للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ديمقراطية الاحتلال!]

د. عماد محمد ذياب الحفيّظ

- المقدمة:

مما لا شك فيه أن بعض الفترات التي مرّت على العراق تم فيها تنفيذ خطط تنموية كان لها انعكاساتها الإيجابية على شعب العراق، ابتداءً من الاهتمام بالأسرة والنساء الحوامل، ووصولاً للنشء الجديد منذ الولادة؛ وذلك من خلال وضع برامج تهتم بالمحافظة على الطفولة ورعايتها لإعداد أجيال صحيحة الجسم والعقل قادرة على بناء عراق يتناسب ومتطلبات النمو والتحضر خلال أوائل الربع الأخير من القرن الماضي؛ وهذا ما شهدت به المنظمات الدولية.

ففي مجال رعاية الأمومة والطفولة صار الاهتمام في رفع الواقع الصحي والبيئي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي لخفض معدلات النسبة المئوية لأعداد المرضى والوفيات بين أفراد المجتمع وخاصة لدى الأطفال حديثي الولادة دون سن الخامسة، كما انتشرت الوسائل الحديثة لتنظيم الأسرة والتحصين ضد الأمراض الخطيرة والمعدية، كالسيطرة على أمراض شلل الأطفال والإسهال وأمراض الجهاز التنفسي؛ وصولاً إلى الاهتمام بقطاع الصحة المدرسية والتوعية الصحية للمجتمع، والرقابة الصحية والخدمات العلاجية لمختلف المراحل العمرية في المجتمع العراقي حتى شملت هذه الإجراءات أقصى وأصغر قرية عراقية؛ لذلك نلاحظ انخفاض معدلات الوفيات وخاصة وفيات الأطفال الذين هم دون سن الخامسة من العمر والأمهات في سن الإنجاب؛ وهذا ما لاحظناه في العراق حتى عام ١٩٨٩ - ١٩٩٠؛ حيث أوضحت المسوحات الميدانية والتقارير العلمية عن انخفاض معدل وفيات الأطفال إلى (٢٥ وفاة) لكل ألف طفل، كما أوضحت أن معدلات وفيات الأمهات عند الإنجاب هي (١١.٧) حالة لكل مئة ألف حالة إنجاب، وهذا ما أيّدته تقارير منظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسيف في حينها. بالإضافة إلى ازدياد المستشفيات والمراكز الصحية والعيادات الحكومية في مختلف محافظات العراق، كما تم افتتاح وحدات خاصة للأطفال الخدَّج وحديثي الولادة في جميع مستشفيات الأطفال والمستشفيات العامة حتى بلغت هذه الوحدات (٥٦) وحدة طبية قبل عام ١٩٩٠.

وقد توصل القطاع الصحي في العراق بالماضي إلى نسب من التغطية في مجال التحصين ضد أمراض الطفولة إلى مستويات الدول المتقدمة حسب التقارير الصحية الدولية المعلنة؛ حيث وصلت النسب المئوية في إعطاء لقاحات بي سي جي واللقاح الثلاثي إلى أكثر من (٩٧%) من أعداد الأطفال دون السنة الواحدة من العمر، فضلاً عن خفض معدلات عدد مرات الإصابة بالإسهال لدى الأطفال مرتين فقط خلال السنة، وارتفعت نسبة توعية الأمهات إلى نسبة (٨٠%) من مجموع الأمهات في العراق عام ١٩٨٩.

ثم بدأت بعد ذلك تظهر حالات سلبية كانت من انعكاسات الحصار بعد أحداث عام ١٩٩٠ والذي استمرّ لأكثر من عشر سنوات ثم فترة الحرب عام ٢٠٠٣ وما تلاها حتى يومنا الحاضر، وهذا ما سنسلط عليه الضوء لتحديد هذا الواقع المرير الذي عاشه وما زال يعيشه شعب العراق وخاصة الأطفال الذين معظمهم ولدوا بعد عام ١٩٩٠ أي أنهم ليس لهم أي ذنب في كل هذه المعارك والمآسي، ومع ذلك طالتهم التأثيرات السلبية المباشرة وغير المباشرة لهذه العمليات العسكرية، فحصدت الآلاف المؤلفة من أطفال العراق سواء كانوا ما زالوا أجنة في أرحام أمهاتهم، أو أطفالاً من فئات عمرية مختلفة؛ فضلاً عن آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم أو غيرهم.

