باتباعها وعدم الخروج عليها، ومن لازم ذلك القدرة على مجازاة المخالف وإجباره على التقيد بتلك القواعد الصالحة، وهذا كله لا يتم إلا في وجود سلطة آمرة ناهية ملزِمة، قادرة على إنفاذ إرادتها على المجتمع الإنساني.

ويمكننا أن نستخلص من هذا العرض المطول لتلك الظاهرة عدة حقائق إنسانية؛ فمن ذلك: أن الإنسان له إرادة خاصة به وهو لا يحب أن يُكرَه أو يُجبَر على أن يرى ما لا يرى، أو أن يختار ما لا يختار، وأن الإنسان له رغبة في تحصيل المنافع والمصالح والسعي في سبيل المحافظة عليها، كما أن له رغبة في دفع المفاسد والمضار والعمل على تقليلها إلى أقصى حد ممكن، وأنه لا يوجد اتفاق كامل في التصورات المتعلقة بالنظر إلى المصالح والمفاسد، ومن ثم عدم اتفاق الإرادات في العمل لجلب المصالح ودفع المفاسد، وهذه ولا شك إشكالية تحتاج إلى حل، وقد حاولت التجمعات الإنسانية المتعددة والمتباينة على مدى الزمن حلَّ ذلك انطلاقاً من ثقافتها وحضارتها وظروف بيئتها، وقد تنوعت تلك الحلول واختلفت باختلاف الزمان والمكان.

- الحل الغربي المعاصر:

يقوم الحل الغربي على قبول الواقع كما هو، والخضوع له عن طريق التقنين له، بدلاً من محاولة إصلاحه وتقويم اعوجاجه؛ فقدم في سبيل ذلك فكرة الحرية المطلقة من كل قيد: في التصورات، والاعتقادات، والإرادات، ولم يستثن من ذلك كله إلا ما كان فيه ضرر يعود على الآخرين. وانطلاقاً من فكرة الحرية المطلقة فإنه يحق لكل أحد أن يبني عالمه الخاص به، النابع من داخله هو؛ أي من تصوراته الشخصية دون أية قيود خارجية سواء كانت من الدين أو من عادات المجتمع ومواضعاته أو أي شيء آخر. ولا يلزم للاعتراف بهذه الرؤية سوى أن تكون بإرادته من غير إجبار، كما لا يلزم لإقرارها بصورة نظامية في المجتمع سوى كثرة أعداد القائلين بها حتى يكونوا أكثر من المخالفين لها، ومن لازم ذلك فإنه يحق لكل أحد أن يعترض على أي شيء في المجتمع إذا سلك الطريق النظامي المقرر في الاعتراض، ويحق له أن يظل على اعتراضه ويصر عليه بل ويدعو إليه، حتى لو كان ما يذهب إليه خطأ وضلالاً تماماً، ويخالف أعراف المجتمع ومواضعاته، ما دام أنه لا يستعمل في الدعوة إليه سوى الوسائل السلمية، ولا يتجاوز ذلك إلى الوسائل العنيفة لإكراه الآخرين عليها. ومن الممكن أن يتحول هذا الخطأ والضلال إلى حق وصواب، إذا تمكن الداعي إليه من استقطاب الأغلبية المطلوبة التي توافقه وتقبل دعوته، ومن ثم يصير رأياً وجيهاً يُعمل به ويُحتكم إليه؛ فالصواب والخطأ في التصورات والأفكار والاعتقادات لا يأتي في ذلك الحل من أمر خارج عنها، وإنما يأتي من داخلها نفسها حسب قناعات الأفراد، وترتب على ذلك أن نشأ في الفكر السياسي الغربي ما يُعرف اليوم على أنه (المعارضة) التي تعني تمايز المجتمع وانقسامه حول بعض الاختيارات أو المحاور السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتباينة، ثم تنضوي كل فئة من الناس تحت الخيار الذي يناسبها، ويسعى كل فريق بعد ذلك من أجل الوصول إلى سدة الحكم ليفرض رؤيته الخاصة في جلب المصالح ودفع المفاسد، دونما تقيد أو ارتباط برؤية الآخرين المخالفة أو تصوراتهم، على أساس أن وصولهم للحكم عن طريق اختيار الناس لهم يعني قبول منهجهم، وإلا لما اختارهم الناس (١) .

