للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معايير العقلاء]

أ. د. جعفر شيخ إدريس

شهادة الحس:

١ ـ كل الناس في معظم أحوالهم يؤمنون بشهادة الحس، يؤمنون بأن ما رأوه بأعينهم أو سمعوه بآذانهم، أو أحسوه بجلودهم أو شموه بأنوفهم أو ذاقوه بألسنتهم هو كما شهدت به هذه الحواس. لكنهم قد ينكرون هذا في بعض الأحيان؛ لأنهم ـ لسبب من الأسباب ـ لا يريدون الاعتراف بالحقيقة التي شهدت بها. هذا الإنكار مسلك مخالف للعقل؛ ولذلك فإن القرآن الكريم يذم أصحابه في مثل قوله ـ تعالى ـ:

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الأنعام: ٧] .

لكن قلة من المفكرين من المسلمين وغير المسلمين يصرحون بأقوال فيها تشكيك في شهادة الحس. فهدا أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ يقول في أول كتابه (المنقد من الضلال) :

فأقبلت بجد بليغ أتأمل المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها، فانتهى بي طول التشكك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً، وأخذت تتسع للشك فيها، وتقول: من أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم ـ بالتجربة والمشاهدة ـ بعد ساعة تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة (واحدة) بغتة، بل على التدريج ذرة ذرة، حتى لم يكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته.

فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً» .

على كلام أبي حامد هذا استدراكات:

أولاً: أنه لو كانت الثقة بالمحسوسات باطلة بطلاناً مطلقاً لكان ينبغي أن ما قال له بصره إنه ظِلٌ ليس بِظل، وما قال إنه كوكب ليس بكوكب.

ثانياً: كيف اكتشف أن الظل ليس ساكناً كما قال له بصره؟ يقول: «بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة» وهل تكون تجربة ومشاهدة إلا بالحس؟ ألا يعني هذا أن الحس هو الذي صحح ظنه بأن الظل لا يتحرك؟

ثالثاً: إن شهادة الحس داخلة في الدليل على أن الكوكب أكبر مما ظن؛ وذلك أن الناس يعرفون بالتجربة الحسية أنه كلما كان الشيء أبعد بدا أصغر. ثم وجدوا أن هنالك نسبة بين مسافة البعد وحجم الشيء المرئي.

رابعاً: قد تقول: لكن هذا إنما عرف بالعقل. ونقول: أجل! وهل تعمل الحواس إلا بمعونة العقل؟ وهل يعمل العقل إلا بمعونة الحواس؟

٢ ـ إن شهادة الحواس بالنسبة للمسلم أمر يقتضيه دينه كما يقتضيه عقله؛ وذلك أن في الإسلام أصولاً لا يكتمل الإيمان ولا العمل بها إلا بالاعتراف بشهادة الحواس. القرآن الكريم كتاب لا يمكن الاطلاع عليه إلا بالنظر أو بالسماع، وهما أمران حسيان. وما يقال عن القرآن الكريم يقال عن سائر العلوم. الصلاة والصيام والحج كلها تعتمد في معرفة مواقيتها على شهادة الحس. هذه مجرد أمثلة.

وهذا يدلك على أنه لا يجوز لمسلم أن ينكر من الحقائق العلمية ما شهد الحس يصدقه. أقول الحقائق كالقول بأن شكل الأرض كروي ولا أقول النظريات كنظرية دارْوِن.

٣ ـ لكن ينبغي الاعتراف بأن حواسنا لا تعطينا علماً محيطاً بما نشاهد، إنما تعطينا جانباً منه. وهذا الذي تعطيناه وإن كان جزئياً إلا أنه حق وهو كافٍ لنا في معاملاتنا الدينية والدنيوية. مثال دلك أننا نعرف الآن بسبب الآلات التي تزيد من قوة حواسنا أن ما يبدو لنا صلباً من الأجسام ليس هو بالصلابة التي نراها، وإنما هو مكون من ذرات بينها فراغات. وقل مثل دلك عما نراه سائلاً. ونحن حين نرى الشمس قد غربت أو أشرقت تكون قد فعلت دلك قبل ثماني دقائق من رؤيتنا لها تشرق أو تغرب. بل يقولون إن كثيراً مما نراه من نجوم السماء يكون قد انفجر وتبدد مند آلاف السنين. ولكن بما أننا لا نرى الشيء إلا حين ينعكس الضوء منه على أعيننا وبما أن هذه الأجرام تبعد عنا ملايين الملايين من الأميال؛ فإن ضوءها لا يصلنا إلا بعد آلاف من السنين تكون هي في أثنائها قد ماتت؛ فما نراه منها إنما هو تاريخها لا حاضرها.