- تأثير الديمقراطية على واقع الحياة في المدينة العراقية:

لم تتغير الطبيعة العامة على جانبي الطرق بين محافظات العراق؛ فالصحراء تارة تُصْلينا بقيظ صيفها ورمالها وسرابها الساطع، وتارة تبدو أراضيَ قاحلة وقرى قد هجرها أهلها طوعاً أو قسراً بعد أن حكم بالإعدام على مزارعهم لأسباب عديدة لا داعي للخوض فيها الآن.

إلا أن الطرق في العراق أصبحت أقل اعتدالاً واتساعاً للذهاب والإياب بين المدن، وقد ازدانت أرضياتها بالحفر والتصدّعات والكتل الكونكريتية، والتي تفصل بينها ساحات وسطية جرداء (يسميها العراقيون جزرات وسطية) وأسيجة معدنية ذات مواصفات يعتقدها بعضٌ تقارب في مواصفاتها شوارع أوروبا السريعة، وعند كل مسافة محددة تجد ساحات لوقوف الشاحنات والحافلات والسيارات الصغيرة، هذه الساحات نجد فيها مقاعد كونكريتية مظللة لاستراحة المسافرين أنيقة ومخصصة لها هواتف كانت تعمل قبل الاحتلال، إلا أنها غير موجودة الآن؛ فقد نهبت وحطمت صناديقها؛ فما عادت تنفع حتى لرمي القمامة، واختفى الجزء الأكبر من الأسيجة المعدنية لتباع أو تشترى، وتكسّرت مقاعد الساحات ومظلاتها.

عند مداخل كل مدينة من مدن العراق تشاهد بقايا حدائق وساحات فيها بقع من الزرع المتهالك المصفر بسبب شحة المياه التي لم تعد متاحة للمواطنين وخاصة بعد أن فاضت مجاريها، فأصبحت تلك الساحات لرمي القمامة والأزبال بعد أن كانت حدائق غناء تذهب إليها العوائل العراقية للراحة، وليلعب فيها الأطفال، واليوم هي مرتع للفئران والحشرات والحيوانات والأطفال السائبة (عذراً فهذا هو الواقع) !

أما عن أسواق المدينة فقد غاب الكثير من معالمها وهندستها بعد أن طال اشتياقها إلى عقول المهندسين وأيادي العمال المهرة الذين كانوا يعملون على عمرانها وصيانتها وإدامتها، فأصبحت تحل بين زواياها ومداخلها المهملة البسطات أمام المحلات والدكاكين التي أنهكتها حرارة الشمس وظروف القتل والمداهمات والاعتقالات العشوائية والإجرامية، والقصف الجوي والمدفعي لتحيل المدن والبلدات والقريات قاعاً صفصفاً؛ وطبعاً وفق مقاييس طائفية وعرقية، ولتبدأ رحلة كل يوم مع انقطاع التيار الكهربائي وشحة مياه الشرب، فتختلط على القادم قطرات عرق العمل وعرق القيظ مع قطرات الدموع حيث تتكفل ظلمة الليل حجب الواقع المرير الذي تعيشه كل مدينة، أو بلدة، أو قرية عراقية، وما خفي كان أعظم.

- مدن في ظل ديمقراطية المحتل:

نجد بين رواد الأسواق وباعتها في المدن السيدات العراقيات قد ذبلن وهزلن، لا بفعل السنين فحسب بل لغياب معظم مقومات الحياة أو ارتفاع أسعارها، وما يلاقينه من ضنك وعذاب.

أما اللون المفضل لدى معظم نساء وشابات العراق اليوم فهو اللون الأسود الذي أصبح السائد في كل مدينة، ليس بسبب استمرار حالات الوفيات بين أفراد العائلة الواحدة أو أقاربها وجيرانها وأصدقائها، بل لقتلهم بأيدي آثمة لأسباب طائفية أو عرقية، أو بسبب الجريمة المنظمة التي تقف وراءها ميليشيات تقبض الثمن وبحماية جهات من السلطة الحاكمة لحمايتها في تحقيق مآربها أو مآرب المحتل، وهذا ما ترك بصمته على رغبتهن في ارتداء ثياب ذات ألوان مختلفة نتيجة حالة العتمة النفسية التي يعشنها على مضض.

