للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدلالة المحكمة لآيات الحجاب]

لطف الله خوجه

من مميزات هذا القرن، من جهة المسائل الفقهية: ظهور الجدل والتأليف في مسألة كشف وجه المرأة. وهذا بعكس القرون السابقة؛ حيث انحصر البحث في بطون الكتب الفقهية، والحديثية، والتفاسير. لم تكن هذه المسألة جدلاً في المنتديات، ولا دعوة على المنابر، ولم تؤلف فيها مؤلفات مستقلة، كلاَّ (١) ، بل كان العالِم يعرض رأيه

كان العلماء في هذه المسألة على قولين:

- الأول: إيجاب التغطية على جميع النساء، بمن فيهن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن.

- الثاني: استحباب التغطية على جميع النساء، حاشا أزواج النبي رضوان الله عليهن، فعليهن التغطية.

وبهذا يُعلم اتفاقهم في شيء، واختلافهم في شيء:

- فقد اتفقوا على وجوب التغطية في حق أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم -، فكان هذا إجماعاً.

- واختلفوا في حق عموم النساء، بين موجب ومستحب، فكان هذا خلافاً.

وأهم ما يجب ملاحظته في مذهب المستحبين: أن قولهم تضمن أمرين مهمين هما:

- الأول: استحبابهم التغطية؛ وذلك يعني أفضليتها على الكشف؛ فحكم الاستحباب فوق حكم المباح. ففي المباح: يستوي الفعل والترك. لكن في الاستحباب: يفضل فعل المستحب.

- الثاني: اشتراطهم لجواز الكشف شرطاً هو: أمن الفتنة. والفتنة هي: حسن المرأة، وصغر سنها (أن تكون شابة) ، وكثرة الفساق. فمتى لم تُؤْمَن الفتنة فالواجب التغطية.

وبهذا يُعلم أن تجويزهم الكشف مقيَّدٌ غير مطلق، مقيد بشرط أمن الفتنة، ومقيد بأفضلية التغطية، وهذا ما لم يلحظه الداعون للكشف اليوم، وهم يستندون في دعوتهم إلى هؤلاء العلماء.

وقد التزم المستحبون ذلك الشرط وذلك التفضيل، فانعكس على مواقفهم:

- فأما الشرط: فالتزامهم به أدى بهم لموافقة الموجبين في بعض الأحوال، فأوجبوا التغطية حال الفتنة، فنتج من ذلك: حصول الإجماع على التغطية حال الفتنة. فالموجبون أوجبوها في كل حال، والمستحبون أوجبوها حال الفتنة، فصح إجماعهم على التغطية حال الفتنة؛ لأنهم جميعاً متفقون على هذا الحكم في هذا الحال.. هذا بالأصل، وذاك بالشرط.

- وأما التفضيل: فالتزامهم به منعهم من السعي في نشر مذهبهم، والدعوة إليه، وحمل النساء عليه؛ ولأجله لم يكتبوا مؤلفات مستقلة تنصر القول بالكشف ـ حسب علمي ـ. فما كان لهم استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. ترتب على ذلك أثر مهم هو: إجماع عملي تمثل في منع خروج النساء سافرات؛ فلم يكن لاختلافهم العلمي النظري أثرٌ في واقع الحال.. وهذا ما لم يلحظه الداعون للكشف اليوم، وهم يستندون في دعوتهم إلى هؤلاء العلماء.

فملخص أقوالهم:

- ثلاثة إجماعات: إجماع على التغطية في حق أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم -، وإجماع على التغطية حال الفتنة، وإجماع عملي في منع خروج النساء سافرات.

- وإيجاب على الجميع، بمن فيهن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم -، في كل حال.

- واستحباب على الجميع دون أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم -، مقيد بشرط أمن الفتنة، ومقيد بالأفضلية.

هذه هي المذاهب في هذه المسألة.