لكننا في معلاملاتنا اليومية وفي ديننا إنما نتعامل مع الأشياء بحسب ما تبدو لنا؛ فأوقات الصلاة والصيام والحج لا تعتمد على الحقائق الفلكية التي يتحدث عنها علماء الفلك وإنما تعتمد على ما يظهر لنا منها. ذكر لي بعض الشباب في أحد المؤتمرات ببريطانيا ذات مرة أن رجلاً زعم أن في الإسلام ما يخالف الحقائق العلمية وضرب لذلك مثلاً بافتراضنا أن الشمس تتحرك والأرض ثابتة؛ لأننا نقول مثلاً: إن وقت الظهر يحين عندما تصير الشمس في كبد السماء. قلت له: ألستَ تجد في جرائدكم اليومية مواقيت طلوع الشمس وغروبها؟ فلو أن الناس التزموا بالحقائق الفلكية وحدها لما جاز لهم الحديث عن شروق وغروب؟ لأنه إذا كانت الشمس ثابتة بالنسبة للأرض؟ فكيف يقال إنها شرقت أو غربت؟ لكنني ذكَّرته بأن العلماء أنفسهم يسمون هذا بالحركة الظاهرية للشمس، وهي الحركة التي نعتمدها في حياتنا اليومية.

٤ ـ مما يتصل بهذا ـ أعني بعدم رؤيتنا للحقائق المحسوسة كما هي في حقيقتها أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد يفعل ذلك رحمة بنا. من ذلك قوله ـ سبحانه ـ:

{إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال: ٤٣ - ٤٤] .

وقوله ـ سبحانه ـ:

{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: ١٣] .

٥ ـ يتعلل بعضهم في عدم إيمانه يوجود الخالق ـ سبحانه ـ أنه لا يؤمن إلا بما يرى {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: ١٥٣] . ويدعي بعضهم في عصرنا بأن هذا أمر يقتضيه المنهح العلمي. وكذبوا؛ فإنهم لو كانوا صادقين في عدم تصديقهم بما لا تراه أعينهم للزمهم أن لا يؤمنوا بحوادث التاريخ، وللزمهم أن لا يصدقوا بوجود شيء في الأماكن التي تبعد عنهم بُعداً لا ترى ما فيها أعينهم. بل للزمهم أن يذهبوا مذهب بعض الفلاسفة الذين كانوا يقولون إنهم إنما يؤمنون بما يرون ما داموا يرونه، ويقولون: من يدرينا أنه ما زال موجوداً حين نغمض عنه اعيننا أو نلفت عنه أنظارنا؟

وظن بعضهم أن الحواس لا تدرك إلا ما كان ذا طبيعة مادية (كما نقول بلغتنا الحديثة) ولذلك أنكروا إمكانية رؤية الخالق ـ سبحانه ـ لأن الله ليس كمثله شيء؛ فكيف تراه الأعين التي لا ترى إلا ما كان من نوع تلك المخلوقات؟ هؤلاء أخطؤوا عدة أخطاء:

فأولاً: إن كون المخلوقات تُرى (بضم التاء) لا ينهض دليلاً على أن ما كان من طبيعة غير طبيعتها لا يُرى. فرقٌ بين أن تقول: إن المخلوقات التي هي من النوع الفلاني تُرى، وبين أن تقول إنها هي وحدها التي تُرى.

ثانياً: نحن نعلم الآن أن هنالك موجودات لا تراها حواسنا المجردة لكنها تُرى بوساطة الآلات التي تساعد تلك الحواس. فنحن نرى بالتلسكوب من الأشياء البعيدة ما لا يمكن للعين المجردة أن تراه، ونرى بالميكروسكوب من الأشياء الدقيقة ما لا يمكن لها أن تراه. ولو أننا حكمنا على الأشياء بمنطق هؤلاء لقلنا إنها لا يمكن أن تُرى إطلاقاً؛ لأن الذي يُرى إنما هو الذي يمكن للعين المجردة أن تراه.

ثالثاً: نعم! إننا لا نرى ربنا ـ سبحانه ـ في هذه الحياة الدنيا؛ ولذلك عندما دعا نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ ربه قائلاً: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إلَيْكَ} [الأعراف: ١٤٣] قال له الله ـ تعالى ـ: {قَالَ لَن تَرَانِي} [الأعراف: ١٤٣] .

