للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التفكير التفاعلي عند الإمام ابن تيمية وأثره في نجاح دعوته]

لمحات حول معالم منهجية التأصيل في كتاباته

د. جمال أحمد بادي

يبدو للباحث المحقق والدارس المدقق لتراث الإمام ابن تيمية الفكري تميزه بالواقعية، وأنه خلاصة تفاعل واحتكاك بين الإمام ومجتمعه الذي عاش فيه. إنه تفاعل مع ظروف وأحداث ذلك الواقع بين تأثير وأخذ ورد يضبطه منهج رصين، وقواعد محددة وأصول محكمة، وأهداف واضحة وغايات حميدة، ومقاصد شرعية تدور حول جلب المنافع ودفع المفاسد؛ والذي هو خلاصة تفاعل مع الوحي المنزل من جهة بتحكيمه والرد إليه واعتباره مقياس الرد والقبول والميزان الذي توزن به الأفكار والآراء والاعتقادات والأشخاص والمواقف، وهذا مما جعل تراثه الفكري موسوعياً يمتاز بالشمول والسعة، ومما جعله يصطبغ بسمات المصدر من الوسطية والإنصاف والعدل وغير ذلك.

وهذا التفاعل تفاعل إيجابي؛ بخلاف التفاعل السلبي الناتج عن ردود الأفعال والذي عادة ما يكون فيه التفاعل ـ إن صح تسميته بذلك لغةً ـ من طرف واحد، والذي قد يكون لأهداف ذاتية من حب الظهور والرياسة والانتقام وغير ذلك، أو لأغراض حزبية طائفية ضيقة.

وقد صاغ الإمام تراثه الفكري عن طريق التأصيل والذي يعني التقعيد للمسائل العلمية بطريقة يسهل استيعابها وإعمالها في الواقع، وقياس غيرها من الحالات المماثلة عليها.

وقد هيمنت هذه الصفة ـ أي التأصيل ـ على كتاباته ومؤلفاته للدرجة التي يمكن عدها معها صفة لازمة لكتاباته العلمية وخصيصة تميز تراثه الفكري. ولعل هذا الأمر هو الذي دعا علاَّمة العصر (الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي) أن يجمع أبرز تلك الأصول والقواعد والضوابط التي وردت في أشهر مؤلفات الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في كتاب واحد أسماه: (طريق الوصول إلى العلم المأمول من القواعد والضوابط والأصول) والتي فاقت الألف في عددها. ولعل الأمر نفسه هو الذي حدا بأحد محققي (١) كتبه الموسوم: (شرح كتاب الحج من كتاب العمدة) بوضع قائمة بالأصول الواردة فيه آخر الكتاب والتي ناهزت الثمانين.

والتأصيل منهج نبوي،؛ حيث نلحظ ذكره -صلى الله عليه وسلم - لأصل أو قاعدة في معظم أحاديثه، ومن أمثلة ذلك قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إنما الأعمال بالنيات» ، «الحلال بيِّن والحرام بيِّن وما بينهما أمور مشتبهات» ، «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» ، «خالفوا اليهود والنصارى» ، «لا ضرر ولا ضرار» .

وقد عد ابن تيمية الأصول شرطاً في حصول الفهم والوصول إلى الحق، وبفقدها يُحرَم صاحبها من ذلك الوصول إلى العلم المأمول، فقال: من حُرِمَ الأصول حُرِمَ الوصول.

ومما يراعى في التأصيل: اعتبار القواعد اللغوية، واعتبار القواعد الشرعية واعتبار مقاصدها المرعية، واعتبار القواعد العلمية في «التفسير» ، وفي مصطلح الحديث، وفي أصول الفقه، واعتبار قواعد الترجيح بين الأدلة والدلالات، وقواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد وغير ذلك من الاعتبارات العلمية. وإن كانت هذه الاعتبارات لا تنافي المراجعة والتقويم والتنقيح والنقد والتعديل، بل والإضافة والإنشاء والمقايسة والتجديد.