وهكذا مرت المسألة بينهم في تلك القرون: خلاف نظري، يمحوه اتفاق عملي. فانعكس على أحوال المسلمات، فلم تكن النساء يخرجن سافرات الوجوه، كاشفات الخدود، طيلة ثلاثة عشر قرناً، عمر الخلافة الإسلامية، حكى ذلك وأثبته جمع من العلماء، منهم:

١ - أبو حامد الغزالي، وقد عاش في القرن الخامس، في الشام والعراق (توفي ٥٠٥هـ) ، الذي قال في كتابه: (إحياء علوم الدين) : «ولم يزل الرجال على مر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات» (١) .

٢ - الإمام النووي، وقد عاش في القرن السابع؛ حيث نقل في كتابه: (روضة الطالبين) (٢) الاتفاق على ذلك، فقال في حكم النظر إلى المرأة: «والثاني: يحرم، قاله الاصطخري وأبو علي الطبري، واختاره الشيخ أبو محمد، والإمام، وبه قطع صاحب المهذب والروياني، ووجهه الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات، وبأن النظر مظنة الفتنة، وهو محرك للشهوة؛ فاللائق بمحاسن الشرع، سد الباب والإعراض عن تفاصيل الأحوال، كالخلوة بالأجنبية» .

٣ - أبو حيان الأندلسي المفسر اللغوي، وقد عاش في القرن الثامن، قال في تفسيره (البحر المحيط) (٣) : «وكذا عادة بلاد الأندلس، لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة» .

٤ - ابن حجر العسقلاني، وقد عاش في القرن التاسع، قال في الفتح (٤) : «استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى: المساجد، والأسواق، والأسفار منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال» .

٥ - ابن رسلان، الذي حكى «اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساق» (٥) .

وهكذا كان الحال في بدايات القرن الأخير؛ فقد ظهر التصوير قبل مائة وخمسين عاماً، تقريباً، وصوَّر المصورون أحوال كثير من البلاد الإسلامية، منذ مائة عام، وزيادة، وفيها ما يحكي واقع حال النساء في بلاد الإسلام: تركستان، الهند، وأفغانستان، وإيران، والعراق، وتركيا، والشام، والحجاز، واليمن، ومصر، والمغرب العربي؛ حيث الجميع محجبات الوجوه والأبدان حجاباً كاملاً سابغاً، حتى في المناطق الإسلامية النائية، كجزيرة زنجبار في جنوبي إفريقيا، في المحيط الهندي، وقد زرتها عام ١٤٢٠هـ، ودخلنا متحفها القديم، ورأينا صور سلاطينها من العمانيين، وصور نسائها، وكن جميعاً محجبات على الصفة الآنفة، وعندنا شاهد في هذا العصر: المرأة الأفغانية؛ فحجابها السابغ الذي يغطي جميع بدنها، حتى وجهها، قريب إلى حد كبير مما كان عليه النساء في سائر البلدان. فهذا الحال أشهر ما يستدل له؛ فالصور أدلة يقينية؛ فقد ظلت المرأة متمسكة بهذا الحجاب الكامل إلى عهد قريب، ولم يظهر السفور إلا بعد موجات الاستعمار والتغريب، حيث كان من أولويات المستعمر:

- نزع حجاب المرأة.

- تعطيل العمل بالشريعة.

وقد اتُّخذ لتحقيق هذين الهدفين طريقان: القوة، والشبهة. والأخطر طريق الشبهة.

لقد ظهر من يدعو وينادي بالسفور، من على المنابر، والصحف، والكتب، باعتبار أن كشف الوجه مسألة خلافية؛ حيث نظروا في تراث الإسلام، فتتبعوا مسائل الخلاف، وأفادوا منها في تأييد وإسناد دعواهم؛ فكانوا شَبَهاً بالمستشرقين، والفرق: أن المستشرقين بحثوا، وفتشوا للطعن في الإسلام نفسه، وهؤلاء بحثوا، وفتشوا للتشكيك في أحكام مستقرة، جرى عليها العمل، ومن ذلك: حجاب المرأة، وبخاصة كشف الوجه.

