للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الصفويون الجدد في العراق والدعوة لإخراج العرب]

ربيع الحافظ

على الرغم مما وصل إليه تدهور العلاقات بين الدول العربية خلال العقود الأربعة الماضية، وطافت شوارع العواصم العربية المظاهرات؛ فإنه لم يحصل أن ألقى نظامٌ اللومَ على شعب عربي، بل التخوين والاتهامات الجاهزة كانت دائماً من حظ الأنظمة والزعماء؛ هذا فضلاً بالطبع عن أن يتبادل شعبان عربيان الشتائم والسباب، وإذا كان لهذه الأنظمة القهرية من حسنة يذكرها التاريخ فهي عدم إقحام الشعوب في خلافاتها وتبرئتها من خيانات أنظمتها، لا بل المبالغة أحياناً في استقطابها بالمنح الدراسية والتأشيرات والإقامات نكاية بحكوماتها.

إلاَّ أن ما شاهده العالم على شاشات التلفزيون من مظاهرات في مدن عراقية ذات أغلبية شيعية ترفع لافتات تصف الشعب الأردني ـ وليس حكومته ـ بأقذع الصفات، شيء غير مسبوق في علاقات الشعوب العربية، لا بل في علاقات الشعوب بشكل عام.

الأزمة ابتدأت بتقرير صحفي غير موثق يحمّل مواطناً أردنياً مسؤولية العملية الانتحارية التي جرت في مدينة الحلة وأودت بحياة أكثر من مائة عراقي، ثم تبين عدم دقة التقرير.

لو افترضنا ثبوت هوية الجاني، فلماذا يُرفَع شعار طرد العرب من العراق؟ وما علاقة الشعب الأردني والعرب بالأمر؟ ثم منذ متى تقوم الحكومات العربية بتجنيد انتحاريين وإرسالهم لزعزعة مشاريع أمريكا في المنطقة؟

كم تساءل الشارع العربي ومعه الشارع المسلم بحيرة وسذاجة، عن سر اختلاف هذا الشارع مع الشارع العربي في موقفه من حدث كالاحتلال الأمريكي، ومن المقاومة العراقية، ولماذا يُقتل المتطوعون العرب برصاص (ميليشيات بدر الشيعية) ، في الوقت الذي كانت تقوم فيه الأمهات العراقيات بطهي وتقديم الطعام لهؤلاء المتطوعين في مواقعهم في شوارع بغداد، وتضميد جريحهم، أو (القيام على قبور شهدائهم وتلاوة الفاتحة على أرواحهم وحتى هذه الساعة؟

هذا الشارع الذي يطالب بطرد العرب من العراق اليوم، هو الذي ألغى بالأمس القريب انتماء العراق «الحر» للأمة العربية تماشياً مع رغبة المشروع الشعوبي للفصائل الكردية، وأتباع ذوي الميول الشيعية الصفوية، وهم الذين ضاقوا ذرعاً بالحلية العباسية لعاصمة الرشيد، فراح وسط عنفوان فرحته بسقوطها يضع أسماءه المحببة بدلاً من أسماء خلفاء بني العباس التي تطلق على أحياء بغداد ودور المعرفة فيها.

أما زال للصمت متسع؟ أم نقول: ما أشبه المظاهرات المطالبة بطرد العرب من العراق اليوم بالمظاهرات «والدبكات» التي تنظمها الشبيبة الصهيونية وسط نشوة النصر مع سقوط كل مدينة فلسطينية، ورفع الصوت بطرد العرب من أرض الميعاد؟

إن من الإجحاف الكبير دمغ شيعة العراق بدمغة الشعوبية من دون تمييز، ولكنه ليس من الصعب الوقوع في هذا الخطأ أمام ما تطلق عليه نخب المثقفين الشيعة العرب العراقيين بـ «التيار الصفوي» وأطقمه من «المستوطنين» الذين هم فُرس يتقنون العربية، وينتحلون أنساباً عربية، ويحملون الجنسية العراقية، لكنهم فارسيو الهوى صفويو المعتقد الأيديولوجي. هذا التيار هو الذي يدير المشهد الشيعي في العراق، ويتحكم بالحوزة وبمؤسسة الفتوى الفقهية والسياسية.

