للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مصر الجائزة (٢)

د. عبد العزيز كامل

رياح التغيير

مشاريع بلا مشروعية.. ومشروعية بلا مشاريع

لأول مرة بعد انتهاء العهد الاشتراكي في مصر، تبدو الولايات المتحدة الأمريكية راغبة في إجراء تغيير حقيقي في ذلك البلد، وهو ما يدخل ضمن التوجه نحو التغيير الجذري في المنطقة كلها. والتغيير الذي ترمي إليه الولايات المتحدة قد لا يكون عاجلاً، ولكنها تريده شاملاً ومفتوحاً على النواحي السياسية والثقافية والإعلامية والتعليمية. وقد وقع الاختيار على مصر ـ كما تشير التطورات والتصريحات ـ لتكون محوراً لبناء نظام عربي جديد، يتواءم مع النظام العالمي الجديد، القائم على هيمنة أمريكية على المستوى الدولي، وهيمنة إسرائيلية على المستوى الإقليمي.

وهذا التغيير، لن يكون كله بالضرورة في ظل المرحلة الراهنة، بل إن المؤشرات تشير إلى توجه نحو إنشاء أو تقوية جهات أو منظمات أو أحزاب علمانية أو ليبرالية جديدة تقبل التعامل المباشر مع الأوامر العليا والتوجهات الخاصة للولايات المتحدة، دونما تحرج أو استحياء. وهناك العديد من منتديات وفعاليات العمل السياسي، تعرض نفسها للقيام بهذا الدور، وقد تشجعها أكثر تلك الإشارات التي بعثت بها الولايات المتحدة عن طريق وزيرة خارجيتها كوندليزا رايس، حيث طلبت من لجنة بالكونجرس الأمريكي أن تدرس تحويل المعونة الأمريكية السنوية التي تتسلمها الحكومة المصرية منذ إبرام معاهدة السلام مع (إسرائيل) والبالغة ملياري دولار، إلى منظمات المجتمع المدني والفعاليات السياسية المتطلعة إلى التغيير، وهو ما سيدفع ـ إن حدث ـ تلك الأحزاب والمنظمات المدنية إلى التنافس فيما بينها لاسترضاء أمريكا لأجل الحصول على حصتها من هذه (المعونة) .

إلا أن التغيير المرجو عن طريق تبني قوى جديدة، قد يستغرق وقتاً؛ ولهذا فإن الخيارات الأمريكية تظل محدودة في الوقت الحاضر، وهو ما يفسر التضارب بين إشاراتها بتبني هذه الجهة أو تلك، في المرحلة الحالية.

وأياً كانت الرهانات الراهنة للموقف الأمريكي؛ فإن الولايات المتحدة تريد أن تضمن استمرار وتطوير مصالحها التي ظلت تجنيها منذ التحول المصري إلى المعسكر الغربي بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م، وإبرام معاهدة السلام مع الدولة اليهودية. وهذه المصالح تتلخص في:

١ - الحفاظ على نظام علماني خالص، قوي أمنياً، وضعيف اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، بما يضمن بقاء مصر بعيدة عن احتمال التحول إلى طليعة نهضة إسلامية أو عربية من أي نوع: اقتصادي أو سياسي أو عسكري أو حتى اجتماعي.

٢ - استمرار الأوضاع الضامنة لأمن (إسرائيل) ، بحيث لا تصل أي قوة إلى السلطة تنقض ما فرضته الولايات المتحدة من (سلام) ثنائي راهنت أمريكا ـ ولا تزال ـ على تحويله إلى استسلام عام يحول دون الوقوف أمام مشاريع الهيمنة الإقليمية الإسرائيلية.

٣ - الإبقاء على الدولة المصرية، شريكاً فعالاً في حرب أمريكا العالمية على ما تسميه بالإرهاب، وهي الحرب التي يُنتظر من النظام القادم في مصر ـ أياً كان ـ أن يقوم بدور بارز فيها على المستوى الإقليمي لفترة ربما تطول، لشمول هذه الحرب، وكونها تستهدف تغييراً عميقاً في بنية الشعوب العربية، لا يقوى على التعاون الفعال فيه إلا بلد مؤثر كمصر.

٤ - استمرار الاستفادة من إمكانات مصر الاستراتيجية، جغرافياً وعسكرياً لخدمة مشروعات الهيمنة العالمية لأمريكا، والإقليمية لـ (إسرائيل) .

٥ - ضمان الإبقاء على حالة العجز والوهن العربي والإسلامي الراهن، الناتج عن عزل دول الريادة ـ ومنها مصر ـ بعضها عن بعض، وإشغالها بهموم داخلية وقضايا هامشية تأخذها بعيداً عن أي تحرك فاعل تجاه أي تطورات جادة تطرأ في المنطقة في المستقبل المنظور: (السودان ـ سوريا ـ لبنان ـ ليبيا ـ دول الخليج ـ اليمن) .

ولكن أكثر الناس في مصر ـ فيما يبدو ـ تستغرقهم تفاصيل اللحظة، وربما غاصوا في فرعيات وجزئيات تلهيهم عما وراء التحرش الأمريكي الذي تحركه نوازع الهيمنة الإمبراطورية التي تضع مصر في قلب حركة التغيير ضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير، وهو المشروع الذي لن يقوم إلا على ذلك التحالف غير المقدس، بين العلمانيين وأعداء المسلمين.