فبدلاً من السعي نحو إيجاد جمهرة عظيمة من الأفكار والتصورات يلتقي حولها الناس، حل محله تقسيم الناس وتوزيعهم حول عدة محاور متناقضة؛ مع تكريس ذلك التناقض عن طريق تنظيمه ووضع القواعد التي تضبطه. وبدلاً من تقديم فكرة التعاون على البر والتقوى، وجمع الكلمة على فعل الخير، ودفع الشر في ظل توافق عام أو أغلبي على تحديد المصالح والمفاسد، قُدِّمَ بدلاً منها فكرة التنافس والتصارع للوصول إلى سدة الحكم ليفرض الفريق الفائز رؤيته لتلك الأمور. فالقضية بدأت في أولها بالحرية المطلقة من أية قيود، ثم انقلبت في نهاية الأمر بفرض رؤية الأغلبية وإرادتها على الأقلية، وبهذا ينقسم المجتمع إلى: حكومة، ومعارضة: الحكومة تقول وتفعل ما تشاء استناداً إلى ما تدعيه من التفويض الممنوح لها، والمعارضة تعارض الحكومة وتقدم رؤيتها من أجل إقناع الناس للوصول إلى الحكم، وإزاحة الحكومة وتحويلها إلى معارضة وتقوم هي بالدور نفسه الذي كانت تقوم به الحكومة.

فالعلاقة القائمة بين الحكومة وبين ما يُدْعَى بالمعارضة في هذا الفكر السياسي علاقة الترصد والتنافس لا علاقة التعاون والتعاضد من أجل خير المجتمع (٢) ، والهدف من ذلك الوصول إلى كرسي الحكم وليس ابتغاء وجه الله طلباً للأجر والمثوبة منه، أو السعي للإصلاح. ولا شك أن الفكرة القائلة بأن كسب الأغلبية (٣) الموصلة للحكم تعطي الحق في فرض الآراء والتصورات وصوغها قوانين ملزمة تُفرَض بالقوة على الجميع، تدفع المتنافسين في سبيل الوصول إلى الحكم للوقوع في تجاوزات كثيرة لا يمكن قبولها تحت أي مسوِّغ؛ فهناك التزوير، وهناك الرشوة المباشرة وغير المباشرة، وهناك التلاعب بالبيانات وشراء الذمم؛ بحيث لم يقتصر ذلك على مجتمع يقال عنه مجتمع متخلف، بل أصبح ذلك سمة في المجتمعات جميعها المتقدمة والمتخلفة منها على السواء، وإن كانت النسب بلا شك تتفاوت من دولة إلى أخرى؛ وهذا الحل غير مقبول إسلامياً؛ لأنه حل في حقيقته يقوم على الانفلات الكامل في الأفكار والعقائد والتصورات بزعم الحرية، ويترتب عليه أمور أيضاً غير مقبولة إسلامياً: كتفرقة الأمة وتجزئتها وتحويلها إلى فئات متناحرة، والسعي في طلب الحكم الذي يقوم على تزكية النفس وترصُّد الآخرين والبحث عن زلاتهم.

- الحل الإسلامي:

وقد قام الحل الإسلامي على عدة أسس: ففي جانب عدم اتفاق التصورات وتعارض الإرادات؛ فذلك حله في الرجوع إلى الأحكام الشرعية والتقيد بها من جميع المسلمين بلا فرق بين أحد منهم، وما كان من الأمور التي لا يوجد فيها النص الملزم؛ فإن ذلك يتم عن طريق الاجتهاد القائم على ضوابط معلومة في بذل الجهد للتعرف على الحكم الذي يوافق الأحكام الشرعية، في جو من التناصح والتشاور، وأما السعي في تحصيل المنافع والمصالح؛ فذلك حله في الأحكام المتعلقة بالأمر بالمعروف، وكذلك السعي في دفع المفاسد والمضار؛ فذلك حله موجود في الأحكام المتعلقة بالنهي عن المنكر. ومن هنا فإن الحل الإسلامي راعى الواقع من غير أن يستسلم له، أو يخضع لظروفه المتقلبة، بل عمل على قيادته وإصلاحه.