وهذا ما جعل الإمام ابن تيمية يأخذ صفة «المحقق المدقق» ، و «المستوعب الناقد» ولم يكن مجرد حافظ ناقل أو مجرد دارس مسالم. وهذا هو التفاعل الذي آثرت وصف فكر ابن تيمية به في هذا المقال.

ولعل لظروف وقت الإمام وزمانه أثراً في حصول مثل ذلك التفاعل؛ حيث وُجِد التعصب المذهبي الفقهي، والتحزب الطائفي، والفرقة بين المسلمين علماء وأمراء وأفراداً وجماعات، فكانت الموالاة والمعاداة على الطائفة أو الشيخ أو الطريقة أو المذهب مما أطمع الأعداء في الأمة الإسلامية، فتكالبوا عليها كما حصل من التتار.

ولعل لانتشار الجهل بين المسلمين في وقته وما ترتب عليه من تقليد مذموم، ووقوع في المحظورات، والحيرة في المسائل العلمية لعل لها نصيباً أيضاً.

كما كان لما تميز به ابن تيمية من صفات شخصية دور أيضاً، نحو: الذكاء والفطنة، والجد والمثابرة في طلب العلم، وسعة الأفق، والتحرر من كل صيغ الأَسْر الفكرية، وطلب الحق وتحريه، وعلو الهمة وسمو الطموح.

يضاف إلى ذلك تربيته في جو علمي، ونشأته في أسرة عريقة معروفة بحب العلم مشجعة عليه، وترحاله بين كثير من أصقاع العالم الإسلامي في طلبه العلم على أيدي علماء أجلاء.

كما كان لتقواه وقوة إيمانه وصلته بالله ـ تعالى ـ أثر أيضاً، حيث كان يداوم على ذكر الله واللجوء إليه ودعائه عند اشتباه المسائل واختلاف الآراء.

كما كان لتعدد الوسائل التي استعملها في بث العلم وإقامة الحجة من تدريس ومحاورة ومناظرة ومطارحة وتأليف وردٍّ دور كذلك توّجه بتدوين أفكاره ومحصل آرائه، وما دار بينه وبين مخالفيه وخصومه في كراريس ومدونات كتب الله ـ تعالى ـ لها البقاء لتستفيد منها الأمة في عصور لاحقة كعصرنا المشابه لعصره.

ويمكن تقسيم محاور ذلك التفكير التفاعلي بالنظر إلى منهجه في التأصيل إلى الأقسام التالية:

القسم الأول: التأصيل ابتداء: وهو هنا آثر لا ذاكر، وناقل متبع لا منشئ مبتدع إذا تعلق الأمر بما أجمع عليه من سلفه من الصدر الأول وسائر العلماء المجتهدين.

وهو هنا يلتزم الإنصاف وعدم التعصب لقوله ومن يذكر القول عنهم، من جهتين:

الجهة الأولى: عدم الجزم ولا القطع بضلال كل من خالف تلك الأصول، ولا التجرؤ بالقول بهلاكه؛ فضلاً عن القول بتفسيقه أو تبديعه؛ إذ قد يكون ذلك المخالف معذوراً عند الله نحو ما قاله في آخر «الواسطية» .

الثانية: اعترافه بخطأ بعض المنتسبين إلى السنة والحديث في بعض المسائل العلمية والمنهجية التي جانبوا فيها الصواب، وبيانه لذلك.

ومن مسائل التأصيل ابتداء في غير ما سبق كمنهج علمي التزمه ابن تيمية وسار عليه ما يلي:

التأصيل والتقعيد لكل مسألة يبحثها ليتم قياس ما شابهها من المسائل عليها، وحتى يكون بثه للعلم بصورة عملية تمكن القارئ لكتبه استيعاب المسائل لا مجرد التلقين والحفظ ثم الوقوف عند ذلك وعدم المقدرة على تطبيقه وإنزاله خارج دائرته كما هو الحال في تدريس العلم اليوم في كثير من الجامعات والمؤسسات التعليمية.