فوجدوا لطائفة من العلماء أقوالاً تجيزه، ولا تحرمه، لكن بشرط أمن الفتنة.

فأخذوا أقوالهم، وتركوا شروطهم. كما أخذوا قولهم بالجواز، وتركوا قولهم بالاستحباب.

ونسبوا قولهم الجديد، المحدَث، في جواز كشف الوجه مطلقاً، من غير قيد بشرط، ولا قيد بأفضلية إلى هؤلاء العلماء، فلم يحفظوا أمانة الأداء، ولم يحرروا نسبة الأقوال، ثم زعموا أنه قول جماهير العلماء.

وما كان لهم أن ينتسبوا لهؤلاء العلماء فيما أحدثوه من قول؛ فما هم منهم، ولا هم منهم.

ثم إنهم ربطوا بين السفور والتقدم، وزعموا أن سبب انحطاط الأمة، إنما كان باحتجاب المرأة، وبعدها عن ميدان الرجال. وسمع لهم من سمع، وانساق كثير من المسلمين لهذه الأفكار، لانتفاء الحصانة، وضعف القناعة، فتمثلوها، وطبقوها، فحدث في تاريخ الإسلام حدث غير سابق، غريب كل الغربة عن أخلاق المسلمين؛ حيث خرجت المرأة المسلمة سافرة، تتشبه في لباسها بالكافرة.

صارت المرأة في الصورة التي أرادها المتحررون، ومرت عقود، وشارف قرن على الأفول، لكن تلك البلدان المتحررة ما زالت من دول العالم الثالث؛ فأين التقدم الذي يجيء مع كشف الوجه، والتبرج، والاختلاط، وخروج المرأة من بيتها؟

والدعوات نفسها اليوم تعاد في مأرز الإسلام، ومأوى الإيمان، من دون اعتبار.

وأخطر ما في الأمر تبني مذهب الكشف طائفةٌ من المنتسبين للتيار الإسلامي، ممن كانوا يعارضون هذا المذهب؛ ذلك أن رأيهم مسموع، وقولهم له محل من القبول، لغلبة التدين، وإذا تذكرنا أن أول السفور ونزع الحجاب في البلاد الإسلامية، كان بدؤه كشف الوجه، فهمنا لِمَ كان تبني هؤلاء لهذا القول خَطِراً؟

ولا شك أن باعث هذا التغير في موقف هؤلاء الأفاضل اشتباه في المسألة. فالقناعة تامة بأنهم محبون للخير، متبعون للدليل، لكن الخلاف فيها غرّهم، فظنوا صحة مذهب الكشف، وربما رجحوه، ومحل الخلل عدم تحرير المسألة بدقة. وهذا ما لوحظ على أصحاب هذا الاتجاه، والشبهة إن أتت من نص شرعي، فلا تُزال إلا بنص واستدلال شرعي، ومجرد الخلاف لا يسوِّغ الانتقاء؛ إذ ليس كل خلاف سائغ، بل ثمة خلاف مردود. والواضح أن النصوص المستدل بها على جواز الكشف، ليست من القوة بحيث ترجح على النصوص الموجبة للتغطية؛ ففي القرآن ثلاث آيات، هي آيات الحجاب، وهن قوله ـ تعالى ـ:

- {وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: ٥٣] .

ـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: ٥٩] .

ـ {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: ٣١] .

هذه الآيات كلها تدل دلالة محكمة على وجوب غطاء الوجه، فإذا ثبت إحكامها؛ فكل ما عداها متشابه، يُرَدُّ إليها. ومعلوم أن النصوص منها المحكم، ومنها المتشابه، فالمتشابه يُرَدُّ إلى المحكم، هذا سبيل أهل الإيمان الراسخين في العلم، كما دل عليه قوله ـ تعالى ـ:

- {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران: ٧] .

والمتبعون المتشابه:

- منهم القاصد، وهذا الذي في قلبه زيغ، يبتغي الفتنة بالتأويل، وهذا الذي حذر منه القرآن.

- ومنهم الواقع فيه بالخطأ، فهذا له أجر الاجتهاد، دون أجر الإصابة.