- العلمانية في المشهد المصري الراهن:

ألقت مأساة غزو العراق أول حجر في البِِركة السياسية الراكدة في مصر، مثلما ألقتها في بِرك عربية عديدة أخرى، حيث حركت تلك المأساة الضمائر وأيقظت المشاعر ليتساءل الناس: ما الذي أوصلنا إلى هذا الدرك الوضيع..؟ وما السبب في تتابع الهزائم في ظل أنظمة جاءت لأجل التحرر والاستقلال؟ وهل هذه الأنظمة مستقلة حقاً؟.. وهل كانت مشاركتها في صنع هذا الهوان مشاركة اضطرار أم اختيار؟! وهل كانت كلها في غفلة نائمة ... أم أن بعضها كانت في يقظتها خائنة؟ وهل استفادت واعتبرت.. أم أنها تمادت واغترت؟! هل هناك متسع للتدارك والإصلاح والتغيير ... أم كل ذلك لا يُنتظر إلا على يد الغير؟!

وقد أضافت ضغوط المشكلات في الداخل ـ في مصر وغيرها ـ جرعات من الشعور بالضيم تجاه التحديات من الخارج، فأصبحت كل التساؤلات تؤول إلى التنادي بالتغيير والتطلع للإصلاح. وصادف هذا تنادياً وتطلعاً أمريكياً إلى «الإصلاح» والتغيير، ولكن وفق برامج معادية في أجندة مغايرة، عرف الجميع الآن معالمها الرامية إلى تغيير القيم وتوطين الوهن.

ولكن طرفاً ثالثاً وجد في شعار الإصلاح والتغيير مناسبة سانحة للقيام بدور ما، وهذا الطرف هو قوى العلمانية المهمشة، التي لم تجد طريقها بعد إلى القوة والسلطة، وهى قوىً؛ بعضها هرمة تجاوزها الزمن، وبعضها فتية تراهن على تقلبات الزمن. وبين هذه وتلك، لا يكاد المرء يرى اهتماماً بما وراء شعارات الإصلاح والتغيير الأمريكي ـ مما سبق ذكره ـ ولا يكاد يسمع حديثاً عن الهوية المستهدفة لهذه الأمة باسم ذلك الإصلاح والتغيير وهي الهوية الإسلامية.

في مصر الآن ٢١ حزباً رسمياً، ونحو ١٥ حركة سياسية غير رسمية، كلها تنادي بالتغيير والإصلاح، والغالب عليها كلها، أنها ذات منطلقات علمانية، ليبرالية أو يسارية أو ناصرية أو قومية أو شيوعية، وكلها ـ باستثناء حزب العمل والإخوان المسلمين ـ يعملون للوصول إلى السلطة القادمة أو المشاركة فيها لصنع المتغيرات، بنَفَس علماني، وفكر لا ديني، مع أن هذا التيار العلماني يعلم علم اليقين، أنه مجرد «تيار» يسير عكس طوفان بشري لا يزال مخلصاً لدينه، متشبثاً بشريعته، راغباً في حمايتها والحياة تحت مظلتها، غير رهَّاب من إرهاب الحرب الأمريكية، ولا هيَّاب من مواجهة خطتها التغييرية الشريرة التي تستهدف فرائض الشريعة وثوابت العقيدة وأمهات القيم والأخلاق، إضافة إلى استهداف كل ثمين وغالٍ قي الثروات والمقدرات.

إننا أمام منظومات فكرية علمانية جديدة، لا ندري ماذا ستفعل في المرحلة المقبلة، إلا أننا نعلم أن أمثالها درج على امتداد عقود متطاولة مضت ـ في مصر وغيرها ـ على احتكار السلطة، والاستئثار بالثروة، والانتداب لتحديات ليست لها ولا أهلها، مع إصرار فظيع على (نفي الآخر) إذا كان إسلامياً، وعدم القبول بـ (التعددية) مع أي توجهات دينية، وهي منظومة طالما مارست (الإرهاب) بكل معانيه الجسدية والنفسية والفكرية، مع كل الاتجاهات الإسلامية، التي لم تحظ يوماً بكامل (حقوق المواطنة) أو أقل فرص (حرية التعبير) أو أدنى حدود التمتع بما تكفله ـ حتى الدساتير العلمانية ـ من حرية تكوين الأحزاب وإنشاء الجمعيات والمنتديات والصحف والمجلات.

ونحن أمام حراك حقيقي في مصر، ولكنه قد يكون حراكاً نحو مزيد من الخصومة بين الدين والسياسة، ومن ثم بين السياسة ومصالح الأمة، إذا استمر هذا الحراك على صورته الحالية، شبه الخالية من المشروعات التغييرية الإسلامية التي تعكس القدر الحقيقي لثقل مصر الإسلامي.

إن الليبراليين والعلمانيين ـ في مصر وغيرها ـ أصبحوا من حيث يدرون أو لا يدرون، واقفين في خندق واحد مع الموقف الأمريكي المعادي للأمة، والذي ينطلق من رؤى هنتنجتون وفوكوياما، وبرنارد لويس التي تعد الإسلام هو «الأيديولوجية» الوحيدة القادرة على الوقوف في وجه المنظومة الفكرية الغربية في صيغتها وصبغتها الإمبريالية الأمريكية. وهؤلاء الليبراليون والعلمانيون الذين ينحازون اليوم إلى المنظومة الفكرية الغربية في تجلياتها الأمريكية، لن يجدوا تجسيداً لهذا الانحياز إلا بالوقوف في وجه التوجهات الإسلامية نحو العودة إلى الهوية؛ ذلك أن مناطحة الإسلام اليوم ـ كما كانت بالأمس ـ تسير على محورين: أحدهما: محاولة الإخضاع السياسي والأمني، وهي ما أسمته أمريكا الآن (حرب الإرهاب) . والثاني: هو محاولة الاختراق الفكري والقيمي، عبر ما أسمته أمريكا أيضاً (حرب الأفكار) .