ومع إشراقة صباح يوم جديد تخرج لتتجول بين شوارع وأزقة المدينة العراقية تستوقفك أوضاع الباعة القاعدين والمتجولين والزاحفين والعاجزين؛ فمنهم الصغير دون عشر السنوات، ومنهم الشيخ الذي تجاوز الستين من عمره، وعلى شاكلتهم المتسولون الأطفال أولاداً وبنات ورجالاً مسنين ومسنات، وأحياناً تجد أسرة قد افترشت الرصيف لتتسول، ومن هذه الأسر من جعل أنفاق السابلة في شوارع مراكز المدن مساكن لهم، ثم تشاهد المعوقين ولا ندري من أي معوقي حرب هم؟ ولماذا يتسوّلون؟ أو يعملون كباعة متجولين أو ماسحي زجاج سيارات عند الإشارات الضوئية يتدافعون أو باعة صحف وجرائد على الأرصفة يلهثون.

وإن رغبت أن تبحث عن جريدة لتقرأها وتتابع ما كتبت صحافتهم أو قراءة بعض خطوطها العريضة فستجدها ومعظم وسائل إعلامهم تنطق بالطائفية المتطرفة أو العرقية المتعصّبة، وقد تم شراء ذمم معظم أقلام هذه الصحف من قِبَل المحتل؛ وذلك لنشر الديمقراطية التي يصوّرونها بالأمل المنشود في المستقبل غير المعهود بالواقع الممجوج، إلا أنك لن تجد سوى صحف قد تقزمت حتى لا يتجاوز عدد وحجم صفحاتها ربع حجم الجريدة الاعتيادية، وسعرها أصبح ١٥٠ ديناراً عراقياً لكنها تباع بمبلغ ٥٠٠ دينار أو تزيد؛ فالسواد شمل كل شيء وليس أسواقها فقط؛ فقد أصبحت قراءة الصحف نوعاً من الترف والإسراف المالي بعد أن كانت بالحجم والوسيلة التي يراها القارئ تناسبه، لذا يضطر بعضهم إلى أن يقرأ الجريدة لقاء أجر وزمن معلوم ليعيدها للبائع كي يقرأها مستأجر آخر بمبلغ بسيط وهكذا؛ وعليك أن لا تعترض؛ فهذا حق مشروع في الممارسات الغريبة في ظل الديمقراطية الغربية القادمة من بلاد ممارسات الغرائب والعجائب التي أحالت المدن المحرّرة الى خرائب.

- العدالة والحرية في ظل محتل ديمقراطي:

أصبح الأطفال والرجال والنساء والشيوخ يكتشفون ويبتكرون أعمالاً لا تخطر على بال أحد كي يعيلوا عائلاتهم أو يرفعوا مستوى مدخولاتهم بما يتناسب ومتطلبات الحياة اليومية؛ ففي النهاية هي أفضل من السرقة والانحراف، وأحفظ للشرف والكرامة، وأفضل من بيع طفله أو أحد أعضاء جسده؛ فالبطالة قد تمكن المحتل من القضاء عليها حتى أصبحت نسبتها ٦٥% اليوم، والعمل متاح لمن يؤيد الاحتلال ويروّج لمشاريعه المختلفة من فساد وفجور وانحراف وشذوذ لبسط نفوذه ومخالبه بجسد الضحية؛ حيث أصبح المجرم عادلاً، والسارق مانحاً، والخائن مخلصاً، والكافر عابداً، والكاذب صادقاً، والذي يقاوم الاحتلال سلباً أو إيجاباً جاحداً؛ وحدّث ولا حرج؛ فكل شيء مخالف للقيم فهو فكر متجدّد غير بائد.

نعم! إن الكل يشكون من واقع معاشي صعب في الوقت الذي يجني فية كبار موظفي الدولة غير المسؤولين، بل المنتفعين بمليارات الدنانير العراقية دون رقيب أو حسيب، فأصبح أصحاب المهن الحرة والباعة وصغار الموظفين والمتقاعدين جميعاً يعانون، مما اضطر معظمهم إلى بيع أثاثه وأجهزته المنزلية، ومنهم من باع أبواب وشبابيك بيته، بل وباع دار سكنه كي يستطيع أن يعيل أسرته؛ فالأجور والمرتبات لا تكفي إلا جزءاً يسيراً من أيام الشهر كي يعيل عائلته، ونجد أيضاً أن الإكرامية والبقشيش أصبحت حقاً مدفوعاً للصنائعي والعامل والضابط والموظف والمسؤول؛ وإن اختلفت مستوياتهم؛ ومسؤولياتهم فهي حق مشروع لإنجاز عمل لك أو معاملة تأخر إنجازها أو عمل تتقدم لتعمل فيه؛ ففي كل يوم عليك أن تدفع؛ ابتداءً من عامل التتنظيف، ومروراً بسائق النقل العام وموظف الحكومة وغيرهم من الذين يعملون على حماية الممتلكات الشخصية والعامة؛ فالكل يطالبون بحق معلوم كالسائل والمحروم.