ففي مسألتنا هذه يوجد الصنفان، والمتأمل في نصوص الحجاب لا يملك إلا أن يحكم بأنها تدل على وجوب غطاء الوجه بدلالة محكمة، يصعب ويستحيل تعطيلها لأجل نصوص متشابهة، وإن كانت في نظر من قال بالجواز محكمة، لكن بيان الدلالة المحكمة لهذه الآيات، سيظهر صورة المسألة كما هي.

- الدلالة المحكمة لقولة ـ تعالى ـ: {وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: ٥٣] .

هذه الآية تدل دلالة محكمة على التغطية، وهذا لا خلاف فيه عند جميع العلماء؛ حيث اجتمع قولهم على هذه الدلالة، وخلافهم إنما جاء من جهة تعلق حكمها:

- فالموجبون التغطية على سائر النساء، مذهبهم في حكم الآية أنه عام.

- وأما المستحبون التغطية، فإن مذهبهم في الآية أنها خاصة بأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن.

والمقصود هنا: بيان أن دلالة الآية محكمة في الجهتين: في دلالتها على التغطية، وفي كونها تعم جميع النساء، ليست خاصة بأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن، وذلك يتبين من الأوجه التالية:

- الوجه الأول: أن الأمر بالحجاب في الآية معلل، والعلة هي: تحصيل طهارة القلب. وهذه العلة موجودة في سائر النساء، ليست قاصرة على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن؛ فكل النساء في حاجة إلى طهارة القلب، لا يدعي أحد غير هذا، وهي تحصل بالاحتجاب عن الرجال.

- الوجه الثاني: أن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - إذا كن أمرن بالاحتجاب؛ لأجل تحصيل طهارة القلب، مع اصطفائهن، وانقطاع طمع الرجال منهن؛ فسائر النساء من باب أوْلى؛ لأنهن أحوج إلى الطهارة، وليس لهن منزلة أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن، ولأن للرجال فيهن مطمعاً.

- الوجه الثالث: أنه تقرر في الأصول: أن خطاب الواحد يعم الجميع، إلا إذا جاء استثناء، ولا استثناء هنا؛ فالخطاب وإن جاء في حق أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن، إلا أن الأصل في الحكم أنه عام؛ لأن المعنى الموجود فيهن، موجود في سائر النساء، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة، كقولي لامرأة واحدة» (١) .

- الوجه الرابع: أن مبنى التخصيص بأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - عند القائلين به هو: الحرمة. وهذه العلة موجودة في بناته -صلى الله عليه وسلم -، فإما أن يدخلوهن في حكم الآية، وحينئذ ينتفي التخصيص، أو يمتنعوا من إدخالهن فتبطل العلة، وحينئذ لا وجه لحمل الآية على التخصيص؛ فكيفما كان فالتخصيص باطل.

- الوجه الخامس: أن القول بتخصيص حكم الآية بالأزواج، يلزم منه جواز الدخول على النساء ببيوتهن، وهو باطل، ولا قائل به.

فهذه الأوجه صريحة المعنى، محكمة الدلالة، وبها يظهر بطلان من خص حكم الآية أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن، وقد ذهب إلى القول بعموم حكم الآية جمع من المفسرين، وهم: ابن جرير، وابن العربي، والقرطبي، وابن كثير، والجصاص، والشوكاني، والشنقيطي، وحسنين مخلوف، وغيرهم.

- الدلالة المحكمة لقولة ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: ٥٩] .

هذه الآية دلالتها محكمة على التغطية، يتبين ذلك بالأوجه التالية:

- الوجه الأول: أن الجميع: أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم -، وبناته، ونساء المؤمنين: أُمرن بأمر واحد هو: إدناء الجلباب. فعُرف من ذلك أن صفة الإدناء للجميع واحدة، ولما كان من المجمع عليه: أن صفة إدناء أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - ـ رضوان الله عليهن ـ هو: الحجاب الكامل مع التغطية، فينتج من ذلك: أن صفة الإدناء عند البقية (بناته -صلى الله عليه وسلم -، ونساء المؤمنين) كصفته عند أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم -.