لا شك أن هناك طوائف وطوابير لن تتردد في الوقوف خلف برامج الحرب الأمريكية، بشقيها، دون أدنى تحرج أو حياء (كما حدث في أفغانستان والعراق) ، وهنا سيحتاج الأمر إلى رفع شعارات خادعة، تتغنى بالإصلاح وتمني بالتغيير.

- العلمانيون و «الإصلاح» : إجماع المختلفين:

بالرغم من أن الغرب يصنف مصر ضمن النظم العلمانية، وبالرغم من أن الممارسات القولية والعملية منذ إلغاء المحاكم الشرعية عام ١٩٥٤م لا تنفي ذلك؛ فإن هناك جيلاً من العلمانيين غاضب على ما يعتبره مسلكاً مهادناً للدين؛ فهم يريدونها علمانية متطرفة تعلن الحرب على الدين ولا تتسامح مع نشاط المتدينين، كعلمانية أتاتورك أو عبد الناصر.

ومن العجيب أن الأطياف العلمانية في مصر، تختلف فيما بينها حول أمور جوهرية كثيرة، إلا أنها تكاد تتفق على استبعاد الإسلام من أي برنامج إصلاحي.

وفي الأجواء المحمومة المنادية بالتغيير في الآونة الأخيرة، انبرى الشيوعيون اليساريون الذين يحظون دون الإسلاميين بحزب رسمي معترف به للآن في مصر الإسلام؛ للمناداة بـ (الإصلاح) وأصدروا في ذلك مبادرة تتضمن ستة بنود: ثلاثة منها تتعلق بقضايا: (تجديد الخطاب الديني) و (حقوق النساء) و (التجديد الثقافي) والباقي عن الإصلاح السياسي والاقتصادي والعلاقات الدولية. وحديثهم عنها ـ لمن تأمل ـ هو مجرد صدى شيوعي مهزوم، لدعوات الإصلاح الأمريكي المزعوم.

وما يهمنا هنا من هذه المبادرة، هو البنود الثلاثة الأولى، حيث يتساءل المرء: ما عسى أن يكون «الإصلاح» الشيوعي في قضايا مثل: تجديد الخطاب الديني، وحقوق المرأة، والتجديد الثقافي؟! وهم الذين أجرموا في حق الأمة ـ في مصر وغيرها ـ بشأن تلك القضايا على وجه الخصوص؛ إنهم ـ وفيما يتعلق بتجديد الخطاب الديني ـ ينادون بـ «تجديد المضمون الديني» نفسه لكي يصبح ـ كما تنص مبادرتهم ـ قادراً على تنشيط الاجتهاد الإنساني في تفسير وتأويل النصوص. وينادي اليساريون أيضاً بـ «حرية العقيدة» التي تعني عندهم: «رفض أي تمييز على أساس الدين» وتعني: «التمسك بالطابع المدني للنظام والحكومة المدنية و (التشريع المدني) وهو ما يعني صراحة: استبعاد الدين عن النظام والحكومة والتشريع؛ فهذا هو المقصود بتعبير (المدني) في الخطاب اللاديني، وكأن هذه المعاني غائبة حتى يطالبوا باستدعائها.

أما بالنسبة لما وصفوه بـ (حقوق النساء) فإن اليساريين ـ باسم الإصلاح ـ ينادون بتنقية قوانين العقوبات والإجراءات الجنائية (الوضعية) وكذلك تشريعات الأحوال الشخصية مما أسموه بـ «قيم الثقافة الرجعية المعادية للنساء» !

وينعى اليساريون الطامحون إلى حكم مصر أو المشاركة في حكمها من جديد، على من وصفوهم بـ «الظلاميين المتسترين بالدين» أنهم ينظرون إلى المرأة على أنها عورة، في مقابل نظرة «الانفتاحيين» من غير الشيوعيين، الذين ينظرون إليها على أنها سلعة. وفي الحالتين ـ كما تقول المبادرة ـ يجري قهر المرأة معنوياً وجسدياً وقانونياً. وتخلص المبادرة إلى ضرورة مساندة الحركة النسائية المصرية، من أجل: «تعديل فلسفة التشريع» وإصدار قانون جديد يساوي بين الرجل والمرأة في الميراث وفي المناصب العامة، بما فيها بالطبع، الولاية العامة!

أما في المجال الثقافي، فهم ينادون ـ في لمز واضح بالصحوة الإسلامية ـ بتضييق الفجوة بين النخبة المبشرة بالعقلانية والمنهج النقدي، وبين القاعدة الشعبية، ويطالبون بالحد من «ثقافة التخلف» التي روجت لها «مطبوعات الرصيف الرخيصة» وكذلك: «ثقافة التعصب والكراهية التي شقت لنفسها مجرى عميقاً في نسيج المجتمع» . وطالب اليساريون بوضع خطة شاملة لمقاومة ما أسموه «ثقافة التخلف» ونقد ومواجهة «كل ما هو قائم على تخلف ورجعية، بفضح آلياته، وخاصة في وسائل الاتصال الجماهيري» ونادوا برفع «كل الخطوط الحمراء» عن حرية الثقافة والإبداع الأدبي والفني والعلمي. والسؤال هنا: هل هذه مبادرة إصلاحية، أم جولة «إعادة» ثأرية مع الصحوة الإسلامية؟ وما الفارق بين هذه البرامج والشعارات الشيوعية، وبين ما تطرحه برامج «الإصلاح» الأمريكية..؟!

