للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في التربية والعمل

[وقفة مع الدعاة]

عبد اللطيف الوابل

إن المتأمل في حال الأمة الإسلامية اليوم وما وصلت إليه من فرض نفسها

على الواقع حتى أصبحت ترى أفواجاً من الشباب يلتزمون في دين الله سراعاً في

قوة وحماسة وعزم؛ يجد في نفسه أملاً قوياً ويحس في صدره بفرحة غامرة،

وحين يمد خطوة قليلاً فيدخل في خضم هذه الأمواج المباركة يقف متألماً حزيناً إذ

يرى الأمراض الصغيرة الخطرة تصيب بعض هذه الأفواج الموعودة بنصر دين الله، ... هي صغيرة ويمكن تلافيها حين يتيقظ لها ذوو الألباب وهي خطرة لأنها سرعان

ما تنتشر في صفوف الدعاة كانتشار النار في الهشيم فتهدم هذا البنيان المبارك

وتهلكه، ويتذكر المرء قول الشاعر:

أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون لها ضرام

فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها كلام

ولما كان الخلل في ضبط الكلام وعدم الالتزام بمنهج الإسلام في استقامة

اللسان من أهم أسباب هدم صفاء الأخوة ونقاء المحبة، بل من أهم أسباب تقويض

البنيان وضياع الجهود وتفرق الكلمة أحببت أن أذكِّر هذه الأفواج المباركة ببعض

معالم هذا المنهج وذكر بعض الأمثلة مما يحصل في صفوف الدعاة ثم أبين ما

يحصل من جراء الانحراف عن الالتزام بهذه المعالم الواضحة، مع يقيني بأن كثيراً

منها قد لا يخفى على أغلب طلبة العلم والدعاة ولكن واجب الأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر يلزم المرء بنصح إخوانه وتذكيرهم براءة للذمة وحرصاً على جمع

القلوب ووحدة الكلمة.

وقبل البدء في الحديث عن هذه الأمور أحب أن أنقل كلمة للأستاذ سيد قطب

رحمه الله حين تطرق لظلال قول الله سبحانه [وقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ

إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنسَانِ عَدُواً مُّبيِناً] يقول رحمه الله:

(فالشيطان ينزع بين الإخوة بالكلمة الخشنة تفلت، وبالرد السيئ يتلوها فإذا جو الود

والمحبة والوفاق مشوب بالخلاف ثم بالجفوة ثم بالعداء.. والكلمة الطيبة تأسو جراح

القلب وتندي جفافها، وتجمعها على الود الكريم) .

أولاً: منهج الإسلام في استقامة اللسان:

١ - اختيار أحسن اللفظ وأجمله حين الكلام سواء كان ذلك في محاضرة أو

موعظة أو نقاش علمي أو نقد بناء أو نصيحة صادقة أو غير ذلك لأن في ذلك كله

أماناً من نزغات الشيطان وتسويله.

٢ - الإمساك عن الكلام إلا لمصلحة راجحة والتحرز الشديد من الكلمة

وحصرها في نطاق ضيق، يقول الإمام النووي رحمه الله: اعلم أنه ينبغي لكل

مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة، ومتى

استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد ينجر الكلام

المباح إلى حرام، أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء.

وكم كلمة أشعلت حروباً وأوقدت عداوة الدهر بكامله! ! ..

٣ - وزن الكلام وضبطه والتأمل فيه وفي عواقبه قبل إخراجه وعدم التسرع

فالكلمة إذا خرجت لم تعد.

٤ - القول بالعدل والصدق وإن كان ذلك على أقرب قريب سواء كان ذلك

مختصاً بالأفراد أو الجماعات أو المؤسسات الإسلامية، والحذر كل الحذر من

مسايرة الحماس والعواطف الجياشة وخاصة في المحافل العامة وعلى منابر النصح

والإرشاد.

٥ - البعد عن تحريف الكلام وليه والمغالطة فيه وأن يكون كلامه لإخوانه

واضحاً صريحاً غير محتمل للتأويلات للشحناء والبغضاء والتدابر وانعدام الثقة.

٦- الالتزام بالقول وتصديقه بالفعل وعدم الفصل بينهما.

٧- ترك الجدل والمراء وكل صنف من أصناف الكلام المؤدية إلى فساد

القلوب وشحناء الصدور من لمز أو همز أو غمز مع اللين في القول لإخوانه

المؤمنين وترك الغلظة والفحش.

٨ - محاسبة النفس على كل كلمة خرجت والنظر في عاقبتها والخشية من الله

سبحانه حين السؤال ووزنها بميزان الله أهي مما يرضي الله أم مما يسخطه، فإن

كانت الثانية أتبع السيئة بالحسنات.

