للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ثمن الانتصار]

نظرة مستقبلية لما بعد فوز حماس في الانتخابات

نبيل شبيب

خلال ست سنوات مضت على وجوده في منصب الرئاسة الأمريكية لم يظهر بوش الابن مضطرباً منفعلاً حائراً بين الإشادة التقليدية المخادِعة بالديمقراطية، وإطلاق التهديدات المتعجرفة، كما كان حاله عند الإجابة عن أسئلةٍ أحرجته خلال مؤتمر صحفي غداة الإعلان عن فوز حماس بالغالبية المطلقة في انتخابات «المجلس التشريعي» الفلسطيني.

وبصعوبةٍ كبيرة حاول بوش تجاهلَ «نهج المقاومة الإسلامية» الذي أعلنته حماس في معركتها الانتخابية، وأثره على الناخب الفلسطيني، واستبعد العنصر التقليدي الحاسم في كلّ عملية تصويت نزيه وحرّ ـ نسبيّاً على الأقلّ ـ وهو الاقتناع بالبرامج الانتخابية للطرف الفائز وحامليها، ليحصر أسباب الفوز في عنصر واحد، هو الاحتجاج الشعبي على انتشار الفساد والنزاعات في السلطة ومنظمة فتح، وهو أحد الأسباب، ولكنّ ما لم يذكره بوش ـ هو أنّ الطرف الذي مارس الفساد وأوغل في النزاعات، هو الطرف الذي تواصل الدعمُ الأمريكي المالي وغير الماليّ له مقابل «مسيرته السلمية» ، وكان دعماً علنياً، لا سيّما أثناء المعركة الانتخابية، بصورة تتجاوز سائر أعراف الديمقراطيين الغربيين مع انتخاباتهم.

كما أفصحت كلمات الرئيس الأمريكي وما رافقها وتلاها من تصريحات غربية، عن الخطّ العام الذي يراد التعامل من خلاله مع الوضع الجديد في الأرض المحتلة عام ١٩٦٧م. وتبعاً لذلك ستقوم السياسة الغربية عموماً وسياسة واشنطن تخصيصاً على المقاطعة السياسية والمالية لحكومةٍ فلسطينية تشكّلها أو تشارك فيها حماس المنتخَبة شعبياً. وأكملت تصريحاتُ بعض المسؤولين من السلطة الفلسطينية الخاسرة للانتخابات معالمَ هذا الخطّ، عندما أشار محمود عبّاس وسانده آخرون إلى أنّ مسيرة «السلام» من اختصاص منظمة التحرير الفلسطينية، الممثّل «الشرعي الوحيد» لشعب فلسطين، وهو ما يعني على أرض الواقع التصريحَ مسبقاً بالعمل على متابعة تلك المسيرة، والتمسّك بدور فريق أوسلو وسبله المتشعّبة على صعيدها، ليتحرّك بها عبر قنوات أخرى، تتجاوز «حكومة حماس» ، ربّما على أمل «عودة فتح إلى السلطة بعد أربع سنوات» ، على حدّ ما تفاءل به الوزير الفلسطيني نبيل شعث، عندما ظهرت النتائج للعيان.

وإذا أخذنا في الاعتبار أيضاً موقف الصمت الأقرب إلى صمت المشدوه في العواصم العربية، أمكن القول إنّ السنوات القادمة ستكون هي الأشدّ على حماس وعلى شعب فلسطين داخل الأرض المحتلة، بالمقارنة مع ما سبقها، وما كان الذي سبقها بسيطاً، صهيونياً ودولياً وإقليمياً، فكأنّ المطلوب ـ أو هذا ما أكّدته المواقف الأولى ـ هو تصعيد «معاقبة» الشعب على عدم الخضوع لعقوباتٍ سابقة لم تنقطع، وإصراره على اختيار ما لا يختاره بوش وأعوانه وأتباعه، وما لا يرضي مَن خلّفهم شارون ليكملوا طريق التقتيل والتدمير والتهويد من بعده.

\ ليس مجرّد زلزال سياسي:

في التحليلات والتعقيبات الفورية على انتصار حماس في الانتخابات كثر الكلام عن زلزال سياسي، وهزّة سياسية، ومرحلة سياسية جديدة، وما شابه ذلك، وكأنّ المطلوب من وراء ذلك التركيز على كلمة «سياسة» لتحقيق أمرين معاً:

١ ـ تركيز الاهتمام على الجانب السياسي من دون البعد التاريخي للحدث بمنظور مجرى قضية فلسطين وما يتّصل بها.

٢ ـ الاقتصار في تصوير المرحلة القادمة عبر منظور «سياسي» للرؤية المفروضة آنيّاً على القضية؛ فكأنّ ما بعد فوز حماس سيؤدّي إلى تغيير في «بعض الوسائل» أو «الخطاب السياسي» أو سيفضي على أبعد الاحتمالات إلى «تجربة سياسية» عابرة ستُثبت عجزَ حماس «الإسلامية» عن تحقيق أهدافها، فتعود الأمور إلى مجراها بعد انتخابات قادمة.. وتتابع «التصفية» خطاها.