لم ينسَ الشيوعيون واليساريون الذين تجاوزهم التاريخ وقزَّمتهم الجغرافيا، أن يُضمِّنوا خطتهم للإصلاح أطروحات وشعارات «ثورية» ، تحاول تذكير الناس بأنهم شيء مختلف عن «عملاء أمريكا» ، مثل: دعم المقاومة.. تفعيل المقاطعة.. تطوير الجامعة العربية.. النهوض بالتنمية.. بعث (الوحدة) العربية.. إلخ، وهي كلها شنشنة نعرفها من أخزم، الذي ملك فأضاع.. وحكم فظلم.. وحارب فانهزم.

لا تزال لهؤلاء منابرهم (الرسمية) ولا يزالون ـ دون سائر الإسلاميين ـ مسموحاً لهم، بأن يمارسوا السياسة على أعلى مستوياتها، من خلال حزب وصحيفة ودعم حكومي.

هذا عن العلمانية اليسارية.

أما العلمانية الليبرالية (١) ، التي تحاول احتكار شعار (الإصلاح) ؛ فإن الليبراليين يعبِّرون عن هذا عن طريق نشاطهم الحزبي أو الفردي، وهناك خلافات بينهم؛ فمنهم من يعتقد أنه سيكون له الدور الرئيس في قيادة الدفة من خلال «الليبرالية الجديدة» التي تتبناها أمريكا الآن في العالم الإسلامي، وهناك من يعتقد ـ كحزب الوفد الليبرالي القديم ـ أنه صاحب أكبر تجربة علمانية حكمت مصر حكماً ليبرالياً في العهد الملكي.

وهناك تيارات علمانية أخرى مثل مركز ابن خلدون للدراسات، الذي يترأسه الدكتور سعد الدين إبراهيم. ولهذا المركز دور مشبوه تقف وراءه دون مواربة الولايات المتحدة الأمريكية؛ فهو يقوم بتكليف منها بتنظيم ملتقيات تهدف إلى إرساء ما أسموه (الإسلام التنويري) يشارك فيها مفكرون متهمون في دينهم، ويطلقون على أنفسهم وصف (الإسلاميين التنويريين) من أمثال سيد القمني، وجمال البنا، ومحمد شحرور، ومحمد عبد الكريم، وغيرهم؛ حيث تتركز طروحاتهم حول العديد من أفكار الزندقة الواضحة، كاللمز في الرسالة، والتشكيك في الوحي، والطعن في الصحابة، وتجهيل علماء الأمة، وتشوبه التاريخ، ويطالب هؤلاء بوضع أطر جديدة لما يوصف بـ (تجديد الفكر الديني) و (مراجعة التراث الإسلامي) ، ليكون ذلك فتحاً لباب «الاجتهاد حسب المتغيرات» . وتمخضت لقاءاتهم عن دعوات جريئة لـ «تغيير الإسلام» من الداخل، تطبيقاً لما جاء في تقرير (دولارات وعقول وقلوب) ، فصدرت عنهم دعوات مباشرة لإيقاف الجهاد وإلغاء الحجاب وحد الردة بدعوى (مناقضتها للشريعة) . ومن المشروعات الفكرية لسعد الدين إبراهيم إيجاد تيار إسلامي يقتصر على القرآن فقط دون السنة، وهو ما دعا إليه تقرير معهد (راند عن الإسلام المدني الديمقراطي) .

وقد أعلن سعد الدين إبراهيم نيته ترشيح نفسه لمنصب رئاسة الجمهورية في نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠٠٤م، ولكنه تراجع بعد الشروط التعجيزية التي فرضها تعديل المادة ٧٦ من الدستور، والتي فُرغت من مضمونها لضمان عدم إيجاد فرص لأحد من خارج الحزب الوطني للمنافسة في منصب الرئاسة.

ولا شك أن (نموذج) سعد الدين إبراهيم، أحد الخيارات الأمريكية في المرحلة المقبلة، وهو وإن تقلصت فرصته شخصياً في الرئاسة؛ فإن المجال مفتوح أمامه لتفريخ المزيد من الكوادر العلمانية القادرة على التأثير مستقبلاً من خلال ما يلقاه من دعم مادي ومعنوي لمركز الأبحاث التابع له.

وما يقال عن سعد الدين إبراهيم، يقال قريباً منه ـ من حيث النموذج ـ عن نوال السعداوي، التي أعلنت منذ مدة أنها سترشح نفسها للرئاسة، إلا أن أحلامها تبخرت، وبقي من ذاكرة هذه الأحلام أن الدستور المصري لا يمانع من أن يكون منصب الرئاسة لامرأة، لا تملك من مؤهلات الولاية الشرعية أي شرط!

وبالمناسبة فإن هذا الدستور لا يضع قيوداً على أن يتولى الرئاسة أشخاص معارضين صراحة وعلناً لشريعة الإسلام، من أمثال رؤساء الأحزاب اليسارية والشيوعية، الذين لا يمنعهم من التقدم لمنصب الرئاسة إلا قلة المؤيدين!