٩ - التحلي بلباس التقوى في كل حال من أحوال الكلام فإن الله هو المطلع

وهو الذي سيحاسب، كيف وقد قال سبحانه: [يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ

وأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]

ثانياً: بعض الأمثلة الناتجة عن عدم الالتزام بهذه المعالم:

قبل البدء في ذكر هذه الأمثلة أود أن أنبه أن ذكري لها ليس من باب الشماتة؛ وإنما من باب بيان عيوبنا حتى نصلحها ونتناصح بيننا حتى يستقيم البناء ولأجل

أن يتنبه لها المربون المصلحون فيحفظون بتجنبها هذا البناء الشامخ ويسدون الباب

على أعداء الإسلام من المنافقين ممن يتربصون بهم الدوائر ويسعون في إشعال نار

الفتنة بين أفراد الحركات الإسلامية الملتزمة بمنهج السلف الصالح.

١- أصبحت أعراض كثير من الدعاة لحماً طرياً يؤكل بالليل والنهار فالغيبة

تُعمل خنجرها في لحوم الدعاة إلى الله وبألسنة مَن؟ إنها ألسنة إخوانهم وأحبابهم

وصدق من قال:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند

فترى طالب العلم يدرس في نهاره؛ بل ويذكِّر الناس بتحريم الغيبة ويتلو

عليهم قول الحق سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ

الظَّنِّ إثْمٌ ولا تَجَسَّسُوا ولا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً

فَكَرِهْتُمُوهُ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ] ثم يجلس مع صاحبه في المساء

الساعات الطويلة لا على صحيح البخاري أو صحيح مسلم أو أمر يهم شأن المسلمين

بل على ذكر فلان الداعية، وماذا له وماذا عليه، وهكذا حتى يجر الحديث بعضه

بعضاً فلا ينتهي مجلسهم إلا وقد قاموا عن مثل جيفة حمار، ضيعوا أوقاتهم وتحملوا

أوزار غيرهم وهتكوا أعراض إخوانهم، ولو كان هذا الحديث لمصلحة شرعية

راجحة لكان الأمر يسيراً، لكنه أصبح كالفاكهة يتفكه بها. فأين أولئك من قوله

سبحانه: [مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] ومن قول الرسول -صلى الله

عليه وسلم-: «وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال على مناخرهم -

إلا حصائد ألسنتهم» .

٢ - الرجم والتخرص دون تبين أو تمحيص أومعرفة، فتسمع أحياناً في

مجتمع الدعاة ألفاظاً عجيبة قد لا تسمعها من عوام الناس فترى بعضهم يصف بعضاً

لأنه لم يوافق هواه أو ليس على شاكلته بأنه عميل وذاك جاهل، وهذه المؤسسة

مشبوهة، وتلك مجلة فيها كيت وكيت، وهكذا تتوالى الألقاب والأوصاف، والله قد

خاطب المؤمنين بقوله: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن

تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] وفي الحديث: «إياكم والظن

فإن الظن أكذب الحديث» ، ويقول -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة:

«إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان، الله تعالى ما يلقي لها بالاً يرفعه الله بها

درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في

جهنم» ويقول الحسن البصري رحمه الله: (ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه) .

٣ - بخس الناس أشياءهم وترك العدل في القول فتسأل فلاناً الداعية عن كتاب

معين أو مركز إسلامي أو مجلة أو عن داعية آخر أو غير ذلك فيحدثك ويجيبك

حسب هواه ورغبته فإن كان السؤال عن أمر موافق لهواه رفعه فوق السماء وإلا

كال له الشتم والمذمة، وأقل أحواله أن يطلب منك غض الطرف عنه وعدم

الالتفات إليه فأين المسكين من قول الله سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ

بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ] وقوله: [وإذَا قُلْتُمْ

فَاعْدِلُوا ولَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى] وقوله: [ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا

هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] وحين بعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن

رواحه يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال: (والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليَّ ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة

والخنازير وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا

قامت السموات والأرض) .

٤ - مخالفة العمل للقول ... فترى مجموعة من الدعاة يتفقون على أمر بينهم

لمصلحة الدعوة ومن باب.. التعاون على البر والتقوى وما إن يتفرقوا إلا وقد

خالف العمل القول وامتثل كل منهم المثل السائد: (كلام الليل يمحوه النهار) بل إنك

تسمع أحياناً داعية يذكر الناس في محاضرة أو موعظة أو مجلس فينتقد حالة

مرضية في مجتمع الدعوة وسرعان ما تراه يقع فيما نهى عنه قبل أن ينهي

محاضرته وكأن الأمر أصبح مألوفاً ومعتاداً، والله قد مقت من هذا وصفه بقوله:

[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا

تَفْعَلُونَ] .

وأمر بالوفاء بالعهود والمواثيق فقال: [وبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا] وقال: [وأَوْفُوا

بِالْعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً] .

٥ - الوقوع في النميمة والتخصص في إفساد القلوب عن طريق اللسان الذي

خلقه الله لذكره وتلاوة كتابه، فترى أقواماً قد تخصصوا في الإيقاع بين الدعاة

وطمس معالم الود والصفاء، وما علموا أنه لا يدخل الجنة نمام وأن شر الناس من

يسعى بينهم بالنميمة، فليتذكر أولئك قول الله سبحانه: [يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ

وأَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الحَقَّ ويَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ

هُوَ الحَقُّ المُبِينُ] .

