للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفوضى البناءة «والحرب على الاستبداد»]

التحرير

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فقد ظلت الولايات المتحدة الأمريكية تعتمد على سياسة الحفاظ علي الاستقرار في الشرق الأوسط طوال عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ لأن المصالح الأمريكية كانت تستدعي ذلك الاستقرار، مهما كان مبنياً على حماية ممارسات دكتاتورية وزعامات مستبدة.

غير أن هذه السياسة تغيرت في الآونة الأخيرة بعدما اكتشفت الولايات المتحدة أن الاستبداد يولد الأحقاد، ويورث روح الانتقام التي قد يتطاير شررها حتى إلى الداخل الأمريكي أو العمق الأوروبي، فعمدت إلى اعتماد استراتيجية جديدة تقوم على قلع الأنظمة المستبدة فيما يمكن أن يسمى (الحرب على الاستبداد) في موازاة (الحرب على الإرهاب) . فبينما تخوض أمريكا حربها العالمية على ما تسميه بالإرهاب بلا سقف زمني ولا حد مكاني، فإنها بدأت ـ بعد غزو أفغانستان ـ الحرب ضد النظم التي ترى أنها تدعم الإرهاب أو تمارسه أو حتى تسكت عنه.

وقد جاء تحويل أمريكا لاستراتيجيتها من حماية الاستبداد باسم الاستقرار، إلى محاربته باسم الديمقراطية، في الإطار الذي أعلن عنه جورج بوش في ٢٤/٦/٢٠٠٢م في خطة للتحول الديمقراطي في الشرق الأوسط، وهو ما عبر عنه (كولن باول) وزير الخارجية الأمريكية السابق بـ «إعادة هيكلة الشرق الأوسط» فقد أعلن وثيقة تتضمن (استراتيجية الأمن القومي الأمريكي) أقرها البيت الأبيض في شهر سبتمبر ٢٠٠٢م، لتتضمن إعطاء الولايات المتحدة لنفسها الحق في أن تخوض حرباً في أي وقت وفي أي مكان من العالم للحفاظ على أمنها القومي، باعتبارها القطب الوحيد المسيطر على العالم، والذي ينبغي أن يستمر مسيطراً لقرن قادم على الأقل.

وباعتبار أن قضية فلسطين هي القضية المحورية التي من أجلها يتفجر الكثير من أعمال العنف في الشرق الأوسط؛ فقد رأت الولايات المتحدة بعين عوراء أن هناك فقط أنظمة مستبدة تتاجر بهذه القضية، ويتسبب استبدادها في تشجيع العنف، وعميت عن الظلم الفادح الذي تمارسه الحكومة الإسرائيلية، ولم ترَ مَنْ يستحق الإزالة إلا ياسر عرفات؛ لأنه كان يدعم «الإرهاب» كما تسميه، وكان لزاماً البحث عن قيادة جديدة (متفاهمة) وغير مستبدة، وغاب ياسر عرفات، أو غُيِّب، لتأخذ الهيكلة الجديدة للشرق الأوسط بعده وبعد صدام حسين دفعاً جديداً.

وفي الطريق إلى تلك الهيكلة، ظهر أن السياسة الأمريكية ترتكز على عدة أمور من أهمها:

- أن ما عُرف بـ (الصراع العربي الإسرائيلي) لم يعد هو القضية الأهم في المنطقة، بل الأهم منه إعادة صياغة الأوضاع العربية كلها، ولو استدعى ذلك الإطاحة بمزيد من النظم المستبدة التي تتسبب في انبعاث الإرهاب.

- أن التغيير السياسي وحده لا يكفي، بل لا بد أن تصحبه تغييرات ثقافية واقتصادية وأمنية، تطال بنية المجتمعات العربية، بما يؤمِّن المصالح الأمريكية في إطار تشجيع سياسة الأسواق الحرة ومنظمات المجتمع المدني، ودعم مراكز الأبحاث الناشطة في التغيير على المنهج الأمريكي.

- أن مصالح إسرائيل لا تقل أهمية عن مصالح الولايات المتحدة في هذا التحول الاستراتيجي؛ لأنها حجر الزاوية ورأس الرمح في السياسة الأمريكية في المنطقة، وهذا يستدعي أن تظل (إسرائيل) استثناء في الاستقرار الذي قد تحرم منه العديد من الدول المحيطة بها، وخاصة أنها قد يستعان بها في الإطاحة ببعض الأنظمة (المستبدة) .

