للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[هل تحتل أمريكا سورية؟]

ممدوح إسماعيل

الحقيقة أنه لم يكن تقرير ميليس وما احتواه من اتهامات لشخصيات سورية مفاجأة لي، ولا ما تبعه بعد ذلك من صدور القرار ١٦٣٦ من مجلس الأمن، الذي يفرض على سورية التعاون مع لجنة التحقيق في اغتيال الحريري، ويحمل اتهاماً لها بذلك الفعل الشنيع.

ذلك ليس استبعاداً لضلوع شخصيات سورية أو لبنانية في اغتيال الحريري، ولكن المهم في الأمر أن العلاقة بين سورية والولايات المتحدة الأمريكية ـ صاحبة القرار الأول والرئيسي في مجلس الأمن ـ لم تكن أبداً في يوم من الأيام على وفاق دائم؛ فالسوريون منذ ما يزيد عن أربعين عاماً حملوا راية الفكر القومي العروبي، وعملوا على نشره بكل السبل، واتجهت علاقتهم السياسية الدولية وتحالفاتهم إلى المعسكر الشرقي، بقيادة الاتحاد السوفييتي العدو التقليدي للولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الغربي، ومن وقتها وهم دائماً على نقيض وخلاف سياسي مع الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف الأول للعدو الصهيوني، وهذا الخلاف تقل حدّته أو ترتفع بحسب الظروف الدولية، ورغم سقوط الاتحاد السوفييتي وتغيّر خارطة المجتمع الدولي سياسياً إلا أن (الصراع العربي الصهيوني) واحتلال العدو للجولان أبقى على توتر العلاقات السورية الأمريكية، وجاء احتلال العراق وما تبعه سياسياً من خطط وسياسة أمريكية تسعى لتفتيت المنطقة العربية وما بقي فيها من أي شكل من أشكال الوحدة العربية، والأخطر هو العمل على محو إرادة المقاومة للعدوان تماماً في المنطقة العربية، مما زاد من حدّة الخلاف السياسي، نظراً لوجود بقية من قادة الفكر القومي في سورية، وحملهم لواءه منفردين بعد سقوط العراق، وإن كان الأمريكان يدَّعون بتساهل سوري مع المتسللين لدعم المقاومة العراقية.. وقد سبق للولايات المتحدة الأمريكية بالاتفاق مع فرنسا أن دفعا مجلس الأمن لإصدار القرار ١٥٥٩ الذي يتضمن إنهاء الوجود السوري من لبنان، وذلك قبل تقرير ميليس، وقبل اغتيال الحريري.... لكن بعيداً عن اغتيال الحريري وتداعياته المستغلة سياسياً إقليمياً ودولياً نجد أنه من الملاحظ أن سورية والعراق كانا يتنافسان في حمل لواء القومية العربية، وكانا يتنافسان في دعم المقاومة الفلسطينية، وإن زادت سورية في دعم حزب الله ووجود قوة في علاقاتها العربية؛ بعكس العراق الذي خلا من هذين الأمرين وإن اتحدا في شكل نظام الحكم الشمولي القائم على القوة الأمنية السلطوية ليبقى التساؤل: ما الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية تغزو وتحتل العراق ولا تفعل ولن تفعل ذلك في سورية؟ الإجابة واضحة ونجدها في الأسباب التالية:

أولاً: الإدارة الأمريكية تختار دائماً الأهداف السهلة في ضرباتها العسكرية والعراق أسهل من سورية للآتي:

١ - علاقة النظام العراقي المتدنية مع دول الجوار ـ إيران والكويت وتركيا وأيضاً السعودية وسورية ـ كانت من أهم الأسباب التي ساعدت على غزو العراق بطرق متنوعة، بعكس سورية التي تحتفظ بعلاقات قوية مع كثير من دول الجوار، خاصة تحالفها الإستراتيجي مع إيران صاحبة القوة النووية.