- آليات الحل الإسلامي:

النظرة الإسلامية في سياسة الدنيا قائمة على أن الجميع عباد الله، وهم على حد سواء في هذه العبودية بلا امتيازات بينهم، وأن العباد مستخلَفون في هذه الأرض، وأن الجميع يشتركون في تحمل مسؤولية قبول الحق وأمانة تبليغه، وأمانة السعي في سبيل إقراره وتحمل الشدائد في مواجهة من يعارضه أو يقف في سبيله، والقيام بعمارة الأرض وإصلاحها وكف الفساد عنها؛ فليس هذا الهَمُّ هَمَّ مجموعة معينة من الناس، بينما يبقى المجموع الباقي وكأنهم أُجَرَاء، ليس لهم إلا الأجر في مقابل الطاعة فيما يُكلَّفون به من عمل، أو كأنهم عابرو سبيل ليس لهم من الحقوق إلا ما يتمتع به عابر السبيل، بل الكل شركاء ومتضامنون في جلب المصالح (الدينية والدنيوية) وكذلك دفع المفاسد (الدينية والدنيوية) ، ولذلك لا يجوز تهميش الرعية أو أغلبيتها بدعوى أن ذلك ليس من شأنها، بل ينبغي أن تمكَّن الرعية من كل حق أعطته الشريعة لهم؛ إذ هذا شرط الفلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة، إذ بمثل هذه المشاركة يشعر المسلم بانتمائه الحقيقي لدار الإسلام مما يستنهض همته للسعي في خيرها، والدفاع عنها عندما يَدْهم الأعداء بلاد المسلمين، أو تدلَهِمُّ الخطوب، وإذا كنا لا نستطيع أن نغطي في هذا المقال الموجز الحديث عن الآليات المتبعة في الحل الإسلامي لتحقيق ذلك فإنه يكفينا في ذلك أن نقدم حديثاً موجزاً عن ذلك، فمن تلك الآليات: المتابعة والمراقبة: إذ الكل شريك والكل مسؤول، وهذا يستوجب أن يحرص كل أحد على المتابعة والمراقبة حتى لا يحدث خرق في اتجاه لا يشعر به أحد , فيكون فيه الهلاك، ولهذه المتابعة والمراقبة دواعي منها: أن الإيمان يزيد وينقص، والشيطان يتربص بالإنسان يلتمس منه غرة، وأن الأمة مسئولة عن المحافظة على الدين والدنيا، وأن الرؤية الصحيحة قد تغيب عن بعضهم بسبب عوامل كثيرة، وهذه المتابعة والمراقبة ليست على سبيل التخوين أو الشك، وإنما ضماناً لحسن سير الأمة وانتظامها في طريقها المستقيم من غير اعوجاج، وحتى إذا حدث اعوجاج أو بُعد عن المنهاج أمكن الرد إلى الطريق المستقيم من قريب. والفرق بين مراقبة الشك والتخوين، ومراقبة ضمان الانتظام وحسن السير: أن الأولى تعتمد على الشك والارتياب، وتغليب الظنون على اليقين والظاهر، والتماس المعايب والأخطاء، بينما الثانية تعتمد الحقائق وتغلِّب اليقين على الظنون، والسعي إلى الإصلاح، وكذلك تستند إلى الظاهر وتقبل المسوِّغات من غير تعنت أو غفلة، تحدوها في ذلك الرغبة في الحفاظ على مصلحة الأمة، والمتابعة والمراقبة قد يتلوها الإشادة والتأييد عند استقامة الأمور وسيرها في مجراها الطبيعي، كما قد يتلوها الإنكار عند خروج الأمر عن طريقه المستقيم حتى يصل التصرف إلى حد العصيان أو مقاومة الطغيان، والإنكار هنا له درجاته المتعددة بحسب درجة الخروج عن الطريق المستقيم وكيفيته، حسب ما هو مفصل في فقه إنكار المنكر.