- الوجه الثاني: تفسير الإدناء بكشف الوجه، يلزم منه كشف أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن وجوههن، وهو باطل، ولا قائل به.

- الوجه الثالث: أنه قال: {يدنين عليهن} ، فالفعل عُدِّي بـ «على» ، وهو يستعمل لما يكون غطاؤه من أعلى إلى أسفل، فدل بذلك على أن الإدناء يكون من على الرأس منسدلاً حتى ينزل على الوجه، وبهذا المعنى قال جمع من أهل اللغة:

- كالزمخشري؛ حيث قال في تفسير هذه الآية: «يرخينها عليهن، ويغطين وجوههن، وأعطافهن، يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك إلى وجهك» .

- وأبو حيان الأندلسي؛ حيث قال في تفسيرها: « {عليهن} شامل لجميع أجسادهن، أو {عليهن} ، على وجوههن؛ لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه» .

وإلى القول بدلالة الإدناء على التغطية ذهب كل من: ابن عباس، وعبيدة السلماني، ومحمد بن سيرين، وابن علية، وابن عون. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «أمر الله نساء المؤمنين، إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن، من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة» ، وسند هذه الرواية صحيحة عند الأئمة: أحمد، والبخاري، وابن حجر. ورواها ابن جرير في تفسير الآية.

كما تظاهر المفسرون على تفسير الإدناء بتغطية الوجه، متابعة لابن عباس، منهم: ابن جرير، والجصاص، والكيا الهراس، والزمخشري، والبغوي، والقرطبي، والبيضاوي، والنسفي، وابن جزي الكلبي، وابن تيمية، وأبو حيان، وأبو السعود، والسيوطي، والآلوسي، والشوكاني، والقاسمي، والشنقيطي، وجلال الدين المحلي؛ فكل هؤلاء وغيرهم ذهبوا إلى تفسير الإدناء في الآية بتغطية الوجه؛ وذلك أنهم اعتمدوا في تفسيرها على قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الآنف.

- الدلالة المحكمة لقولة ـ تعالى ـ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: ٣١] .

هذه الآية دلالتها محكمة على التغطية، يتبين ذلك بالوجهين التاليين:

- الوجه الأول: في الآية جاء الفعل «ظهر» وليس «أظهر» فالاستثناء يعود إلى ما يظهر من المرأة، من زينتها، بدون قصد، فلا يُحمَل على الوجه إذن، لأن الوجه يظهر بقصد.

- الوجه الثاني: أن الزينة في لغة القرآن والعرب، تطلق على ما تزينت به المرأة، مما هو خارج عن أصل خلقتها كالحلي واللباس؛ فتفسير الزينة بالوجه والكف خلاف القرآن وكلام العرب.

وممن قال بدلالة الآية على التغطية جمع من السلف، منهم: ابن مسعود، والنخعي، والحسن، وأبو إسحاق السبيعي، وابن سيرين، وأبو الجوزاء.

ثم إن هذه الآية عمدة القائلين بالكشف، حيث ورد في تفسيرها قول ابن عباس، ومن تبعه: «الوجه والكف» وتلقَّف هذا القول كثير من الناس، وحملوه على معنى جواز كشفهما للأجانب؛ وهذا فيه نظر من جهة ابن عباس نفسه؛ حيث سبق قوله في آية الجلباب، وهو صريح واضح لا يحتمل إلا معنى واحداً هو: وجوب غطاء الوجه، مع جواز إخراج العين، لأجل الرؤية. فإن أُخذ قوله هنا في الآية على معنى: جواز كشفهما للأجانب؛ فهذا تناقض، وحاشاه، ولا يلجأ إلى هذه النتيجة إلا بعد استنفاد أوجه الترجيح.