٢ - ضعف القدرات العسكرية العراقية؛ لخوضها حروباً عديدة، مثل: الحرب الإيرانية العراقية، وغزو الكويت، وحرب الخليج، التي أضعفت وأرهقت القدرات العسكرية العراقية. ولا يفوتنا الإشارة إلى سلاح القوات الجوية العراقي الذي انهار واختفى تماماً؛ بعكس القدرات العسكرية السورية التي منذ حرب أكتوبر ١٩٧٣م وهي في حالة نمو وتجديد، ولم تتدخل إلا في لبنان وحرب تحرير الكويت، وهو تدخل ساعد على تقوية القدرات العسكرية السورية ولم يضعفه، وسلاحها الجوي ما زال له تواجد وقوة، والأخبار المتناثرة تشير إلى تطوير سورية في منظومة الصواريخ عبر التعاون مع كوريا الشمالية.

٣ - البترول ذلك الذهب الأسود المتوافر في العراق بعكس سورية تماماً.

ثانياً: التركيبة السكانية؛ حيث يلاحظ في التركيبة السكانية العراقية تنوّع واختلافات قوية، ما بين طائفية وعرقية، ولا تقف عند ذلك بل تتعدى إلى نسبة تلك الطوائف والعرقيات في عدد السكان، وهي الملحوظة الهامة في هذا السياق، حيث تتفاوت نسبة تقدير كل طائفة؛ فالشيعة يعلنون أنهم الغالبية وهو خلط للأوراق، حيث إن التقديرات الصحيحة تشير إلى أن نسبتهم من ٣٥% إلى ٤٠% من السكان، وأن السُّنّة عددهم يزيد عن ٥٠%، ويشمل ذلك العرب السُّنّة والأكراد والتركمان، والخلط يأتي من حساب الأكراد والتركمان وغيرهم من السُّنّة خارج حساب السُّنّة على أساس حسابهم ضمن العرقيات فقط.

على العموم هذه التركيبة السكانية باختلافاتها محمّلة بكُرْهٍ ومرارة ومعارضة شديدة تجاه نظام الحكم العراقي البعثي الديكتاتوري، مما جعل الجبهة الداخلية ممزقة ومنفصلة تماماً عن النظام، مما ساعد على إضعافه وسقوطه بالتعاون مع الشيعة والأكراد ومليشياتهما التي كان لها شبه سيطرة على شمال وجنوب العراق بعد حرب الخليج الثانية، وفي ظل الحظر الجوي الأمريكي على مناطق الشمال والجنوب.

أما في سورية فالأمر مختلف، حيث على رأس نظام الحكم رئيس علوي من الطائفة العلوية التي تحتل معظم المناصب الهامة في سورية، مع أنها لا تمثل إلاَّ أقل من ١٠% من السكان، وأكثر من ٧٠% من السكان هم من السُّنّة وليس لهم ميليشيات ولا أيّ سيطرة مطلقاً. والقراءة السريعة للتركيبة السكانية السورية تقول: إنهم أجدر من العراق، ولكن استقرار الحكم في سورية ومقدرته العسكرية جعلت استهدافه يتأخر، وكان القول باستهدافه ممكناً وقت مذبحة «حماة» للسُّنّة، منذ ما يقرب من ربع قرن، بحسب مقولات الإدارة الأمريكية في مبررات التدخل العسكري، ولكن وقتها كانت الظروف الدولية متغيرة تماماً، وكان الاتحاد السوفييتي يحمي سورية، وكانت الإدارة الأمريكية مهتمة بالشيوعية في سلّم أولوياتها، ولكن الآن تغيرت الاهتمامات للإدارة الأمريكية، وأصبح السُّنّة هم على سلّم الأولويات الخططية للإدارة الأمريكية، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، التي أصابت الكبرياء الأمريكية في مقتل، وكان منفذوها من السُّنّة فقط، وعلى التحديد من عرب السُّنّة؛ لذلك تغيرت أجندة الإدارة الأمريكية، وتحالفت مع أعدائها وخصومها السياسيين ـ مثل إيران ـ في حربها ضد أفغانستان عبر التسهيلات الجوية، ثم العراق التي كان لا بد للساسة الأمريكيين من ضربها كهدف عربي يُرضي الغرور والكبرياء الأمريكي الجريح في الحادي عشر من سبتمبر، وكانت العراق جاهزة على مائدة الذئب الأمريكي لالتهامها، لكن لماذا تأخرت سورية في الأجندة؟ ولماذا تحاربها الإدارة الأمريكية عبر الطرق القانونية والسياسية والإعلامية والاقتصادية فقط؟