لكن الله ـ تعالى ـ: قال عن المؤمنين في الدار الآخرة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: ٢٢ - ٢٣]

فدل ذلك على أن العلة في عدم رؤيتنا لخالقنا في هذه الحياة هو طبيعة أعيننا لا ذات خالقنا سبحانه. فذاته ـ سبحانه ـ لا تتغير وإنما الذي تغير هو طبيعة حواسنا. فكما أن عدم رؤيتنا للكائنات البعيدة والدقيقة لم يكن سببه طبيعة تلك الكائنات وإنما كان سببه طبيعة أعيننا، فلما ساعدتها الآلات على الرؤية رأت ما لم تكن ترى، فكذلك فإنه عندما تتغير طبيعة الناس في الجنة فيكونون مخلوقات تأكل ولا تخرج منها فضلات، وتتحرك ولا تتعب ولا تنام، فكذلك تتغير طبيعة حواسهم فترى ما لم تكن تستطيع رؤيته في دنياها.

٧ ـ يقول بعض الفلاسفة المعاصرين كلاماً كان أئمة أهل السنَّة يقولونه قبلهم منذ سنين: يقولون إن ما لا تمكن مشاهدته بحال من الأحوال فليس بموجود. ولذلك فإن أهل السنة الذين كانوا يقولون ذلك كانوا يقولون للجهمية ومن ذهب مذهبهم في صفات الله ـ تعالى ـ: إنكم تعبدون عَدَماً. وقد كان هذا التصور العدمي لصفات الخالق ـ سبحانه ـ من أكبر الأسباب التي تعلق بها بعض الملحدين في الغرب. كانوا يقولون لزملائهم المؤمنين: عن أي شيء تتحدثون؟ شيء لا يمكن أن تراه الأعين ولا أن تسمعه الآذان ولا يُحَس ولا يُشَم ولا يُذاق؟

وقد ذكر الإمام أحمد في أول كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية كلاماً نفيساً في تفسير السبب الذي أدى بالجهمية إلى هذا التصور التعطيلي لصفات الخالق. قال ـ رضي الله عنه ـ:

فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله ـ تعالى ـ فلقي أناساً من المشركين يقال لهم السُمنية فعرفوا الجهم، فقالوا له: نكلمك؛ فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك؛ فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: ألستَ تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم: نعم! فقالوا له: فهل رأيتَ إلهك؟ قال: لا. قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا: فشممتَ له رائحة؟ قال: لا. قالوا: فوجدتَ له حساً؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له مجسا؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم فلم يدرِ من يعبد أربعين يوماً، ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى...... فقال للسُمني: ألست تزعم أن فيك روحاً؟ قال: نعم! فقال: هل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا. قال فوجدتَ له حساً أو مجساً؟ قال: لا. قال: فكذلك الله لا يُرى له وجه ولا يُسمع له صوت ولا يُشَمُّ له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان...... فإذا سألهم الناس عن قول الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: ١١] يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السبع كما هو على العرش، ولا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان، ولم يتكلم ولا يتكلم، ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يوصف ولا يعرف بصفة، ولا يفعل ولا له غاية ولا له منتهى، ولا يدرَك بعقل، وهو وجه كله، وهو علم كله، وهو سمع كله، وهو بصر كله، وهو نور كله، وهو قدرة كله، ولا يكون فيه شيئان، ولا يوصف بوصفين مختلفين، وليس له أعلى ولا أسفل، ولا نواحي ولا جوانب، ولا يمين ولا شمال، ولا هو خفيف ولا ثقيل، ولا له لون، ولا له جسم، وليس هو بمعمول ولا معقول، وكلما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه.

قال أحمد:

وقلنا: هو شيء؟ فقالوا: هو شيء لا كالأشياء. فقلنا: إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء.

معايير

تحدث الكاتب في الحلقة الأولى عن أحد المعايير المشتركة بين جمع العقلاء من البشر بادئاً بالقوانين المنطقية. ويكمل في هذه الحلقة بقية الموضوع

تحدث الكاتب في الحلقة الأولى عن أحد المعايير المشتركة بين جمع العقلاء من البشر بادئاً بالقوانين المنطقية. ويكمل في هذه الحلقة بقية الموضوع


(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.