٦ - عدم الاتزان في القول والتردد بين الإفراط والتفريط فيوماً يذكر فلاناً

الداعية فيرفعه فوق منزلته التي هو فيها حتى كأنك ترى صحابياً من خيرة أصحاب

محمد -صلى الله عليه وسلم- وحين يتغير الهوى وتزول المصالح ترى ذاك الذي

كان في الأفق قد نزل إلى الحضيض، وهذا كله نتيجة الشطط والبعد عن الحق

وميزان العدل.

٧ - تفسير النصيحة على غير وجهها وتقديم الظن السيئ على حسن النية مما

تسبب في انعدام النصح وتركه بين الدعاة إلى الله. فحين يأتي الناصح ليقول حقاً

يتبادر لذهن المنصوح أولاً الظن السيئ، والتفسير المغلوط، فلا يقبل النصح بل

ربما قال له أنا أعرف بحالي! وكأن المسكين معصوم عن الخطأ والزلل.

ولا نشك بأن الدعاة إلى الله سبحانه بشر وأنهم يخطئون ويذنبون، لكن حين

تصبح بعض هذه الأمثلة ظواهر تراها بالليل والنهار، هنا يحتاج الأمر إلى لفت

الأنظار وشد الانتباه لمعالجة هذه الظواهر المرضية، والكيس من دان نفسه

وحاسبها، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

ثالثاً: عواقب البعد عن معالم منهج الإسلام في ضبط اللسان:

١ - التباعد والتباغض بين الدعاة إلى الله وعدم استفادة بعضهم من بعض

وخاصة إذا كانوا من مدارس مختلفة.

٢ - انعدام الثقة في صفوف الدعاة مما تسبب في حيرة كثير من الشباب لأنه

لم يعد يعرف الصادق من غيره فذاك يثني على فلان، وذاك يرد، ومن هنا كثرت

المدارس وتعددت الطرق وتباعدت القلوب.

٣ - انعدام البركة وتأخر الثمرة وهذا نتيجة عدم الالتزام الصادق بأمر الله

ومنهجه. فكم ترى من الدعاة وكم تبذل من جهود فإذا بحثت عن الثمرة وجدتها لا

تتناسب مع هذه الجهود؛ بل والمصيبة أنك ترى أحياناً ثمرات لكنها تقطف بأيدي

الأعداء وصدق الله إذ يقول: [ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] .

٤ - كثرة قالة السوء في صفوف الدعاة لأن الذي لا يحمي بيته ويحفظه

يصبح مرتعاً للصوص حتى لا تكاد تميز بين اللص وصاحب الدار، وهكذا نرى اليوم في صفوف الدعاة أنواعاً من المنافقين وقالة السوء، يظن

من لا فطنة له أنهم من رواد هذه الصحوة المباركة.

ولهذا أصبح ستار الدعوة سهل الاختراق من كثير من أعداء الإسلام.

٥ - غياب النقد والمراجعة والتناصح لأنه قد اختلطت المفاهيم فلم يعد يفرق

الداعية بين النقد البناء والنصح الصادق وبين السب والشتم والتخرص وهكذا تضيع

الجهود والتجارب دون استفادة من الدروس وأخذ العبر وتصحيح المسار.

٦- ضعف التخطيط وضياع الجهود على المستوى العام للدعوة وانعدام عنصر

التعاون الشامل بين الحركات الإسلامية ولو على أقل الأمور في الخطوط العامة،

فذاك يبني وأخوه يهدم ما بنى وهذا يتعامل مع إخوانه بأسلوب سياسة الشرق

والغرب، فكيف يحصل التخطيط الشامل والتعاون والتنسيق وبأي حال يمكن أن

تصب جهود الدعاة كلها في مصب واحد؟ .

٧ - قسوة القلوب وصدؤها وبلادة الحس وعدم الشعور بالإثم فأصبحت ترى

أقواماً اعتادوا على الانحراف عن هذه المعالم فلا يؤثر فيهم نصح ولا يمنعهم

تخويف بالله، فإن نصحت لا تجد إلا قبولاً بارداً وعاطفة سريعة الانطفاء وعزيمة

كاذبة على ترك هذا الخلق الذميم سرعان ما تنتهي ويردها قلبه القاسي.

فإليك أخي الداعية أسوق هذه التذكرة وتلك الالتفاتة لعلها تصادف قلباً قد آلمه

ما يرى من حال الدعاة فتتمكن فيه النصيحة ويتذكر ما نسى، ويحملها لغيره نصحاً

لله وفي ذات الله فإن المرجع هو إلى الله وحده والسؤال سيكون في القبر لك وحدك

حين الظلمة والوحشة، فاتق الله واخشَ يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.