القسم الثاني: التأصيل رداً: بأن يؤصل ويقعِّد للمسائل وفي ذهنه ومقصوده الرد على فرقة ما أو على أخطائها وشبهاتها، ولكن دون ذكر لتلك الطائفة ودون ذكر وبيان أنه يرد عليها. وهو منهج بعض أئمة السنة في مؤلفاتهم كالإمام البخاري في بعض أبواب كتاب التوحيد من صحيحه، والإمام مالك في بعض أبواب موطئه المتعلقة بمسائل بالتوحيد.

هذه القواعد ما كانت لتقال لولا أن الحاجة دعت إليها بسبب إنكار أهل البدع لجزئيةٍ ما في العقيدة أو نحوها، أو لبيان مشكل وغير ذلك.

وقد يستدل في هذا الموضوع بأقوال بعض أئمة مخالفيه الذين وافقت أقوالُهم ما بيَّنه من الحق في المسألة، مع تنبيهه أحياناً على أن ذلك المخالف لم يحالفه الحظ في المسائل الأخرى، كقوله في أول «الحموية» : «يقول فلان ـ وإن كنا لا نقول بكل ما يقول ـ» . وهو بفعله وصنيعه ذلك يحقق أهدافاً منها: الأول قوة حجة القول الذي ينتصر له؛ إذ قال به بعض أئمة من يقول بخلافه في المسألة، والثانية الإنصاف في حق المخالف وإظهار ما قال به من الحق، والثالثة قبول الحق من كل من جاء به وإن كان مخالفاً، بل وإن كان عدواً شانئاً.

وهي على وجوه: منها: أن تكون «بالإضافة» إلى قاعدة أو أصل متأسس نحو:

- (بائن من خلقه) أضيفت إلى قول أهل السنة (مستو على عرشه) .

- (غير مخلوق) أضيفت إلى قول أهل السنة (القرآن كلام الله تعالى) .

وقد تكون ببيان الحق في المسائل «المتشابهة» والتي يثيرها أهل البدع بعد انتشارها وذيوعها لا سيما في المصنفات، والتباس الحق فيها على الناس لدقتها وغموضها، وإن خالف بذلك «موقف» ولا نقول «منهج» من سبقه من أئمة السنة. ومن أمثلة هذا النوع من البيان مسألة «التفريق بين اللفظ والملفوظ» في (القرآن الكريم) والتي تفرعت عن البدعة بقول خلق القرآن. وهو هنا تميّز عن موقف الإمام أحمد ومن وقف موقفه في المسألة؛ وذلك لاختلاف الحالين؛ ففي عهد الإمام أحمد لم تكن المسألة قد انتشرت بعدُ، وخشي الأئمة أن يفضي القول بها مع دقتها وغموضها إلى القول بخلق القرآن. أما في عهد الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فنجد أن المسألة قد انتشرت وذاعت والتبس أمرها على بعض المسلمين، فلزم بيان وجه الحق فيها وإن كان ما قال به قد لقي الإمام مسلم (*) بسببه ما لقي لاختلاف الظروف والأحوال.

وقد تكون بمحاولة فهم بعض مدلولات النصوص العقدية الواردة في بعض الأحاديث الثابتة في ضوء الحقائق العلمية التي وصل إليها العلم في زمانه، كما في شرحه لحديث النزول، وكما في «الرسالة العرشية» .

وقد تكون بالقول بإمكان اجتماع النقيضين في حل المعضلات العقدية ـ وهو الواقع والحق ـ كما في مسألة مرتكب الكبيرة ـ والتي حيرت أغلب الفرق الإسلامية؛ حيث قال بإمكان اجتماع الإيمان والكفر، والسنة والبدعة، والطاعة والمعصية في الرجل الواحد، ولا يعني الحكم عليه بما طرأ عليه خلاف الأصل، ثم بين أن الحكم لما غلب من الأمرين. بل ذهب إلى أبعد من هذا بقوله بإمكانية صدور البدعة ومخالفة الصواب من «الصدِّيق» الذي تأتي مرتبته في الفضل بعد مرتبة الأنبياء.