الحال يقترب من الطرفة عندما نكتشف أن أعداداً من «المستوطنين» شغلوا مواقع أمنية وحزبية في النظام السابق، ولم يكتشف رفاقهم العرب حقيقة أمرهم إلا لحظة وصول الدبابات الأمريكية إلى مشارف بغداد.

التيار الصفوي في العراق أقلية أيديولوجية في الوسط الشيعي، وهو في الوسط العربي العراقي أقلية ديموغرافية وأيديولوجية في آن واحد، وفي المحيط العربي الواسع قطرة، وهو بذلك مدرسة سياسية لا حظوظ لها في التمكين المحلي والإقليمي من غير مؤثر خارجي دولي يقلب الموازين.

لعل بصيص الأمل السياسي الوحيد لهذا التيار خارج موطنه إيران منذ قلب المغول لموازين القوى في المنطقة ودخولهم بغداد كان في تقسيمات سايكس ـ بيكو، التي منحته واقعية عددية على الخريطة السياسية، وجعلت منه أقليات كبيرة في بعض البلدان، لذا فهو يستمد روحه من واقع التقسيم، ومن العزلة عن المحيط العربي، ومن التدفق الديموغرافي من إيران صوب العراق، ومن كل ما يحفظ ديموغرافيته المكتسبة، ولا يخوض جولاته السياسية إلا بورقة واحدة هي الأغلبية، التي ثبت بطلانها أمام أول اختبار في الانتخابات الأخيرة حين تبين أن أصواته لم تتجاوز ٤ ملايين من أصل ١٤.٥ مليوناً ممن يحق لهم التصويت، أي أقل من ٢٨% من مجموع السكان! مقابل ٨ ملايين صوت امتنعت عن التصويت هم أهل السنة، ومع ذلك سُلِّم شأن العراق العربي ذي الغالبية المسلمة السنية الساحقة إلى غيرهم.

اختلاف هذا الشارع مع الشارع العربي في قضية احتلال العراق هو طفح جلدي لداء اسمه الشعوبية يعود ويظهر كلما اشتد الداء، وقد ظهر في حقبة مشاريع الوحدة والتقارب العربي، وفكرة توطين الفلسطينيين في العراق، ومنح الجنسية العراقية للعائلات الفلاحية المصرية التي أتت إلى العراق في السبعينيات وفق برنامج حكومي، وكلها مشاريع تؤول إلى ذوبان الديموغرافية المكتسبة.

هذا التيار هو الذي أقنع العالم أنه أغلبية مقهورة، وجلب جيوش الروم لاحتلال العراق بهذه الحجة، وأسقطه بـ (التكتيك الطوسو ـ علقمي) ، وقد كان له دور مشابه ـ لمن يقرأ التاريخ ـ في احتلال بغداد الثاني في عام ١٩١٧م.

للمشهد العراقي أكثر من عنوان صحيح: العراق العباسي المسلم العربي في مهب الريح الشعوبية ... السقوط الثالث لعاصمة الرشيد وعودة الصفويين ... البصرة والكوفة مهدا النحو العربي تتحدثان الفارسية، العراق قاعدة متقدمة للتشيع الصفوي في العالم العربي.

أياً كان هذا العنوان؛ فهنيئاً للصهاينة بالعراق الجديد، والتهنئة موصولة للأنظمة العربية التي حاصرت العراق اقتصادياً ثلاثة عشر عاماً ومنعت نفاذ رغيف الخبز حتى سقط منهكاً جائعاً بيد الأمريكان.


(*) كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.