للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[القوة اللينة]

د. عبد الكريم بكار

يحاول علماء الاجتماع تقسيم العصور وإطلاق تسميات محددة عليها من أجل توفير منهجية علمية ورؤية (أيديولوجية) لفهم حركة التاريخ وبلورة مسلَّمات ومقولات توجه النشاط البشري بما ينسجم مع متطلبات كل عصر. لقد كان العصر الزراعي طويلاً جداً؛ حيث امتد آلاف السنين، وانتهى في منتصف القرن الثامن عشر؛ حيث حلَّ العصر الصناعي. إن دور الزراعة لم ينته ولكن تراجع؛ حيث صار مصدر الثراء والقوة والنفوذ (المصنَع) وليس الحقل والمزرعة.

إن قطاع الزراعة لا يسهم في الناتج القومي للدول المتقدمة إلا في حدود (٥%) .

الآن نحن نعيش في عصر المعلومات، حيث تحوَّل ثقل التحديث والتقدم من المصنع إلى جهاز (الكمبيوتر) . إن هذا العصر قد تسلَّم القيادة من الماكينة وسلَّمها للنظم الإلكترونية التي تتحكم بالماكينة والمصنع في كل مجالات الحياة.

في العصر الصناعي كان صاحب المال هو صاحب السيطرة وصاحب النفوذ الأكبر، أما اليوم فإن صاحب السيطرة هو صاحب العلم والذكاء ومن يمتلك أدوات التقنية، إنه هو الذي يبدع اليوم المفاهيم الجديدة في اللغة والاقتصاد والفكر والسياسة والاجتماع.

وكما جاء عصر الصناعة وانتهى دون أن ندخله؛ فإنه من الممكن ـ مع أشد الأسف ـ أن ينتهي عصر المعلومات ويبدأ عصر آخر دون أن يكون لنا فيه دور أو مكان. ومن هنا؛ فإن من المهم أن نبادر بأقصى سرعة ممكنة من أجل ترجمة قوانا المالية والاقتصادية إلى قوى معرفية حديثة، وهذا يتطلب الكثير من القرارات والكثير من القيم والأفكار والاتجاهات. ولعل مما يساعد في هذا الأمورُ التالية:

١- نحن في حاجة إلى (رياض أطفال) من نوعية جديدة، رياض أطفال تأخذ على عاتقها تأسيس عقلية الطفل على نحوٍٍ يدفعه في اتجاه حب العلم واحترامه والصبر على تحصيله والتضحية من أجله. وتشتد الحاجة إلى رياض أطفال ممتازة كلما كانت الأسر أقل استعداداً أو أقل أهلية للقيام بتربية أطفالهم تربيةً جيدة. يجب أن يتعلم الطفل في مرحلة الروضة أن العلم أهم من الذكاء، وأن الأشياء التي نتعب في الحصول عليها تكون ذات قيمة أكبر من الأشياء التي نحصل عليها بطريقة سهلة، وأعتقد أن على الدول أن تهتم بإيجاد رياض للأطفال منذ سن الرابعة، وإذا لم يتيسّر هذا في كل البلاد فليكن في المدن الكبرى على الأقل.

٢- من المهم أن تدرك الأسر لدينا أن توفير تعليم جيد لأبنائها يُعدّ من المهمات الأساسية في هذا الزمان، وقد صار من المهم توفير جزء يسير من الدخل منذ بداية الحياة الزوجية من أجل إنفاقه على تعليم الأولاد في المستقبل. لقد انتهى زمان الأشياء العادية وجاء زمان الأشياء المتفوقة والمتقَنة. والتعليم الجيد مكلف، وعلينا الاستعداد له.

٣- لا بد لأهل المال وأهل المبادرات الخيرة أن يكون لهم دورٌ مؤثر في هذا، وقد قام أهل الخير في بعض الدول بتأسيس صناديق للقرض الحسن، يتم من خلالها ابتعاث الطلاب للدراسة وتحصيل العلم، والإنفاق أيضاً على طلاب الدراسات العليا. ويمكن للدولة أن تسنّ بعض القوانين التي تلزم المؤسسات المالية الكبرى توفيرَ قروض حسنة للنابهين والمتفوقين من خريجي الثانويات والجامعات ممن لا يستطيع أهلوهم الإنفاق عليهم.

٤- يشكو العالم الإسلامي من ندرة الجامعات الممتازة؛ حيث ليس لدينا أي جامعة إسلامية أو في دولة إسلامية مصنفة ضمن أفضل مئة جامعة على مستوى العالم، وإن البحث العلمي في معظم جامعاتنا هامشي وعقيم. إننا نرسل أبناءنا إلى الغرب كي يتعلموا، فننفق عليهم هناك الأموال الطائلة، ونعرّضهم لمخاطر الفتنة الثقافية السلوكية، وكثير منهم لا يعودون إلينا؛ وقد آن الأوان لقيام مؤسسات عملاقة تتبنّى إقامة جامعات ومراكز بحوث ممتازة، وفي مجتمعاتنا اليوم شريحة واسعة قادرة على دفع تكاليف ذلك مهما علت، ومن ثم فإنه ليس للتأخر في القيام بهذا العمل أي مسوِّغ.

٥- لا بد أن يتكامل مع كل ما ذكرناه إيجاد مشروع وطني للقراءة في كل قطر إسلامي، وهذا المشروع تطلق شرارتَه الأولى الحكوماتُ، ثم ينخرط فيه الكثير من الجهات والفئات وطالبي المعرفة. إن إعراض أكثر من (٩٠%) من فتيان الأمة وشبابها عن قراءة الجيد والاحتفال بالكتاب النافع يشكل خطورة ثقافية واجتماعية أكبر من الخطورة التي يشكلها التدخين أو إدمان المخدرات أو الطلاق؛ لأن الجهل في عصر يقوم التقدم فيه على العلم والبحث والاكتشاف يضع الأمة في مربع الوهن، ويدفع بها بعيداً عن حلبة المنافسة العالمية.

إن الازدهار ومدافعة الأعداء وحل المشكلات الآسنة اليوم تحتاج إلى ثلاثة أمور أساسية: العلم، ثم العلم، ثم العلم. وحضارة الإسلام قامت أساساً على العلم والإيمان، وهذا ما