ومن ذلك الأصول التي قعَّدها في شأن الأعذار التي قد تكون سبباً في رفع أو دفع العقوبة عمن صدرت منه مخالفة للشرع في أمور الاعتقاد، وأخرى في حق من صدرت منه مخالفة للشرع بارتكاب المعصية.

وهذه الأصول المذكورة أعلاه هي ضمن سلسلة الأصول والضوابط المعيارية التي قعَّدها في الحكم على المخالف، معتبراً المعيار الذي استعمله المعتزلة وتابعهم عليه غيرهم فيما بعد بتقسيم الدين إلى أصول أو أمور علمية يكفر مخالفها، وفروع أو أمور عملية لا يكفر مخالفها مردوداً.

ويشبه المعيار السابق من قسم الدين إلى أمور جلية يكفر مخالفها، وخفية لا يكفر مخالفها؛ باعتبار أن الجلاء والخفاء من الأمور النسبية زماناً ومكاناً.

وكذا الأمر بالنسبة لمعيار الخوارج في الحكم على المخالف باعتبار المخالفة لما هم عليه مقياساً في الحكم على الآخرين بأنه مردود ولا يستقيم.

الثالث: الرد تأصيلاً: وهو بأن يقصد بإظهار انحراف طائفة ما ليحذر منها، وينص على شبهاتها التي يتناولها بالدحض والنقد. وهو عندما يقوم بذلك يستنبط القواعد ويؤصل الأصول المنهجية لضبط المسائل وإقامة الحجة وبيان المحجة.

وهو منهج لبعض الأئمة أيضاً، ومعظم كتب الردود على الفرق والطوائف الضالة والمبتدعة يمكن عده ضمن هذا النوع.

ومن أمثلة هذا النوع: الأصلان والمثلان في الرسالة التدمرية.

ومنها القواعد المذكورة في شأن أنواع التأويل الممنوع منها والجائز في كتاب (درء التعارض) (١) .

والإمام ابن تيمية في تطبيقاته لجزئيات وأفراد هذا النوع من التأصيل عادة ما يلجأ إلى أساليب الحوار والمناظرة والمحاجَّة مع مخالفيه بعد تبين ما عندهم وفهم ملابسات الموضوع قيد المناقشة والحوار، والإلمام بالقواعد والأصول التي بنوا عليها آراءهم، بل يصل الأمر إلى استيعاب مذهب المخالف أفضل من أئمته حتى يلتبس شأنه على أتباعه فيظنونه من أئمة مذهبهم لولا أنه يبين لهم بعد الحديث معهم ليطمئنوا إلى أنه يناقشهم عن بينة وفهم لا لمجرد الادعاء أو المخالفة، ثم يبين لهم خطأ مذهبهم. كما ذكر ذلك في «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» .

وأخيراً فإن الحاجة ملحة في التأكيد على هذا المنهج التأصيلي لأسباب منها: أنها تمكِّننا من استيعاب كتابات الإمام ابن تيمية وفكره الموسوعي، والإفادة منها في دراستنا المعاصرة، كما أن استيعابها يقودنا إلى الاقتداء بها وتطبيقها في كتاباتنا وبحوثنا العلمية مما يكون له أثر إيجابي في أن تؤتي ثمراتها المرجوة بإذن الله.


(١) المحقق هو فضيلة الأستاذ الدكتور سعود العطيشان.
(*) تفصيل ذلك في مختصر الصواعق المرسلة، لابن القيم.
(١) والتي اختصرها مع النسج على منوالها تلميذه ابن القيم ـ رحمه الله ـ في الصواعق المرسلة.