وقد برز في الآونة الأخيرة من بين الليبراليين اسم الكاتب الصحفي (أيمن نور) الذي استطاع بعد حصوله على الموافقة القضائية أن يؤسس (حزب الغد) منشقاً بذلك عن حزب الوفد العلماني الليبرالي القديم، وقد انفصل أيمن نور عن الوفد بعد وفاة زعيمه فؤاد سراج الدين، واختلافه مع الزعامة الجديدة للحزب، وقد انحاز إليه فريق من شباب حزب الوفد، وتصاعد نجمه بعد أن أعلن عزمه على الترشيح لرئاسة الجمهورية، ولم يجد الحزب الحاكم وسيلة للحد من لمعانه إلا باتهامه رسمياً بتزوير مئات التوكيلات لتأسيس حزبه، وبالرغم من أن هذه التهمة تقدح في (الشرف) الديمقراطي؛ فإن الولايات المتحدة الأمريكية تعاطفت معه بشكل رسمي؛ حيث تكررت تصريحات الخارجية الأمريكية بضرورة الإفراج عنه، وقابلته كونداليزا رايس خلال زيارتها للقاهرة، وكذلك تعاطف معه الاتحاد الأوروبي وعدَّه رمزاً من رموز الإصلاح في مصر؛ هذا مع أن كلاً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي صمتا صمت القبور عن اعتقال رموز إسلامية لمجرد الإعلان عن تنظيم مظاهرات سلمية، بل خرست كذلك عن مجرد التنديد باعتقال المئات بل الآلاف في بعض تلك المظاهرات التي سقط فيها قتلى.

قد يكون أيمن نور شخصاً عادياً لا يحمل مؤهلات الزعامة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ مصر، ولكن متى كان الزعماء في بلاد العرب والمسلمين يحملون تلك المؤهلات في كل الحالات؟

لقد طرح أيمن نور شعاراً مضاداً لشعار الإسلاميين في مصر: (الإسلام هو الحل) .. فأطلق شعاراً مخالفاً هو (الليبرلية هي الحل) ! والوصف الرسمي لحزبه هو (حزب الغد الليبرالي) . ومن غريب اهتمامات أيمن نور أنه درس تفاصيل العمل الإسلامي، من خلال رسالته في الماجستير عن نشاط الجماعات الإسلامية في مصر، من عام ١٩٨٠ إلى ١٩٩٠م، وهو ما يجعله خصماً عليماً للإسلاميين، إذا ظل على عصبيته الليبرالية، وهو لا يخفي اختلافه الجذري معهم؛ فقد قال في لقاء مع صحيفة نيوزويك الأمريكية: «ليس بيننا وبين الإسلاميين شيء مشترك، ولن نشكل تحالفاً معهم» وقال: «إن الإسلاميين لن يصعدوا أبداً إلى السلطة في مصر، حتى لو كانت هناك ديمقراطية» !

وقد حرص على إدخال السرور على الأمريكيين بإسماعهم ما يحبون فقال: «إذا أصبحت رئيساً للبلاد، فسوف يتوقف المصريون عن الحديث عن المسائل التي لا تمت لمصر بصلة» وقال: «لقد أهدرنا ٧٥% من وقتنا نتحدث عن العراق وفلسطين» !

أياً كان المستقبل السياسي لأبرز المنافسين في الرئاسة حتى اليوم ـ أيمن نور ـ فإن احتفاء الأمريكيين والأوروبيين به؛ يعطي إشارات لا ينبغي إغفالها عن المستقبل الذي تريده أمريكا لمصر، ومن ثم للعالم العربي كله.

- التغيير.. نعم.. ولكن!

إضافة إلى الواحد وعشرين حزباً رسمياً؛ يتتابع في الآونة الأخيرة الإعلان عن حركات عديدة تنادي بالتغيير، والقاسم المشترك بينها، أنها تريد تغيير الوجوه والسياسات التي (اكتفى) الناس منها في مصر، بعد نحو ربع قرن من الرتابة التي لا تلائم أبداً التسارع المذهل للتطورات في العالم على كل صعيد.

ولعل اتفاق غالبية الناس على هذا الاكتفاء، هو الذي أعطى للحركة المصرية من أجل التغيير المشهورة بـ (كفاية) ذلك القبول وتلك الشهرة داخلياً وخارجياً، فقد اختصرت في كلمة واحدة معانيَ تُملأ بها الصفحات وتطول البيانات، ولكن تلك الحركة مع ذلك لا تملك برنامجاً للتغيير، ولا تنوي أن تتحول إلى حزب، ولكنها مجرد ائتلاف من عدد من الأفراد المختلفين في التوجهات، على مطلب عدم التجديد أو التوريث. وقد اختارت الحركة (جورج إسحاق) أمين المدارس الكاثوليكية في مصر، منسقاً لها، وهي تضم في قيادتها أفراداً من اتجاهات شتى (ماركسيين ـ قوميين ـ ناصريين ـ نصارى ـ مستقلين ـ إخوان مسلمين ـ منشقين عن الإخوان المسلمين) ، وهو ما يدل على عدم وجود انسجام فكري بينهم، ومن ثم فلا برنامج لهم إلا مجرد الرغبة في التغيير.

في النهاية لن تكون حركة كفاية ـ رغم صوتها العالي ـ إلا مجرد صرخة أُطلقت في وادي الصمت، أو حجر أُلقي في بِركة الركود، ولهذا تتابعت بعدها الحركات المطالبة بالتغيير وتداول السلطة واستقلال القضاء وتعديل الحياة الحزبية وإلغاء القوانين الاستثنائية، فأُعلن عن حركة: (صحفيون من أجل التغيير) و (أطباء من أجل التغيير) و (المنظمات المدنية من أجل التغيير) و (شباب من أجل التغيير) و (مهنيون من أجل التغيير) و (فنانون من أجل التغيير) ، و (الحملة الشعبية من أجل التغيير) .