يمكن بالمقابل أن نستفيض مع مَن يستفيض طويلاً في الحديث الإيجابي عن الجوانب السياسية لمعنى «الانتصار» في تلك الانتخابات، ولكن لا يصحّ التوقّف عند المديح ونشر الاطمئنان وتعداد ما قدّم الشعب الفلسطيني وأعطى، أو بيان إصراره على انتخاب «نهج المقاومة» رغم الثمن الباهظ الذي يدفعه يومياً. فإلى جانب ذلك كلّه يبقى الأمر الأعمق تأثيراً في المستقبل هو ما يبرزه المنظور التاريخي للجانب السياسي، فالانتصار الانتخابي يمثّل هنا حدثاً منفرداً بذاته في مجرى الأحداث المعاصرة في المنطقة، ويعني فيما يعنيه:

١ ـ خللاً ظاهراً للعيان في مفعول المعادلة المراد فرضها ما بين القهر والخضوع في التعامل مع مخطّطات الهيمنة الأجنبية.. والخلل لا يعني انقطاع التمسّك بأساليب القهر ومحاولة فرض الخضوع.

٢ ـ اضمحلالَ قيمة وسائل وتصوّرات طُرحت بلسان «الواقعيّة» في التعامل مع مخطّطات الطرف الأقوى دولياً.. وتبيّن مدى ضآلة حصيلتها عند الافتقار إلى تعزيزها بنهج المقاومة، ما دام الاحتلال رابضاً والعدوان مستمرّاً.

٣ ـ دليلاً آخر على أهميّة الطاقات الذاتية للشعوب في موازين المواجهة بين العدوان والمقاومة، لا سيّما في حالة الإجرام العدواني بطشاً وتنكيلاً وحصاراً، يعزّزه التنكّر المخزي دولياً وإقليمياً من جانب أكثر الأبعدين والأقربين.

٤ ـ تأكيدَ إخفاقِ آخرِ حلقةٍ مطروحة في مشاريع بدأت في قمّة فاس قبل ربع قرن وانتهت بين متاهات خارطة الطريق ومسار الجدار العنصري؛ فالطرف الذي صنع قضية فلسطين المأساوية عبر الهجمة الصهيونية تاريخياً، هو ـ وليس الطرف الآخر ـ مَن جعلها من البداية من القضايا العصيّة على أساليب تقليدية مثل المفاوضات والتسويات، فكانت قضيّة فلسطين وما تزال قضيّة حقّ وباطل، محورها إنهاء استعمار استيطاني تقليدي، وما انتهت قضية استعمار في التاريخ، إلاّ عن طريق المقاومة والتحرير، سواء اقترنت بمفاوضات لا تتخلّى عن نهج المقاومة وهدف التحرير، أو لم تقترن.

٥ ـ انكشافَ المزيد من زيف شعاراتٍ طالما طُرحت لتنحرف بمضامين مصطلحات بالغة الأهمية في الأدبيّات السياسية للقضية، مثل كلمات «الثوابت الوطنية» و «الحقوق المشروعة» و «السلام العادل» ناهيك عن «شرعية دولية» مزعومة، وهي مجرّد إفرازات قرارات الهيمنة المحضة عبر موازين القوّة الآنيّة، بما يخالف «الشرعية الدولية» القائمة على مُثُل ومبادئ موثّقة.

٦ ـ زعزعةَ مصداقيّة ما بقي من مزاعم الدفاع عن «الإرادة الشعبية» و «المصلحة الوطنية» و «تحسين الظروف المعيشية» وما شابه ذلك، ما دام طرح هذه الأهداف لا يقترن بالعمل على تحريرها من الخضوع لإرادة معادية أو مهيمنة، عن طريق قوّة عسكرية أو عن طريق الحصار والمقاطعة.

\ التهديد بالتجويع:

يعني انتصار حماس الانتخابيّ في الوقت نفسه أنّ أخطار المرحلة القادمة ستتفاقم، ومن تلك الأخطار ما قد يرتبط مباشرة بما تصنعه حماس ومن ورائها شعب فلسطين، بهذا الانتصار، ومنها ما يرتبط بالمنطقة إقليمياً، واحتمالات التراخي عن استخدام الطاقات الذاتية لتوظيف الحدث من أجل الخروج من عنق زجاجةِ الاختناقِ الذاتي والعجز الذي وضعت نفسها فيه عبر تعامل دولها الاستسلامي مع الهجمة الصهيوأمريكية الجديدة.

المخاطر معروفة علنية.. ففي قضية فلسطين نواجه مخطّطات علنية يجري تنفيذها، ولا يتورّع القائمون عليها عن التهديد باتّباع أبشع السبل والوسائل لبلوغ غاياتهم من خلالها، مهما تعارضت مع سائر ما يزعمون تبنّيه على صعيد قانون دولي أو إنساني وحقوق وحريات وديمقراطية وانتخابات.