هنا مربط الفرس كما يقولون؛ والحقيقة أنني مندهش للضجيج والصخب الذي ملأ كثيراً من أدوات الإعلام من القوميين وبعض الإسلاميين حول خطة أمريكا لضرب سورية واحتلالها؛ لأن الواقع يقول عكس ذلك؛ فالولايات المتحدة الأمريكية لم تضع في أجندتها احتلال سورية، ولم تعلن عن أي نية عسكرية لذلك، حتى ولو كان في أجندتها السرية خطة عسكرية ضد سورية؛ فهي تعمل على استخدام كل الطرق البديلة والممكنة لإضعاف القرار السياسي السوري والهيمنة عليه فقط، بعد أن استعصى عليها، ثم الإدارة الأمريكية ما زالت تتجرع ويلات المقاومة العراقية السنية، التي أصابت الكثير من الخطط الأمريكية في العراق ـ بل في المنطقة ـ في مقتل؛ يزيد عن ذلك وهو أهم الأسباب، ولا أعلم لماذا يغفل عنه الكثير عمداً، وهو أهل السنة في سورية، الذين يشكلون الغالبية دون أدنى شك؛ فماذا سوف تفعل معهم وهم متأثرون بلا شك من تطورات الأحداث حولهم؟

ومع الموقف الأمريكي من غزو سورية لنا عدة وقفات:

١ - الغزو سوف يسبب إحياء النشاط الإسلامي مصدر الخطر ـ كما يدَّعون ـ للأمريكان، وبما أن الحكومة السورية تصادر الحريات للإسلاميين هناك، فإن ذلك الإحياء من الأسباب التي تجعل الإدارة الأمريكية تطرح فكرة غزو سورية واحتلالها حرصاً على استقرار الحكم حتى لا يقع في أيدي الإسلاميين من أهل السُّنّة، وقد أبصرت الإدارة الأمريكية كيف كان احتلال العراق سبباً لظهور جماعات إسلامية كثيرة في العراق، ما كانت لتظهر لولا الحرب والاحتلال وسقوط النظام الذي كان يصادر وجودها.

٢ - إن الإدارة الأمريكية تلجأ للضغط فقط لمحاولة تفكيك قوة الحكم وتسهيل عملية انتقال السلطة لأشخاص موالين لأمريكا، تحت ما يسمى المعارضة السورية.

٣ - إن الإدارة الأمريكية لجأت لإثارة الملف السوري إعلامياً وسياسياً؛ لجذب الانتباه العالمي بعيداً عن العراق وما تتكبده من خسائر مادية وبشرية، يزيد عن ذلك جذب انتباه الشارع الأمريكي، بعيداً عن النقد الذي وُجّه للإدارة الأمريكية في معالجتها لإعصار كاترينا، وما سبّبه من تدنٍ في شعبية الرئيس بوش.

٤ - المعالجة السياسة والقانونية من خلال الهيئات الدولية من قِبَل الإدارة الأمريكية للملف السوري؛ لتحسين وجهها أمام العالم والشعب الأمريكي؛ بعدما دخلت العراق دون غطاء دولي ونقد شديد من شطر كبير من الشعب الأمريكي.

٥ - وهو أهم النقاط: أن إثارة حرب ومواجهات عسكرية في دولة لها حدود مع إسرائيل له خطورته الشديدة على أمن الصهاينة المحتلين الذين تحميهم أمريكا بكل ما تستطيع.

