للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أنا والقطة السوداء]

خالد عبد الله سالم الباز

لن أستطيع النوم هذه الليلة.. الريح تزأر بالخارج، وصفيرها المزعج يختلط بنباح ممطوط لكلب ضال.. والأوراق الجافة تُحدث خشخشة حادة عندما تكسحها الريح أمامها على الأرض.. وعلى نحو مباغت تجمد هذا المشهد.. هدأت حركة الريح، وكفَّ الكلب عن نباحه، وتوقفت خشخشة الأوراق الجافة.. ظننت أنه بإمكاني أن آخذ قسطاً من النوم يعينني على القيام بنشاط لصلاة الفجر.. وكان من الممكن أن يحدث هذا لولا ذلك الصوت الخافت.. صوت خافت يشبه الأنين.. ما هذا؟

إنسان يُحتَضَر؟ هذا ما حدثتني به نفسي وأنا أُرهف السمع لأتبين حقيقة الأمر.. كانت الحركة الخفيفة للريح لا تزال تشوِّش على الصوت فيصل أذنيَّ غير واضح، ثم بدأ الصوت يتضح شيئاً فشيئاً.. هل سكنت الريح تماماً أم أن مصدر الصوت يقترب من منزلي؟.. وارتسمت صورة مرعبة في خيالي: «شخصٌ ما مطعون بخنجر والدماء تسيل على ثيابه بغزارة من موضع الطعنة.. ويقترب مترنحاً من منزلي مطلقاً أنيناً قوياً، وعيناه متسعتان في رعب، ثم يطرق الباب بيديه الملوثتين بالدماء طلباً للمساعدة و ... » .

هززت رأسي بقوة لأنقض عن خيالي هذا المشهد المرعب الذي أفلح في إدخال الخوف إلى نفسي، وجعل ضربات قلبي تتزايد.. تبسمت ساخراً من نفسي ومن تصوراتها الساذجة، وعدتُ أُنصت باهتمام إلى الصوت الخافت.. الصوت الذي يشبه الأنين.. أنين إنسان يُحتضَر.. الآن أصبح الصوت واضحاً تماماً.. إنه.. صوت.. قطة.. نعم.. صوت قطة تموء في ألم وفي تتابعٍ حزين. تُرى هل هي جائعة؟ أم فقدت وليداً لها فهي تبكيه بكاء الثكلى؟

لم أسترسل كثيراً مع هذه التساؤلات وإنما نهضت لاستطلع الأمر بنفسي.. فتحت الباب الخارجي لمنزلي بهدوء.. ألقيت نظرة حذرة عن يمين ويسار. الإضاءة ضعيفة للغاية في الشارع. معظم أعمدة الإنارة مصابيحها معطلة مما نشر حولها بقعاً مظلمة.. أما المصابيح التي تعمل فضوؤها أصفر شاحب لا يكاد يبين.. فجأة تنبهت إلى الصمت التام حولي.. لقد سكنت الريح تماماً واختفى صوت القطة.. هل خافت مني فاختبأت في مكانٍ ما ولزمت الصمت؟

ضاقت عيناي وهما تجوبان الشارع شبه المظلم بحثاً عنها و.. والتقت عيناي بعينيها.. كانت عيناها كجمرتين متوهجتين تبرزان من كتلة سوداء. هل هي قطة أم مخلوق آخر؟

* * * * *

أثار هذا التساؤل رجفة خفيفة في جسدي؛ فقد كنت متأثراً بقصص الجن إلى حد بعيد.. أخذت أحدق في القطة السوداء وقد ربضت على الخط الفاصل بين الظلام وبين الضوء الشاحب. وعادت القطة تموء بصوت واهن متتابع وعيناها تنظران نحوي في برود.. لماذا تموء بهذه الصورة؟ الجو بارد ولا شك في ذلك.. فهل هذا هو السبب؟ ربما.. وربما لأنها جائعة. أما إذا كانت تئن من البرد فيمكنني استضافتها في حجرتي الدافئة، إلا أنها لن تقبل ذلك؛ فهي قطة مشردة أَلِفتْ حياة الشوارع حيث الحرية والانطلاق ولن ترضى بأن تسجن نفسها في حجرتي حتى وإن كانت دافئة وبها أشهى الطعام.. ومن المؤكد أن رد فعلها سيكون عنيفاً إذا حاولت استضافتها رغماً عنها.. ستثور وتراوغ وربما تهرب بعيداً عني فلا أتمكن من مساعدتها.. أما إذا كانت جائعة، فالأمر يسير جداً سأحضر لها قطعة لحم مناسبة.

وفي هذه اللحظة بدأت الريح تتحرك ثانية.. وهممت بدخول المنزل و.. وفجأة تسمرت قدماي مكانهما؛ فقد لمحت شيئاً أثار انتباهي في البقعة التي تشغلها القطة. استدرت بحذر.. ركزت بصري.. و.. وشهقت بقوة واتسعت عيناي في رعب هائل ودق قلبي بعنف.. وسرت قشعريرة باردة في جسدي كله.. وأحسست بشعر رأسي كله يقف.. كان ما أراه عجيباً.. عجيباً للغاية.

كانت القطة تتضخم وتتضخم ثم تنكمش وتنكمش في تتابع مخيف..