ثم نشأت تحالفات بين بعض الأحزاب والحركات، منها: (التحالف الوطني من أجل الإصلاح) وهو تحالف دعا إليه الإخوان المسلمون، وهدفه ممارسة الضغط السلمي للاستجابة لمطالب الإصلاح، وقد رفضت أغلب الأحزاب الرسمية الاشتراك في هذا التحالف إلا بتمثيل شخصي من بعض أعضائها، دون الانضمام بصفة حزبية رسمية، وأصبح مفهوماً أن التباعد العلماني يهدف إلى إضعاف هذا التحالف الذي جاء بمبادرة من طرف إسلامي، وهو ما يؤشر إلى استنكاف غالبية العلمانيين عن مجرد التعاون في المتفق عليه مع الإسلاميين، وهو ما يثير الشك في جدوى الدعوى التي دعا إليها الكاتب المشهور (فهمي هويدي) إلى ضرورة إنشاء (حلف فضول) بين الإسلاميين والعلمانيين!

ومن التحالفات التي أُعلن عنها مؤخراً أيضاً: (التجمع الوطني للتحول الديمقراطي) وأبرز رموز هذا التجمع رئيس الوزراء المصري الأسبق (عزيز صدقي) الذي شغل هذا المنصب في عهد عبد الناصر، ومن رموزه أيضاً وزير الإسكان الأسبق (حسب الله الكفراوي) وأستاذ القانون (يحيى الجمل) ، ويهدف هذا التجمع إلى فتح الباب أمام التحول الديمقراطي في مصر، وهي دعوة تجيء متزامنة ومتناسبة مع الدعوات التي أُطلقت من الولايات المتحدة بضرورة قيادة مصر للتحول الديمقراطي في المنطقة العربية. لكن أهم ما ينوي هذا التجمع فعله، هو تشكيل لجنة للاتصال بمختلف القيادات والقوى السياسية المصرية لعقد مؤتمر وطني عام تكون مهمته صياغة دستور جديد للبلاد.

الغالب إذن على هوية تلك التجمعات ومطالبها، هو الطابع المدني الدنيوي الجاف، وهو طابع قد تكون فرضته طبيعة المطالب في هذه المرحلة، وغالبية الإسلاميين يقرون بهذه المطالب، ولكن المحذور هنا أمران:

الأول: التغافل عن الهوية الفكرية لغالبية الرموز الداعية للتغيير.

الثاني: عدم التساؤل عن نوعية هذا التغيير؛ فلم يقل أحد أن التغيير مطلوب لذاته، أو أن الإصلاح يحدث لمجرد وصفه بأنه إصلاح ... فالسؤال ينبغي أن يُطرح عن كل مفردة من مفردات ذلك التغيير، فإذا كان ثمة مطلب بتغيير الدستور مثلاً، فالسؤال هو: تغيير: إلى ماذا..؟ وعلى أية أسس، وبأية مرجعية وعلى يد مَنْ؟! فإذا كان الدستور القائم فاسداً؛ فقد يكون الدستور القادم ـ الذي تريده أمريكا ـ أفسد وأسوأ (مثلما يحدث في العراق وما حدث في أفغانستان) ! وأيضاً: إذا كانت هناك مطالبة بتغيير الوجوه والبرامج في هرم السلطة؛ فما هي الوجوه الجديدة وما هي برامجها في التغيير؟ فقد يبشر البديل (الجديد) بمستقبل غير سعيد. أيضاً (مثلما يحدث في العراق وما حدث في أفغانستان) !.. وهكذا يمكن أن يقال في العديد من المطالب الجوهرية في التغيير والإصلاح مثل (إصلاح الاقتصاد) و (إصلاح التعليم) و (الإصلاح الاجتماعي) فهل سيكون إصلاحاً بالفعل، أم أنه مزيد من الإفساد على طريقة الذين قالوا: {إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: ١١] في حين أن حقيقتهم كما قال الله: {أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: ١٢] ؟.

ومن الناحية الواقعية؛ فإن بعض البدائل المطروحة في ظل علمانية أو ليبرالية أو شيوعية أصحابها، هي بالفعل أسوأ، وهي بالفعل أفسد.

لكن: هل يعني هذا السكوت عن المطالبة بالإصلاح الحقيقي الآن ... ؟ بالطبع لا.. وبالقطع لا.. وإنما المطلوب هو أن يقترن باقتراحات التغيير؛ للبرامج أو على الأقل الضوابط المصاحبة لها، والتي ينبغي ألا تخرج عن ثوابت الدين الذي تدين به الغالبية الساحقة من الأمة، وإلا فإن كل حديث عن حكم الأغلبية واحترام رأي الأكثرية سيكون مجرد وهم أو هراء.

وهنا تبرز أهمية الموقف العام للإسلاميين مما يحدث في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ مصر، وهنا تتأكد أهمية بلورة طرح إسلامي واضح، إن لم يكن في برامج وبدائل التغيير والإصلاح. فعلى الأقل في مراقبة ضوابطها والأسس التي تُبنى عليها.