أجل هذه حقيقة في بلد كانت تعتبر الإكرامية فيه رشوة وهي جريمة تؤدي الى السجن وإن غابت الديمقراطية، وكانت الرشوة إهانة لا يرضاها أحد مهما صغرت أو كبرت طبيعة عمله، بل وكانت تعتبر حالة من حالات التخريب الاقتصادي والاجتماعي، واليوم تغض عنها الطرفَ الجهاتُ القضائية والأمنية والشعبية المعنية؛ فالكل أصبحوا متساوين كأسنان المشط بالفساد المالي والإداري. عذراً هناك أمشاط قد تتباين أحجامها وعند ذاك لا تتساوى أسنان مشط مع أسنان مشط آخر.

ما أصعب الواقع إن أردت أن تحيا حياة كريمة ودخلك الشهري لا يتجاوز ١٠٠ دولار أمريكي أو أقل وحتى لو يزيد في الوقت الذي تفرض عليك احتياجاتك الشهرية أن يكون دخلك الشهري لا يقل عن ٥٠٠ دولار أي حوالي ٧٥٠ ألف دينار عراقي أو يزيد، فالدولار الواحد لا يعني سوى ١٥٠٠ دينار وقد يقل أو يزيد يومياً. ماذا تشتري بهذا الدخل وإن كانت توجد الحصة التموينية لك ولأفراد أسرتك؟ فبكم تشتري المأكل الذي لا توفره لك الحصة التموينية؟! وما أطول قائمة المأكل وما أقصر قائمة التموين؟! وبكم تشتري لأطفالك عند ذهابهم إلى المدرسة؟! فبذلة الطفل لا تقل عن ٢٥ ألف دينار، وحذاؤه لا يقل عن ١٠ آلاف دينار، والقائمة تطول؟ أم تشتري القرطاسية للابن والبنت، فهي لا توفرها الجهات التعليمية بما فيها قلم الرصاص الذي سعره يتراوح ما بين ١٠٠ - ٢٠٠ دينار، وكراسة المدرسة سعرها يتراوح ما بين ٢٠٠ ـ ٤٠٠ دينار، وكم تستطيع أن تشتري منها خلال العام الدراسي وغيرها وغيرها وغيرها؟

أما كيف تراجع عيادة الطبيب لعلاج أحد أفراد أسرتك إن أصيب بمرض أو زوجتك الحامل؛ فأجرة الطبيب في كل مرّة تتراوح بين ٥٠٠٠ ـ ١٠٠٠٠ دينار أو تزيد؟ وكم أجرة سيارة التاكسي إن توفر البنزين ولو في السوق السوداء؟ كما أن المستشفيات الحكومية حدّث عنها ولا حرج؛ فحتى الدواء لا توفره لك دون أن تدفع الحق المعلوم ابتداء من الاستعلامات ووصولاً إلى أعلى مسؤول فيها، وإن أردت أن تعالج أسنانك فإنك ستحتاج لما يتراوح ما بين ١٠٠٠٠٠ إلى ٢٠٠٠٠٠ دينار لعلاج أبسط أنواع مشاكل الأسنان وحتى يومنا الحاضر، وإن الدواء الذي كانت الدولة توفر جزءاً منه، إلا أنها كانت توفره عادة لأصحاب الأمراض المزمنة فقط كمرض السكر ومرض القلب وضغط الدم وغير ذلك من الأمراض وبكمية لا تتناسب وحاجة العلاج؛ واليوم أصبحت عملية توفيره أزمة مزمنة، بينما باقي أنواع الدواء فهي غالباً مفقودة؛ لأنها قد تجد طريقاً تخرج به من المستشفيات الحكومية أو مخازنها إلى الصيدليات الخاصة وباعة السوق السوداء، ومنهم من يفترش الأرصفة لبيع تلك الأدوية، وقد تجد أدوية بيطرية تباع لبني البشر في ظلٍّ ديمقراطي غريب؛ حيث تجد الدواء الذي تبحث عنه وإن طال انتظاره وقصر النظر في سعره كيوم عزّ حرّه عند منتصف نهاره وارتفاع شمسه كارتفاع سعره للمواطن البسيط.