ومنها: حق التعبير عن الرأي ما لم يخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً، وأن يكون انطلاقاً من المسؤولية والمشاركة وعدم انحصار الصواب في اجتهاد طائفة من المسلمين، وانطلاقاً من التكليف وعدم الوصاية على العقلاء العالمين البالغين؛ فإنه يحق للمسلم أن يعتقد ما يراه صواباً بالشروط السابقة، وأن يدعو إليه بغض النظر عن موافقة ذلك أو مخالفته للسلطة، ولا تكون مخالفته للسلطة في الرأي مدعاة لمنعه من الدعوة إلى الصواب إذا كان يستدل عليه بالأدلة الصحيحة وليس فيه مخالفة للدين، بل على السلطة أن تمكنه من ذلك، وترده للطريق المستقيم إذا خرج عن الجادة، وحق التعبير عن الرأي لا يعارض واجب الطاعة؛ فالمسلم يجب عليه طاعة ولاة أموره المسلمين في المعروف، كما أن عليه أن يعمل بالحق ويدعو إليه.

ومنها: عدم الإلزام بالرأي الاجتهادي؛ إذ العقول متفاوتة والاجتهادات تابعة لعقول أصحابها، والإلزام بالرأي الاجتهادي يعد نوعاً من الإكراه، بل يجعل الرأي الاجتهادي في منزلة تضاهي منزلة النصوص الشرعية، وهو ما تأباه القواعد الشرعية.

ومنها: اللجوء إلى المحكمة: وانطلاقاً أيضاً من الشراكة وأنه ليس أحد أحق من أحد في الحفاظ على مصالح الأمة بجلب الخير لها ودفع الشر عنها؛ فإنه إذا تعارضت التصورات في النظر إلى المصالح أو الحقوق أو الواجبات العامة التي لا يختص بها أحد دون الآخر، وتباينت لأجل ذلك الإرادات، لم يكن لأحد أن يقضي على الآخر أو أن يلزمه بما يراه، انطلاقاً من استناده إلى وسائل القوة التي يحوزها، بل يحتكم الطرفان إلى المحكمة التي تفصل في ذلك بناء على البينات المقدمة، واستناداً إلى الشريعة في نصوصها ومقاصدها.

الحسبة أو الاحتساب: هذه الآليات المذكورة لم يكن هناك اسم يخصها من بين تشريعات الإسلام المتعددة في مختلف حياة المسلمين الدينية والدنيوية، وكانت كلها داخلة تحت المعنى العام لنظام الإسلام في الدين والحياة، لكن هل هناك ما يمنع من جمع مجموعة من الأحكام الشرعية المتعلقة بموضوع معين تحت اسم يكون معبراً عن ذلك؟ الذي تدل عليه تصرفات العلماء السابقين أنه لا يوجد ما يمنع من ذلك أو يحول بينه، وقد صنف أهل العلم كتباً كثيرة في موضوعات محددة؛ فهذا يصنف في أحكام العبادات، وذاك يصنف في أحكام الجهاد، وثالث يصنف في الغزوات والسير، وآخر يصنف في الأحكام السلطانية، وغيره يصنف في السياسة الشرعية؛ وهكذا، والقيد الوحيد الذي يمكن وضعه على ذلك أن يكون هناك توافق حقيقي بين الاسم المختار وبين الموضوعات التي يعالجها حتى لا يحدث اختلاط أو اضطراب.

ونحن في ظل الأوضاع المعاصرة نحتاج إلى مصطلح نضع تحته هذه الآليات وأضرابها، حتى تكون واضحة في أذهان الناس الموافقين والمخالفين على السواء، وحتى لا تجرف المصطلحات الوافدة عقول الناس وتغلب عليهم؛ لخلو الساحة من مصطلح بديل يعبر عن الحقائق الشرعية بدون مخالطة للباطل، على النحو الذي نراه في المصطلحات الوافدة كما بينا من قبل. وينبغي علينا أن نركِّز في حديثنا أو استخدامنا على ذلك المصطلح حتى يكتسب الشيوع والقوة، وأقرب ما يكون من المصطلحات التي يمكن أن تعبر عن تلك الآليات هو لفظ (الحسبة السياسية) بمعناها العام التي تشمل الحسبة على المسلمين جميعهم الحكام والمحكومين. والداعي إلى اختيار هذا المصطلح أمور منها: أن الحسبة مصطلح شرعي مستخدم في تراثنا الشرعي، وأنه مدلول عليه بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وعمل الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وأنه خال من اشتماله على أنواع من الباطل كما في المصطلحات الوافدة، وأنه يعبر عن طبيعة القيام بهذا العمل وهو احتساب الأجر وابتغاؤه من الله العلي الكبير من غير بحث عن مغنم أو منصب دنيوي.