٦ - سقوط النظام السوري يفسح المجال للشعب السوري لتحرير الجولان، ويعني أيضاً تدافع الفلسطينيين الموجودين في المخيمات في سورية ـ وهم حوالي نصف مليون ـ إلى فتح جبهة قتال مع العدو الصهيوني كان النظام السوري مغلقها تماماً.

٧ - لا يُعقَل والإدارة الأمريكية فشلت بكل الطرق في احتواء أو إبادة المقاومة العراقية أن تفتح باباً جديداً لمقاومةٍ سوريةٍ لن تجد معارضة كما يحدث في العراق.

٨ - سوف تلجأ الإدارة الأمريكية للضغط بكل طريقة خفية على الدول العربية القريبة من سورية؛ لدفعها للضغط على النظام السوري، واستخدامها كأداة لإذعان القرار السياسي السوري للأداة الأمريكية، وهو طريق مرجو منه النتائج، حيث سبق للدول العربية الصديقة لسورية أن أدخلت سورية في التسوية أو العملية السلمية كما يطلقون عليها إبان عهد الرئيس حافظ الأسد القوي.

وقد وقع في يدي صحيفة الكرامة المصرية العدد ٧ تاريخ ١٥/١١/٢٠٠٥ صفحة (٩) فقد نقلت عن صحيفة «معاريف» الصهيونية شهادة من عدو فلنتأملها بدقة، وهي عدة آراء لمحللين عسكريين، منهم رئيس الاستخبارات العسكرية (أهارون زئيفي) الذي يرى أن الحفاظ على استقرار سورية هو الخيار الأفضل، حيث يربط بين ما أسماه الجهاد الإسلامي العالمي ووجود أغلبية سنية في سورية، ويرى أن النهاية الحتمية لأي تدخل عسكري أمريكي بريطاني سيكون بمثابة فتح الباب لنشاط الإسلاميين على غرار بن لادن والقاعدة، وهو الرأي الذي يؤيده (إفرايم هاليفي) الرئيس السابق للموساد، ويقول «بن كسبيت» المحلل الصهيوني لصحيفة «معاريف» : إن الاتجاه الصهيوني المحافظ ـ والمتمثل في قادة الأجهزة الأمنية وشارون رئيس الوزراء وموفاز وزير الدفاع ـ يميل إلى بقاء الوضع القائم في سورية مستقراً دون القفز إلى المجهول. ويقول «جاكي جوكي» مراسل الشؤون العربية في الصحيفة: «إن دمشق أحد الأنظمة العربية المستقرة، واستقرارها في مصلحة أمريكا وإسرائيل، ولكن من شأن حدوث انقلاب في نظام الحكم في دمشق جَلْبُ نظام حكم إسلامي» . فسورية والصهاينة المحتلون الآن في موقف عداء، ولكن عدو اليوم قد يصبح صديق الغد، ومن الأفضل أن يكون هناك طبيب عيون متقلب، من أن يكون شيخ يعرف جيداً ماذا يريد.

أيضاًً في الموضوع نفسه عن مراسل موقع ديكا للمعلومات الاستخباراتية في واشنطن؛ حيث يقول: «إنه من الممكن التوصل إلى دفع الأسد إلى تحول كبير في سياسة بلاده على غرار العقيد القذافي بوساطة مصرية خليجية، فيعلن قطع أي ـ علاقة مع ما أسماه ـ بالإرهاب في العراق وتنظيم القاعدة، ووقف تعامل البنوك السورية واللبنانية مع هذه الجماعات، والتخلص من الأسلحة الكيماوية والبويولوجية، وقبل ذلك العمل على نزع سلاح حزب الله، وتفكيك قواعد المقاومة سواء الفلسطينية أو اللبنانية، ويشمل ذلك ـ أيضاً ـ العراقية» . اهـ.

ويبدو أن آخر كلمة هي الأهم «تفكيك قواعد المقاومة» ، وأظن أن هذا سوف يحدث في سورية، عبر مقايضة سياسية، من ضمن ثمنها تقرير ميليس الأخير، وسورية تعرف ذلك جيداً.


(*) محامي وكاتب إسلامي.