- شعب في ظل الديمقراطية النموذج:

هل عليك أن تحكم على نفسك وأسرتك بالإعدام كي تنقذوا أنفسكم من طول المعاناة، أم تحاول جاهداً وبمختلف السبل المشروعة أو غير المشروعة لتوفير ولو جزءاً يسيراً من احتياجاتك اليومية؟!

فقد نجد مثلاً طفلة بعمر تسع سنوات تبيع الماء في الشوارع والساحات المزدحمة منذ شروق الشمس وحتى غروبها، أو طفلاً بعمر عشر سنوات يبيع السجاير عند مواقف الحافلات والساحات العامة وقد يروّج أحياناً المخدرات مع السجائر، وغير ذلك من الوسائل والأساليب التي يلجأ إليها رب الأسرة وزوجته وأطفاله كي يقاوموا الاحتلال ويصمدوا أمام قسوة الإنسان والزمان في ظروف وساعات لا يعلم بها إلا الله؛ فما أدراك ما طبيعة هذه الظروف والساعات، وكيف دفعت بعضاً لترك الوطن، وإن أردت أن تذهب للأسواق للتبضّع وشراء بعض حاجاتك أو لأسرتك فستجدها أسواقاً سوداء لآخر حجر فيها، معتمة حتى في تفاصيلها؛ هذا فضلاً عن الحشيش والمخدرات التي دخلت مع المحتل الديمقراطي أو من خلال الحدود الإيرانية أو غيرها دون رقيب إن لم يكن بحمايته.

إلا أنك لن تجد كل ما تشتهيه نفسك ابتداءً من الخبز الفرنسي في حي المهندسين، والرغيف اللبناني قرب ساحة أبو جعفر المنصور، والفستق الحلبي والإيراني عند المعرض الدولي، والزيتون اليوناني والجبنة الهولندية والشكولاته اللندنية والمعلبات الأمريكية، والزبدة الدانماكية والمارتديلا الإيطالية وغيرها... وغيرها، مما لذ وطاب لمن هو قادر على الشراء دون استحياء ولا يُسأل من أين لك هذه الثروات، وكيف حصلت عليها دون سابق إنذار في ظل ديمقراطية الاحتلال؟

كما توجد في كل مدينة عراقية شريحة حديثة التكوين وهي شريحة الدلالين والدلالات والطفيليين والطفيليات والسارقين والسارقات والقاتلين والقاتلات والخاطفين والخاطفات والمتزلّفين والمتزلّفات بدأت بالظهور بشكل كبير بعد الاحتلال الأمريكي حيث بداية الانفتاح على المستورد مع زيادة دخل العراق بفعل ارتفاع عائدات النفط والتي بلغت ٢٠ مليار دولار سنوياً، إلا أن شعب العراق ظل يلهث ويتدافع في طوابير من أجل الحصول على لقمة العيش التي زاحمه عليها القاصي والداني من الأغراب والمغتربين الجاحدين الذين جاؤوا لتطبيق ديمقراطية الاحتلال، حتى كاد العراقي أن يعيش الغربة في وطنه بعد أن رفضته كل الأوطان.

لقد تطورت هذه الشرائح الشاذة والمنحرفة التي فرضتها ديمقراطية المحتل في العراق؛ فالحضارة تتطوّر في كل أرجاء العالم خلال فترة ما بعد حرب عام ٢٠٠٣؛ فأصبح لهذه الشرائح حدود مفتوحة ومعالم مسموح بها خلال القرن الحادي والعشرين بسبب أحداث فترة ما بعد الحرب في عام ٢٠٠٣، وإن مجال نشاطات هذه الشرائح قد قويت شكيمتها على الأرصفة والطرقات قرب الأحياء التي يسكنها من هم الأفضل دخلاً والأكثر حباً للمحتل في المنطقة الخضراء وما جاورها. أما في الأحياء الشعبية والفقيرة كأحياء مدينة العامل والشعب والحرية والأعظمية والكرخ فلا يمكن القول سوى: أكرمْ عزيز قوم ذل؛ فالأسواق التي كانت مزدحمة وصاخبة كالسوق العربي وسوق الشورجة والسوق العباسي وسوق الثلاثاء وغيرها أصبحت أثراً بعد عين بعد أحداث عام ٢٠٠٣ في ظل الديمقراطية.