نظام الحسبة: الحسبة نشأتها ترجع إلى النصوص الشرعية التي تدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال ـ تعالى ـ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: ١٠٤] ؛ فالحسبة على هذا شاملة ليست قاصرة على باب دون باب من أبواب الشريعة، كأن تُحصَر في الاحتساب على منكرات الأسواق أو الأفراح، أو الاحتساب على الآداب الاجتماعية، أو الاحتساب على أداء الصلوات، ونحو ذلك؛ فهذا كله من الحسبة بلا شك، لكنه ليس الحسبة كلها، وإنما الحسبة تدخل في أمور الدين كلها: ما تعلق بالأفراد، وما تعلق بالمجتمع، وما تعلق بالسلطة، وما تعلق بالاعتقادات أو العبادات أو المعاملات أو السياسة أو الاقتصاد. يقول الماوردي ـ رحمه الله تعالى ـ: (الحسبة هي أمر بمعروف إذا أظهر تركه، ونهي عن منكر إذا أظهر فعله) (١) ، والكلام هنا مطلق غير مقيد، والمعروف اسم جامع لكل ما أمر به الشرع أو دعا إليه أو حض عليه أو أقره ولم يغيره، والمنكر اسم جامع لكل ما نهى عنه الشرع أو خالف الشرع وعارضه، وهذا يبين أن مجال الحسبة رحب فسيح يعمل في الاتساع الذي يشمله اسم المعروف واسم المنكر، انطلاقاً من عموم رسالة الإسلام وشموله للزمان والمكان، وليست هي محصورة في صور نمطية معينة، أو نماذج محددة. قال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: (المعروف هو الحق الذي بعث الله به رسوله، والمنكر هو ما خالف ذلك من أنواع البدع والفجور) (٢) ، ونظراً لأن (عموم الولايات وخصوصها وما يستفيده المتولي بالولاية يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف، وليس لذلك حد في الشرع؛ فقد يدخل في ولاية القضاء في بعض الأمكنة والأزمنة ما يدخل في ولاية الحرب في مكان وزمان آخر وبالعكس، وكذلك الحسبة وولاية المال، وجميع هذه الولايات هي في الأصل ولاية شرعية ومناصب دينية) (٣) ، وإذا كانت أكثر الكتب المصنفة في الحسبة ونظامها قد اقتصرت على الحسبة في المعاملات من بيع وشراء، ومكاييل وموازين، وعقود ونحو ذلك، ولم تتوسع فيما يتعلق بالاحتساب في الجانب السياسي؛ فإن ذلك لا يعني عدم وجود الحسبة السياسية من ناحية الواقع؛ فإن النصوص الدالة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشمل بعمومها الاحتساب في جانب المعاملات، كما تشمل الاحتساب في جانب السياسة.