لكن إذا عرفنا أن ابن عباس نفسه فسر هذه الآية بأن المرأة تكشفهما لمن دخل عليها بيتها. انتفى الإشكال، واجتمع كلامه، وتلاءم؛ حيث المعنى: أنه يجوز لها أن تظهر ذلك للمحارم، غير الزوج. وقوله كما رواه ابن جرير في التفسير: «والزينة الظاهرة: الوجه، وكحل العين، وخضاب الكف، والخاتم؛ فهذه تظهر في بيتها لمن دخل من الناس عليها» ، أي من يحل له الدخول عليها وهم المحارم ولا يُظَن بابن عباس أنه يجيز دخول الأجنبي على المرأة.

فهذا بالنسبة لابن عباس. أما غيره ممن فسر الآية بمثله، فإنه:

- إما أن يكون قد نقل قول ابن عباس، وقصد ما قصده ابن عباس، كما وضحنا آنفاً.

- وإما أنه قصد النهي لا الاستثناء، وبيان ذلك: أن قول من فسر الآية بالوجه والكف يحتمل أمرين:

- يحتمل أنه قصد النهي عن إبدائهما، فيكون كلامه تفسيراً للنهي.

- ويحتمل قصده الاستثناء، كما هو المشهور.

والاحتمال الأول له حظ من النظر، وقد ذكره ابن كثير في تفسيره، فيكون معنى الآية:

ولا يبدين الوجه والكف، إلا إن ظهر منها شيء بغير قصد.

فيكون هذا مقابل التفسير الآخر:

ولا يبدين بدنهن وما فيه من الزينة سوى الوجه والكف.

فإذا ورد الاحتمالان وصحّا، فليس أحدهما بأوْلى من الآخر، إلا بنص مرجح، والمرجح ينصر الاحتمال الأول (النهي) ؛ وذلك بما ورد في الآيتين: الحجاب، والجلباب. من دلائل محكمة واضحة على التغطية. ويؤكد هذا المعنى ما تقرر من توجيه كلام ابن عباس آنفاً، وما ثبت عنه من وجوب غطاء الوجه.

وفي كل حال، فإن هذا التخريج لا يمنع من أن يكون ثمة طائفة قصدت الاستثناء، وقصدت كشف الوجه للأجانب؛ فهؤلاء هم القائلون بجواز كشف الوجه، غير أن المقصود أن ثمة توجيهاً آخر غُفْلاً عن الذكر.

وبهذه الأوجه يثبت القول بوجوب التغطية، وكونها من النصوص المحكمة، والأصول الثابتة؛ فما عارضها، وكان ثابتاً، فهو متشابه، يُحمَل على المحكم، ويُفهم في ضوئه، كأن يكون قبل فرض الحجاب، أو لظرف خاص. والله أعلم.


(*) الأستاذ المساعد بقسم العقيدة بجامعة أم القرى بمكة.
(١) يشار إلى أن ابن القطان الفاسي المتوفى سنة ٦٢٨هـ ألف كتاباً بعنوان (أحكام النظر) ، تكلم فيه عن الحجاب وجمع الأدلة من القرآن والسنة والمذاهب الفقهية على ما يراه راجحاً في ذلك، وتبعه في ذلك بعض المتأخرين كعطية بن الحسن الهيتي الحموي الشافعي المتوفى سنة ٩٣٦ هـ تقريباً. ـ ^ ـ
(١) في الباب الثالث: في آداب المعاشرة، وما يجري في دوام النكاح، كتاب آداب النكاح ١/٧٢٩.
(٢) ٥/٣٦٦ - ٣٦٧، وذكر هذا أيضاً: الشربيني في مغني المحتاج ٣/١٢٩، (انظر عودة الحجاب ٣/٤٠٧) .
(٣) البحر المحيط ٧/٢٥٠.
(٤) فتح الباري ٩/٣٣٧.
(٥) عون المعبود، في اللباس، باب: فيما تبدي المرأة من زينتها ١٢/١٦٢.
(١) أخرجه النسائي كتاب البيعة رقم ٤١١٠، وأخرجه أحمد في المسند رقم (٢٥٦٧٥) .