- لسنا تياراً.. بل نحن أمة:

لا يُعقل أبداً، ولا يليق مطلقاً، أن يظل المعبرون عن الأغلبية الصامتة من الأمة صامتين أيضاً، وأعني بذلك النخب الإسلامية من أهل العلم والدعوة، ورموز الفكر والثقافة والاختصاص من حملة المنهج الإسلامي؛ فهؤلاء هم في الحقيقة طليعة الأمة بحسب تصوراتنا الإسلامية، هم ولاة الأمر إذا مرج الأمر.. وهم أصحاب الفكر إذا شذ أو تضارب أو عُدم الفكر، وهم أهل المشروعية إذا فقدت المشروعية، ولذلك فهم الأوْلى بأن تكون لهم مشاريعهم التي تسندها مشروعيتهم، وهم الأوْلى بالعمل والنشاط والتحرك من كل أصحاب الاتجاهات المنحرفة في العمل والنشاط والتحرك. فإذا كان للشيوعيين واليساريين والقوميين والليبراليين ولسائر العلمانيين مبادراتهم أو برامجهم للإصلاح من منطلقات علمانية، وإذا كان للحزب الحاكم نفسه (استجابة للضغط الأمريكي) رؤيته أيضاً للإصلاح؛ فأين الصوت الإسلامي العام المعبر عن سائر الأمة في هذه الملمة..؟! وأين مشاريعه في التآلف والتحالف، وفي تقديم البرامج وتقويم المناهج؟

قد يُقال إن الإخوان المسلمين يتحركون.. والجواب أن الإخوان المسلمين، ليسوا كل المسلمين، مع الاعتراف لهم بفضل السبق في التحرك من بين الإسلاميين، وحفظ الحق لهم في التحدث وفق برامجهم ورؤاهم التكتيكية أو الاستراتيجية.

إن الإخوان المسلمين ـ مع ثقلهم في الشارع الإسلامي ـ ليسوا إلا فصيلاً من فصائل العمل الإسلامي، يمثلون طيفاً في شعاعه أو عرقاً في دماغه، ولهم ـ ما داموا على هذا ـ كامل الولاء ... وتام الانتماء للجسد الإسلامي العام. أما بقية الإسلاميين والمتدينين من فصائل أهل السنة في مصر ـ والإخوان معهم ـ فليسوا مجرد تيار، بل هم الأمة، والخارجون عن نهجهم العام من بقية الشعب ما هم إلا «تيارات» .. «تيار شيوعي» .. «تيار ليبرالي» .. «تيار ناصري» «تيار ساداتي» .. «تيار وطني» و.. «تيار قبطي» (١) «تيار قومي» .

إن عامة المسلمين وفي طليعتهم الإسلاميون العاملون هم جمهور الأمة في مصر، وهم الأوْلى بالرعاية والنظر في مطالب التغيير لو صدق الديمقراطيون؛ لأن هذا التغيير سينصب حولهم وسيقع عليهم وعلى أجيالهم؛ فمن غير المعقول ولا المقبول أن يفرض العلمانيون أو أحد تياراتهم عليهم واقعاً تغييرياً جديداً تحت ضغط التحرش الأمريكي، سواء كان هذا الواقع في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الإعلامي أو التعليمي أو الاجتماعي، ومن هنا تظهر دقة المرحلة، وخطورة المواقف العملية المتعلقة بها.

وبالنظر إلى أن الأمر جد ليس بالهزل، فلنا في ذلك الشأن عدد من الوقفات، أهمها:

أولاًِ: الموقف الأمريكي واضح ومحسوم في تجديد دماء العلمانية والليبرالية في مصر في السنوات والعقود المقبلة، لحساب أمريكا ومشاريعها في المنطقة؛ حيث لن ترضى أبداً بقبول «آليات» الديمقراطية دون «قيمها» التي هي نفسها «قيم» الحضارة الغربية ونمطها في الحياة، وإن استمرار الإعلاء من شأن هذه (القيم) في تجاهل مؤسف لمبادئ الشريعة المناقضة لها، يُعد ـ بقصد أو بدون قصد ـ مشاركة في إنجاح المشروع الأمريكي الهادف إلى محو الشخصية الإسلامية و (تغيير) الدين الإسلامي. والإسلاميون أوْلى الناس في هذه المرحلة باستقلال الشخصية ووضوح الهوية ومواجهة الهجمة الجديدة عليها.

ثانياً: لسنا ملزمين بأن نعد الديمقراطية ـ كأحد تجليات العلمانية ـ ركناً سابعاً في الإيمان، أو سادساً في الإسلام، وشدة انبطاح العلمانيين أمام هجمة الأمريكيين! لا تسوِّغ تحويل الديمقراطية عندنا إلى ما يشبه الفريضة الدينية؛ فبعض «قيم» هذه الديمقراطية المفروضة قسراً، مرفوضة عندنا قطعاً، بل مجمع على رفضها وتحريمها مثل «حاكمية الشعب» دون حاكمية الشريعة، وقبول الآخر «الكافر» بإطلاق إلى حد إيصاله إلى منصب الولاية العامة (٢) والمناداة بـ (التشريع المدني) المنافي للشرع الديني، حتى في الأحوال الشخصية، إلى غير ذلك من المخالفات.

ثالثاً: آليات الديمقراطية من الانتخابات والبرلمانات؛ برغم وجود بدائل عنها في الإسلام؛ فإن ما لا يتعارض منها مع شريعتنا، لا ينبغي أن يُخلط بينه وبين تلك «القيم» الديمقراطية المرفوضة، ولا ينبغي أن يطأطئ الإسلاميون الرأس إجلالاً لها ولا لآلياتها، وبخاصة أن أكثر مفرداتها تعاديهم فـ «التعددية» تقصيهم وحدهم، و «حكم الأغلبية» يتجاهلهم، و «الحريات» محبوسة عنهم، و «حقوق الإنسان» تبحث عن كل إنسان غيرهم، و «قبول الآخر» يتجهمهم، و «المجتمع المدني» لا يتعامل بالعسكرية الصارمة إلا معهم.