- أن الصراع العربي الإسرائيلي بالرغم من تراجع أهميته ـ من وجهة النظر الأمريكية ـ يبقى محتاجاً إلى صيغة حل نهائي، تضمن عدم الإخلال بأمن الولايات المتحدة والغرب، وأن هذا الحل لا بد من حسمه، ولو جاء عن طريق فرضه على الأطراف المعنية، بغض النظر عن مدى تجاوب تلك الأطراف مع ذلك الحل اللازم والملزم.

- قد يستدعي هذا الحل إقامة دولة فلسطينية، وسوف يشترط في السماح بها أن تثبت السلطة الفلسطينية الجديدة قدرتها على وقف «الإرهاب» نهائياً، وذلك بالعمل على دمج المقاومة الفلسطينية في العمل السياسي ـ لمن يستجيب منها ـ والعمل على سحق ما تبقى منها مصرّاً على المقاومة.

ويجيء هذا في ظل قناعة أمريكية وأوروبية، بأن ترك قضية فلسطين بلا حل ظل يورث الاحتقان والاحتباس الذي لا يجد تفريغاً له إلا في مصالح الغرب وأمريكا، وفي هذا الإطار تأتي دعوة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير إلى عقد مؤتمر دولي، لا لمحاربة الإرهاب، بل للبحث عن أسبابه. وقد جاءت هذه الدعوة بعد الضربات التي تعرضت لها العاصمة البريطانية لندن أثناء انعقاد مؤتمر دول الثمانية في ٧/٧/٢٠٠٥م. وقد تعالت هذه النبرة (البحث عن أسباب الإرهاب) أيضاً بعد تفجيرات شرم الشيخ الأخيرة.

لكن الولايات المتحدة مع مضيها في (الحرب على الإرهاب) تظل ماضية في مشروع (الحرب على الاستبداد) ، لقناعتها أن هذا الاستبداد سيظل عامل تفريخ للإرهاب في نظرها، ولهذا فإنها ترفع في سبيل ذلك الشعارات التي ربما تبدو متعارضة، فهي مرة تتحدث عن دعم الازدهار والاستقرار في ظل الديمقراطية والحرية، ومرة تتحدث عن ضرورة التغيير، ولو استدعى التغرير ببعض الأنظمة عن طريق ما اسمته (كوندليزا رايس) وزيرة الخارجية الأمريكية بـ (الفوضى البناءة) التي تعني أن الولايات المتحدة قد تتعمد إثارة الفتن والقلاقل في بلدٍ ما، لأجل العبور من فوق ركامها أو من تحت دخانها إلى ما تريد من أوضاع جديدة تدخل ضمن إعادة الهيكلة وإعادة رسم الخرائط وتوزيع موازين القوى.

وفي أجواء التناقض بين ما ترفعه الولايات المتحدة من شعارات في التعامل مع إعادة هيكلة الشرق الأوسط، تحدثت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس بحماس شديد عن التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط؛ وذلك في حديث إلى صحيفة الواشنطن بوست في الأسبوع الأول من شهر أبريل ٢٠٠٥م، فقالت: «إن هذا التحول قد يستدعي تغيير واستبدال بعض الأنظمة الحليفة والموالية، فضلاً عن الدول غير الصديقة» . وقالت: «لا يمكن القبول بالأمر الواقع بدعوى الاستقرار» وسألتها الصحيفة عن تصورها إذا ما أسفرت تفاعلات التحول الديمقراطي عن فرض خيار حتمي بين الفوضى وبين سيطرة الجماعات الإسلامية على الأوضاع في بعض البلدان، فقالت: «إن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطي هي من نوع الفوضى الخلاَّقة، التي ستسفر في النهاية عن وضع أفضل» . وقد اشتهرت هذه العبارة (الفوضى الخلاَّقة) أو (البنَّاءة) وأصبحت مصطلحاً من مصطلحات السياسة الأمريكية، لكن هذا المصطلح جرى تفعيله في الحقيقة ـ قبل أن يستقر مؤخراً ـ في عمليات الإطاحة بالأنظمة المستبدة في أوروبا الشرقية في أوائل التسعينيات، وقد صدرت الإشارات المتعددة في الفترة الأخيرة عن ساسة ومفكرين أمريكيين، بضرورة إعادة هذا «السيناريو» في الشرق الأوسط.

- اختبارات «الفوضى البنَّاءة بعد حرب العراق:

كانت الأحداث التي أعقبت غزو العراق.. تطبيقاً صارخاً لاستراتيجية إحداث الفوضى؛ فقد حُلت كل مؤسسات الدولة بلا مقدمات، حتى الجيش والشرطة، لتختلط كل الأوراق، ويبدأ الأمريكيون إعادة ترتيبها من جديد وفق أجندتهم، وبحسب عملية إحلال وتبديل تستهدف إحلال العملاء الصريحين في مواقع المسؤولية، مع استبعاد كل معارض لهذا النمط البربري من التغيير.