- قادة المجتمع الديمقراطي الجدد:

إن معظم بضائع المجتمع الديمقراطي في العراق ليست ذات علامات تجارية مسموعة أو معلومة من الملابس والمكياج والعطور والمواد الغذائية المختلفة، بل تحدّد وفق أسعار يفرضونها على المستهلك المضطر وليس له بديل، وهناك أيضاً من هم متخصصون في إنتاج وتسويق المشروبات الغازية ومساحيق الغسيل وزيوت ودهون الطبخ والسجائر والدقيق وعلب حليب الأطفال دون المواصفات المقبولة، وغير ذلك من المواد الغذائية المغشوشة في ظل حماية رقيب إن حضر فله حق معلوم من فم السائل والمحروم.

بل لقد ظهرت شريحة أخرى في العراق هي شريحة مقاولي أو متعهدي تجارة الأزبال والقمامة ومسوّقي منتجات من علب الشامبو وقناني العطور والمشروبات الغازية المستوردة وجميعها فارغة بعد استخدامها، ومخلّفات المواد البلاستيكية والصفائح المعدنية وغيرها من المنتجات التي يعملون على بيعها إلى وسطاء آخرين لتسويقها بعد تعبئتها بالمواد المغشوشة لتباع كبضاعة أصلية بما في ذلك علب وقناني الدواء، ووجدت هناك من يتاجر بالمواد البلاستيكية المستهلكة وبقايا عظام الحيوان والإنسان والخبز ومخلفات المطاعم وغير ذلك من أنواع البضائع التي أصبحت لها أسواق رائجة في العراق، كل حسب استخداماته وحاجة السوق له، خاصة أن تلال الأزبال والقمامة في المدينة العراقية أصبحت معلماً معروفاً من معالم أزقتها وأحيائها بعد أن كانت أطلال آثار حضارات بلاد الرافدين من أهم معالمها، إلا أن الآثار أخذت هي الأخرى تُسرق وتهرّب إلى خارج العراق من قِبَل أشخاص محتلّين ومن يتبعهم من الغاوين لا شعور لهم بالمسؤولية، بل إن بعضهم جاء محرراً لا غازياً كما يقولون ومبشرين بمفاهيم ديمقراطية صوّروها كقدوم العروس في يوم زفافها لتجلس في الخدر العراقي، وكأن حالهم يقول ساخراً: هنيئاً للشعب العراقي في يوم زفافه بظل الديمقراطية التي تأسّست على تزوير الانتخابات ونهب الثروات وغيرها مما هو فات أو آت.

- الواقع الديمقراطي الجديد:

أصبح للجريمة سطوتها وهيبتها وعلى اختلاف مستويات مسؤوليها ومريديها، ابتداء من سرقة قناني غاز الطبخ ومنظماتها، ومروراً بملابس الغسيل والسيارات والأثاث المنزلية وكل ما غلا ثمنه وخف وزنه، ووصولاً إلى جرائم خطف الأطفال والنساء والرجال من أجل مبلغ من المال، وجرائم احتيال الشركات والمكاتب الوهمية، وجرائم القتل العمد والاعتداء على المحارم، وغير ذلك من الجرائم التي لم يسمع بها شعب العراق من قبل؛ فهي من إفرازات وثقافة ديمقراطية الاحتلال بعد عام ٢٠٠٣ وما جرّت بعدها من ممارسات ديمقراطية لا يعلم خفاياها إلا الله سبحانه وتعالى؛ أضف إلى ذلك جرائم التزوير ابتداء من تزوير العملة المحلية والأجنبية (الصعبة) ووصولاً إلى تزوير مستندات الملكية والوثائق الرسمية والاستيلاء على أراضي المقابر لأغراض شخصية، وشراء العقارات والأراضي بحجج ما أنزل الله بها من سلطان في المدن التي يقولون عنها مقدّسة، حتى أصبح لهذه المهن أسواق مثل سوق الحرامية في مدينة (؟!) وغيره الكثير الكثير؛ فهذا زمان شهرزاد لتروي لنا قصصاً جديدة من ليالي بغداد عمن غادر أو عاد الى ما ضاع من البلاد.

أجل! هكذا تغيرت المدينة العراقية التي ما عدنا نعرفها أو كأن أهلها هجروها وحل محلهم قوم آخرون ليس لهم صلة بأهلها أهل مدينة السلام كما سمّاها أبو جعفر المنصور ـ رحمه الله ـ عذراً فقد تم تفجير نصب مؤسّس بغداد هناك مؤخراً من ِقبَل مجهولين، وما أطول قوائم الاتهام ضد هؤلاء المجهولين في ظل الديمقراطية ... ديمقراطية الاحتلال.


(*) عضو اتحاد المؤرخين العرب.