جفَّ ريقي تماماً وارتعشت ركبتاي، وضغط الخوف على جسدي حتى شعرت بأنني لا أقوى على الوقوف.. وتجمدت تماماً في مكاني غير قادر على الحركة.. وعادت تموء بقوة وهي تتضخم ثم تنكمش في تتابع سريع.. تلاحقت أنفاسي من شدة الرعب.. وغمرني عرق بارد.. ثم.. ما هذا؟ في هذه اللحظة حانت مني التفاتة إلى مصباح أحد الأعمدة قريب من موضع القطة السوداء يتأرجح بفعل الريح ولاحظت وجود علاقة بين حركة المصباح وتضخم القطة وانكماشها و.. وفهمت الأمر كله.. يا لخيالي الجامح.

نعم! كان خيالي جامحاً يصور لي أشياء لا وجود لها؛ فلم تكن القطة شبحاً مخيفاً يتضخم وينكمش وله أنياب طويلة وعينان دمويتان، كل هذا مجرد خيال غذاه الاجتهاد وقلة النوم وضبابية الرؤية.. وكل ما في الأمر أن المصباح الذي يتأرجح بفعل الريح كلما اقترب ضوؤه من القطة صنع لها ظلاً كبيراً على الحائط الذي خلفها وكلما ابتعد انكمش الظل إلى حجمه العادي، ومع شعوري بالإرهاق لعدم النوم حتى هذه الساعة المتأخرة كان من الطبيعي أن أتصور الأمر على غير حقيقته. هكذا تبينت الأمر فتنهدت في ارتياح وهززت رأسي في تعجب وسخرية من خيالي الجامح المشوَّش.. عاد تنفسي إلى معدله الطبيعي، وانتظمت ضربات قلبي وشعرت بالهدوء والراحة كمن أزاح عن صدره حملاً ثقيلاً، وقبل أن أدخل المنزل ألقيت نظرة سريعة على القطة ولكن.. ولكنها كانت قد اختفت.. اختفت تماماً.

* * * * *

دارت عيناي في المكان.. لا أثر لها.. تبخرت.. وقبل أن تصيبني خيبة الأمل لفقدها عاد مواء القطة الواهن المتتابع مرة ثانية.. أرهفت سمعي لأحدد مكانها.. إنها هناك.. في موضع شديد الظلمة لهذا عثرت عليها بصعوبة.. وقبل أن تختفي مرة ثانية أسرعت للداخل وأحضرت قطعة لحم وضعتها على ورقة نظيفة، ولأنني لم أتناول عشائي حتى هذا الوقت المتأخر فقد تحركت شهيتي وتحرك معها شعوري بالجوع.. ولست أدري لماذا توقفت على باب منزلي وطرحت على نفسي هذا السؤال: لماذا أصنع كل هذا من أجل قطة ضالة لا يعنيني من أمرها شيء؟! لقد خرجت من حجرتي الدافئة إلى الشارع حيث الريح الباردة.. وعرَّضت نفسي لخوف قاتل من شبح موهوم، والظلام من حولي مخيف؛ ليس هذا فحسب بل آثرتُ القطة على نفسي بقطعة اللحم لتأكل هي.. ابتسمت بامتنان حين جاءتني الإجابة من أعمق أعماقي: إنها عاطفة الرفق بالحيوان التي غرستها في نفسي تلك المحاضرة الشيقة الموسومة بـ «حقوق الحيوان في الإسلام» والتي ألقاها أحد العلماء بمسجد القرية الرئيس.. ما زلت أذكر ذلك الحديث النبوي المؤثر.. امرأة دخلت النار لأنها حبست قطة فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها حرة تأكل من خشاش الأرض، وامرأة عاهرة غفر الله لها ذنوبها وأدخلها الجنة لأنها سقت كلباً أشرف على الموت من شدة العطش. في ديننا أصبح للحيوان حقوق على الآدميين. سبحان الله!

انتزعت نفسي من أفكاري هذه واتجهت مباشرة نحو القطة السوداء.. ها.. سوداء؟ قفز إلى ذهني قول مأثور يحذر من القطط السوداء بالليل؛ فهي الهيئة المثالية التي يتلبَّس بها الجن إذا أرادوا أن يظهروا للبشر.

ترى هل هذه القطة إحدى الجن؟ يا إلهي ماذا أصنع؟ هل أرجع إلى منزلي؟ .. ربما تكون قطة عادية.. آه.. ماذا أفعل؟ بعد فترة من الجمود والصمت والحيرة توجهت لموضع القطة وليكن من شأنها ما يكون وأنا أتمتم بدعاء مأثور: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» اقتربت منها.. اقتربت أكثر وأكثر وهي ثابتة مكانها.. وعيناها تراقباني في برود ولا مبالاة؛ ومع حركة الريح سقط ضوء المصباح على القطة فرأيتها بوضوح.. كانت سوداء قاتمة شديدة الهزال كأنها لم تأكل منذ أسابيع.. لعل هذا هو السبب في موائها الضعيف.. أصبحت في مواجهتها تماماً.. اندهشت عندما وجدتها ساكنة مكانها لم تتحرك بل لم ترفع رأسها نحوي.. هل استسلمت لي؟ .. ظلت جامدة لم تبدِ أيّ انفعال نحو قطعة اللحم وكأنها فقدت حاسة الشم، بل لعلها فقدت حاسة البصر أيضاً فعيناها تشبهان عيني الأعمى باردتان ومثبتتان في اتجاه واحد.. دفعتها بيدي برفق لأستحثها على الحركة فانقلبت على جانبها مفتوحة الفم وقد رفعت إحدى قدميها الأماميتين قليلاً وفقدت عيناها بريق الحياة.. لقد ماتت من الجوع؟.. سبحان الله!