ثم إن الحسبة السياسية قد وجدت ممارستها في الصدر الأول، وإذا لم يكن قد تم تنظيمها؛ فهذا شأن كثير من الأمور لم يحدث تنظيمها عن طريق النصوص الشرعية، وإنما تُرِك ذلك للاجتهاد الشرعي الصحيح القائم على النصوص، والذي يراعي في ضوء التقيد بذلك خصوصية البيئة من حيث: الإمكانات والاحتياجات؛ فإن المجتمعات متغيرة من حيث الصغر والكبر، ومن حيث الضيق والاتساع، كما أن معارفها ووسائلها الدنيوية قد تزيد وقد تنقص، وكذلك حالاتها الإيمانية قد تقوى وقد تضعف، وحاجة المجتمع الصغير غير حاجة المجتمع الكبير، وحاجة المجتمع الذي تزيد فيه المعدلات الإيمانية غير حاجة المجتمع الذي ضعف إيمانه، ويكون النص على وسيلة واحدة أو عدة وسائل في ذلك الزمان المبكر بمثابة النص على الاقتصار عليها وعدم تجاوزها، مع أن أصل تطبيقها إنما كان لمناسبة موافقتها لظروف بيئتها واحتياجاتها، وليس لخصوصيتها، ومن هنا فلا ينبغي الاقتصار على تلك الوسائل ثم تحرم الأمة من الانتفاع بعد ذلك بما يتوصل إليه المسلمون على مدى الزمن، مما يحقق مصالحهم الموافقة لظروفهم وبيئتهم مما يوافق الشريعة ولا يخالفها، فلأجل ذلك دلت النصوص على الأحكام التي ينبغي الالتزام بها من غير إلزام بطريقة تنفيذ هي في أصل إقرارها متأثرة بالواقع نفسه، فالموقف الشرعي من الوسائل والأساليب أن كل طريق أو وسيلة أو أسلوب يؤدي إلى تحقيق الحكم الشرعي في الواقع من غير ترتب فساد عليه، فهو طريق أو وسيلة أو أسلوب مشروع يجوز إتيانه والعمل به، ومن البدهي أن الوسيلة أو الأسلوب أو الطريق إذا كان مما يخالف في تفاصيله الشريعة فلا يعوَّل عليه ولا يعتد به شرعاً، وإن كان يحقق في الظاهر مصلحة وذلك (أن الطرق التنفيذية هي وسائل لتحقيق الغايات، والوسائل لا تراد لذاتها وإنما تراد لما يترتب عليها؛ فربما لو ألزم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها على مدى الزمن بطريق عملي واحد أو بوسيلة واحدة لتعسر عليهم ذلك، ووجدوا فيه من الحرج والمشقة الشيء الكثير، لا سيما أن الوسائل تتعدد وتتباين وقد يكون بعضها ميسراً وبعضها عسيراً، وقد يختلف العسر واليسر للوسيلة نفسها باختلاف الزمان والمكان والله ـ تبارك وتعالى ـ يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر) (١) ، وإذا لم يكن قد حدث تنظيم للحسبة السياسية في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم - فلا يعني ذلك أن تنظيمها بعده بدعة في الدين، أولاً: لأن هذا التنظيم هو من قبيل وضع الأنظمة التي تكفل تحقيق المراد شرعاً على وجه منظم حتى لا يحدث قصور فيه، وليس من قبيل التشريع، وثانياً: فإن الحسبة في جانب المعاملات أيضاً لم تكن منظمة في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم -، ثم نظمت بعده عند الحاجة إلى التنظيم، ولم يقل أحد من أئمة الفقه في دين الله أن ذلك بدعة، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ قاعدة مهمة في ذلك حيث يقول: (والترك الراتب: سنة كما أن الفعل الراتب: سنة، بخلاف ما كان تركه لعدم مقتض أو فوات شرط أو وجود مانع، وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذ كجمع القرآن في المصحف، وجمع الناس في التراويح على إمام واحد، وتعلم العربية، وأسماء النقلة للعلم، وغير ذلك مما يُحتاج إليه في الدين؛ بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به، وإنما تركه -صلى الله عليه وسلم - لفوات شرطه أو وجود مانع) (٢) ، فإذا تُرك شيء لعدم المقتضي لفعله، فإن فعله بعد قيام المقتضي له لا يعد بدعة، وكذلك الحكم إذا كان الترك لوجود مانع ثم زال المانع أو كان الترك لفوات شرط ثم تحقق الشرط، ومع ذلك فإنا نقول: قد حدث نوع من التنظيم في جانب الحسبة السياسية وإن لم يكن شاملاً، وهو ما عُرف في الأحكام السلطانية بـ (ولاية المظالم) فقد كان من مهامها: النظر في تعدي الولاة على الرعية، فيتصفح والي المظالم عن أحوال الرعاة فيقوي المنصف منهم ويعينه، ويكف من يظلم منهم عن ظلمه، ويعزل من لا يصلح معه إلا العزل ويستبدل به غيره (٣) .

فالأحكام السياسية المتعلقة بشروط الولاة وطرق توليتهم وحقوقهم وواجباتهم وموجبات عزلهم وغير ذلك. كل هذه الأحكام موجودة مسطورة في كتب أهل العلم، لكنه لم تقم مؤسسات لها نظام محدد في كيفية وجودها، وعملها للقيام بمثل تلك الأمور وكيفية الاحتساب عليها، وقد كان لهذا ما يسوغه في الصدر الأول من حيث قوة الإيمان من جانب، ومن حيث صعوبة الاتصالات من جانب آخر. لكننا في عصرنا مع توسع الأمور وتطورها وتعقدها في حاجة لمثل هذا النظام الذي يحدد الطرق والوسائل؛ بحيث يصير معلوماً: ماذا يجب؟ وكيف يمكن أن نفعله، والطريقة العملية المناسبة؟ وكيف يمكن أن نحتسب؟ وذلك لتحقيق أمرين:

أولاً: حتى لا يشعر بعض المسلمين بنوع من العجز أمام النظم الأخرى التي يخطف بريقها الزائف أنظار كثير من بني جلدتنا، رغم أنها أنظمة باطلة أُسست على غير شرع منزَّل، بل أُسست على مخالفة الشرع المنزَّل.