رابعاً: ليست هناك علمانية أصيلة وأخرى عميلة، فالعلمانية كلها نقيضة للإسلام، وإضفاء المشروعية على أي علمانية، هو ـ بقصد أو بغير قصد ـ إضفاء للمشروعية على الخطة التغييرية الأمريكية؛ لأن العلمانية في ثوبها الجديد (الليبرالية) هي الأداة الأمريكية المفضلة للتغيير في الشرق الأوسط الكبير، وإضفاء الشرعية على العلمانية المعارضة أيضاً، لا يقل خطأ أو خطراً عن إضفاء الشرعية على العلمانية المتسلطة، أو العلمانية الأمريكية المستوردة.

خامساً: لا يعني عدم إضفاء الشرعية على العلمانية كمناهج وبرامج، الوقوف ضد بعض رموزها وتياراتها ـ غير المعادية ـ في قضايا الحقوق والحريات وغير ذلك من القضايا الإنسانية العامة، بل التعاون في ذلك ـ إن أمكن ـ على شاكلة (حلف الفضول) جائز على ألا يمنع هذا التعاونُ على البر من التناهي عن الإثم.

سادساً: تشكيل ملامح المرحلة القادمة، تدخل فيه عوامل كثيرة، من أهمها الضغوطات الخارجية، وخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك الضغوطات الداخلية من فصائل التيارات العلمانية. وإذا كان التغيير واقعاً على الأغلب، وكان التأثير الأكبر فيه للضغط الأكبر، فلماذا يكون التغيير بضغط خارجي أمريكي أو داخلي علماني فقط؟! ولماذا يضغط هؤلاء من أجل مصالحهم وبرامجهم وفلسفاتهم، ولا يوجد من أصحاب الشأن وملاَّك الوطن من أهل الإسلام الضغط المماثل أو الأشد ضمن آليات سلمية وأساليب حضارية؟

سابعاً: الأمريكيون أزالوا جدار الصمت، والعلمانيون كسروا حاجز الخوف، من أجل مشاريع لا مشروعية لأصحابها، فلا أقل من أن يتجاوز الإسلاميون حواجز «عدم المشروعية» لضبط دفة التغيير، حتى لا تجور أمواجه على ما تبقى من آثار للشريعة في حياة الناس، وحتى لا تنحسر تلك الأمواج عن واقع مغاير، على صعيد دعوة الإسلام بوجه عام.

ثامناً: التوجه الإسلامي السني الذي تمثله جميع فصائل أهل السنة والجماعة في مصر وغيرها هو مركز استهداف الصائل الأمريكي، الذي يعلم أنهم هم الوحيدون الذين سيبقون صامدين في وجه الهجمة التغييرية الجائحة، ولهذا فإنه يشجع ويصنِّع البدائل، لتقَدَّم للأمة على أنها الدين الصحيح والمنهج المختار، سواء كان شطحاً صوفياً، أو تسطيحاً عصرانياً أو انتهازية شيعية، وخطط الأمريكيين المعلنة في ذلك لا ينبغي تجاهلها في مراقبة التغيير على المسار الديني.

تاسعاً: المراهنات تتفاوت بين البدء بالإصلاح السياسي أو البدء بالإصلاح الاقتصادي أو الاجتماعي، وفي مفهومنا الإسلامي، لا إصلاح على الحقيقة إلا بمنهج الصلاح المتمثل في الشريعة، وهنا تكمن المفارقة المفرِّقة بين موقف العلمانيين المناهضين للشريعة، وبين الإسلاميين المنادين بجعلها المرجعية الوحيدة في التشريع، وإذا ظل صوت الشريعة وأهلها غائباً في أي تغيير قادم، فقد تُتجاوز الشريعة بالمرة حتى في اعتبارها «مصدراً أساسياً (من) مصادر التشريع» كما ينص الدستور الحالي، لا بل قد تُرسِي (قيم) الديمقراطية أسساً وقواعد جديدة، تجرِّم الدعوة لها والتحاكم إليها والتحالف لأجلها، باعتبارها المنهج الوحيد الباقي على الأرض، القادر على صياغة حياة أكثر احتراماً للإنسان ولقيمة الإنسان في مصر أو في غير مصر.

عاشراً: بما أن الإسلاميين هم أصحاب الشرعية الحقيقية التي فُتحت بها مصر، وظلت وستظل ـ بإذن الله ـ وطناً إسلامياً؛ فإن أضعف الإيمان، وأقل واجب الآن (وأعظمه في الوقت نفسه) أن ينافح أصحاب تلك المشروعية عن أصل مشروعيتهم، وهي شريعة الإسلام الخالدة، والحد الأدنى في نصرتها وحماية جنابها من هجمة التغيير الأمريكية العلمانية؛ هو أن يقال للأمريكان وأوليائهم، بلسان القادة والنخبة: ها هنا أمة لا ترضى بمحادَّة الشريعة في أي تغيير دستوري أو قضائي أو سياسي أو اقتصادي أو إعلامي أو تعليمي؛ فإن كنتم أيها المشمرون لسلطة جديدة غير قادرين على