وقد استعدت الولايات المتحدة للانتقال بالفوضى إلى كل من سوريا ولبنان بعد العراق، ولكن تفاقم المقاومة العراقية في وجه الفوضى الأمريكية، جعلها تعدل عن الأسلوب الفج المفاجئ في التغيير، فاتجهت إلى التخفيف من غلوائها بعد الخسائر الجسيمة التي لحقتها في العراق، لتستمر في إحداث ألوان من الفوضى بشيء من التأني، وعلى سياسة (الخطوة خطوة) .

(الفوضى البناءة) بطرق مختلفة تجري ممارستها على المسار السوري اللبناني أيضاً على يد الولايات المتحدة؛ فبعد الإصرار السوري على التجديد للرئيس اللبناني الموالي لسوريا (إميل لحود) استصدرت الولايات المتحدة قراراً من الأمم المتحدة، هو القرار ١٥٥٩ في شهر سبتمبر/ أيلول (٢٠٠٤م) يتضمن بنوداً ثلاثة أهمها: ضرورة انسحاب سوريا من لبنان، وتفكيك الميليشيات المسلحة هناك (حزب الله) وفرض الحكومة اللبنانية لسيطرتها على كل أراضي لبنان، بما يعني نزع أسلحة الفلسطينيين في المخيمات.

وقد تمخض ذلك عن إحداث ارتباك وخلط أوراق على الساحة السورية اللبنانية، كانت إحدى نتائجه الخطيرة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في ١٤/٢/٢٠٠٥م، وقد أعقب تلك العملية الغامضة ـ للآن ـ فوضى شديدة، تمكنت الولايات المتحدة من استغلالها لإكراه سوريا على الانسحاب من لبنان ـ دون قيد أو شرط ـ وهو ما أربك كلاً من الطرفين السوري واللبناني، لتستغل الجهات التي تتحرك بإيعاز من الخارج هذا الانسحاب لفرض أجندات جديدة في التركيبة اللبنانية الداخلية، كان منها إثارة التناقضات الطائفية من جديد، كعامل إثارة فوضوية لا حد لها، وهو ما يجري التمهيد له بإعادة أمراء طوائف الحرب الأهلية إلى الحياة السياسية (ميشيل عون ـ سمير جعجع) وتعمل الولايات المتحدة على استفزاز ما يسمى بـ (حزب الله) لإكراهه على التنازل عن سلاحه، كشرط أساسي لإدماجه في الحياة السياسية، وإلا فسيجري التعامل معه على أنه منظمة إرهابية، يمكن توجيه الضربات المباشرة لها، وهو ما يمكن أن يفتح باباً لفوضى أخرى.

والولايات المتحدة وهي تركز على إغراق لبنان وسوريا في الفوضى بوسائل متعددة على خلفية (محاربة الاستبداد) تضع عينها في الوقت نفسه على إيران، الظهير القوي لسوريا ولشيعة لبنان، مستهدفة إياها أيضاً، بلون آخر من الفوضى التي قد تنتج عن ضربات جوية، أمريكية أو إسرائيلية، للمفاعلات النووية الإيرانية، وقد يكون هذا ـ إذا حدث ـ فتحاً لباب من النزاع الداخلي في إيران تستغله أمريكا لإيصال عملائها إلى السلطة هناك، خاصة بعد مجيء الرئيس الجديد (أحمد نجاد) الذي ضاعف مخاوف أمريكا من ولادة نوع جديد من الاستبداد في إيران، وقد تستعد الولايات المتحدة لإحداث أشكال من الفوضى في أماكن أخرى بدعوى (حرب الاستبداد) .

إن أحداً لا يرضى عن الاستبداد أو يدافع عنه، لكن السؤال هنا: ماذا لو جرى التعامل مع الولايات المتحدة من قِبَل غرمائها بطريقة مشابهة على أنها قوة استبدادية عالمية طاغية، وقام ضحاياها بتعمد إحداث (فوضى خلاَّقة) ضدها هنا أو هناك، عسى أن يطيح هذا بطاقم الاستبداد داخلها على المدى القريب أو البعيد؟

ألن تجعل المعاملة بالمثل في هذه الحالة العالم أسوأ من غابة الوحوش المتصارعة ... ؟!

يبدو أن هذا ما تُغِذُّ أمريكا السير فيه، على غير علم أو هدىً أو كتاب منير.