وثانياً: حتى لا يتمكن أحد من الالتفاف حول هذه الأحكام المسطورة في كتب أهل العلم ويتجاوزها، ومن الأمور التي تحتاج إلى تنظيم في واقعنا الذي نعيشه: ما يسمى ـ في وقتنا المعاصر ـ بالسلطة التنفيذية، وتنظيم حق إبداء الآراء والأفكار والدعوة إليها، وتنظيم واجب التصدي للانحراف والخروج عن المنهج الشرعي، وتنظيم الشورى والنصيحة، وتنظيم واجب طاعة الولاة ونصرتهم، وغير ذلك من الأمور التي نحتاج إلى إخراجها من كونها مجرد مدونات فقهية إلى أنظمة عملية تتم وفق الأحكام الشرعية المتعلقة بها.


(١) انظر البخاري كتاب المناقب، رقم ٣٣٥٣، ومسلم كتاب الفضائل، رقم ٤٤٨٧.
(٢) رواه أبو داود كتاب الأطعمة، رقم ٣٢٦٢.
(٣) انظر في المعنى اللغوي: لسان العرب مادة عرض ومادة برى.
(٤) الأحكام السلطانية، ص١٧.
(٥) الأحكام السلطانية، ص ٣١.
(١) أخرجه مسلم كتاب المساجد، رقم ١٠١٩ واللفظ له، والبخاري كتاب المواقيت، رقم ٥٣٠.
(١) وهذا فيه قدر عظيم من عدم الدقة أو الصواب؛ إذ إن المعلن من المنهج ما هو إلا خطوط عامة، أما التفصيلات الكثيرة فيكاد لا يعلم بها أحد، وحتى لو كانت التفصيلات معلومة عند الاختيار فإنه تَجِدُّ أمور كثيرة أثناء الحكم؛ فتتخذ الحكومة أو المجلس التشريعي إزاءها مواقف لم تكن من قبل؛ فكيف يكون ذلك مُوافَقاً عليه من الناس وهو لم يكن موجودا أثناء الاختيار؟
(٢) قد يستثنى من ذلك بعض الحالات كالمخاطر العظيمة التي تشمل المجتمع جميعه، فتتعاون الحكومة والمعارضة لدفع تلك النازلة أو تكوين حكومة ائتلافية، وذلك ريثما يزول ذلك العارض، ثم يرجع كل واحد إلى حاله الأول؛ فهي حالة استثنائية وعارضة للتعاون وليست الأصل، وقد تنتهز المعارضة الفرصة في هذه الحالة وتضغط على الحكومة من أجل إسقاطها والحلول محلها، فيكون الحرص على الوصول إلى الحكم مقدماً على مساعدة المجتمع للخروج من النازلة التي ألمت به.
(٣) في كثير من الأحيان تكون تلك الأغلبية ظاهرية وليست حقيقية؛ فهي ليست أغلبية من يحق لهم الاختيار، وإنما هي أغلبية من شاركوا في الاختيار، وفي كثير من الأحيان لا يتجاوز من يشاركون في الاختيار نصف عدد من يحق لهم المشاركة فيه.
(١) الأحكام السلطانية، ص ٢٤٧.
(٢) مجموع الفتاوى، ١١/ ٥١٠.
(٣) مجموع الفتاوى، ٢٨/ ٦٩.
(١) تحطيم الصنم العلماني، محمد بن شاكر الشريف، ص ٥٨ وانظر في ضوابط تلك الطرق والوسائل حتى تكون مشروعة، ص ٥٩ من المرجع المذكور.
(٢) مجموع الفتاوى، ٢٦/ ١٧٢.
(٣) انظر الأحكام السلطانية للماوردي، ص ٨٤، ولأبي يعلى، ص ٧٦.