من ذلك ما يجري تركيز الأنظار عليه أكثر من سواه، أي التهديدات الصادرة عن مسؤولين أمريكيين وأوروبيين بقطع ما يقدّمونه ماليّاً تحت عنوان دعم العمران وتطوير الأوضاع الاقتصادية، وهم يعلمون أنّ مفعوله كان يضيع باستمرار تحت جنازير الدبابات والجرّافات واستهداف البنى التحتية والمنشآت وإتلاف الحقول وقطع الأشجار وفرض ألوان الحصار بفلسطين، دون أن تبذل «الأطراف المانحة» ـ كما يصفون أنفسهم والمانعة كما أصبحت واقعياً ـ أيّ جهد لوقف عملية التدمير الصهيونية الجارية!

هل يصحّ تركيز الأنظار على هذا التهديد واعتباره هو العنصر الحاسم في نجاح «حكومة حماس» مستقبلاً أو إخفاقها؟

لقد رُبطت المساعدات الغربية طوال السنوات الماضية بتمكين سلطة أوسلو وأجهزتها الأمنية من إكراه الشعب الفلسطيني على طريق أوسلو، وهو ما رافقه ضرب عسكري متواصل شمل السلطة نفسها ناهيك عن حصار تجويع مستمرّ، وليس مجرّد تهديد به.

إنّ انتصار حماس الانتخابي يؤكّد إخفاق هذا النهج المسيطر منذ عشرة أعوام على الأقلّ، كما يكشف واقعياً أنّ حصيلة «المساعدات» التي يأتي التهديد بقطعها، لم تكن بمجملها تصل إلى شعب فلسطين ولم تيسّر عليه أسباب البقاء اليومية المحضة ناهيك عن رفع مستوى الحياة المعيشية، فكيف يراد أن يحقّق التهديد بقطعها مفعوله الآن بشأن إكراه الشعب على مسيرة أوسلو وما بعدها؟ إنّ التناقض الأكبر كامن في الاعتقاد بقابليّة الوصول إلى هذا الإكراه عن طريق التهديد بقطع ما لم يصل إلى الشعب عموماً، وما لم ينجح على كلّ حال من قبلُ في تغيير مسيرته على نهج المقاومة تخصيصاً.

الواقع أنّ الانتصار الانتخابي لم يكن انتصار حماس بالذات، بل انتصاراً شعبياً يعزّز نهج المقاومة رغم الثمن الباهظ، وهذا ما لا يستوعبه التركيز الدولي والمحلي فيما يقال بشأن قطع المعونة الدولية.

الوجه الآخر لمعادلة «حصار التجويع» هو أنّ التصويت لحماس كان نتيجة طبيعية لتحرّكها الشعبي، اعتماداً على الطاقات الذاتية، وليس على معونة دولية، وكان في تحرّكها هذا ما يعوّض بحدّ أدنى عما يخسره أهل فلسطين من أسباب المعيشة الكريمة تحت وطأة الاحتلال والعدوان المتواصليْن، وحصار التجويع بمشاركة دولية.

من هنا لا يبدو السؤال الأهمّ في المرحلة القادمة هو السؤال المطروح في كلّ مكان عن تعامل حماس مع القوى الدولية الرافضة لها وهل تستطيع ذلك أم لا؟ أي هل تتمكّن من جلب معونة دولية أم لا تتمكّن؟ بل هو السؤال عمّا بقي لتلك القوى من أساليب للتعامل مع خيار الإرادة الشعبية الفلسطينية، فهي التي أبرزت موقع حماس المتميّز شعبياً، من قبل وصولها إلى السلطة.

المهمّ هنا أنّ وجود حماس في ميادين العمل الاجتماعي الشعبي كان موازياً من حيث حجمه وقيمته لوجودها في ميادين المقاومة وميادين رفض الخضوع للمساومات السياسية، ولا يمكن ـ في المستقبل أيضاً ـ أن تحقّق حماس أيّ نجاح أو انتصار يستحقّ هذا الوصف، دون أن يبقى وجودها في تلك الميادين بالذات، موازياً ومكملاً لوجودها في السلطة.. وتلك هي «السياسة الواقعية» بمعناها الأصلي.

ولا يخفى أنّ التفاؤل باستمرارية حماس والشعب الفلسطيني على هذا الطريق لا ينفي توقّع مزيد من الصعوبات، مهما قيل للتهوين من شأنها. إنّ ما قد يأتي في المرحلة المقبلة لا يمكن أن يتجاوز ـ بمعايير الإجرام اللاإنساني ـ ما سبق أن كان في مرحلة ماضية، ومن ثَم فمن تحرّك شعبياً في الظروف الماضية قادر على مواصلة التحرّك شعبياً في الظروف القادمة.

هذا صحيح.. ولكن لا ينبغي إغفال أنّ الإخفاق في هذه الاستمرارية بالذات هو في مقدّمة ما يراهن عليه المتربّصون بحماس وقضية فلسطين، داخلياً وخارجياً، ولا يُستبعد أن يضاف إلى أساليب الاجتياحات والاغتيالات والحصار المتّبعة حتّى الآن مزيدٌ من أساليب القهر، حتى على صعيد التواصل بين أشلاء الجسد الفلسطيني الواحد الذي ساهمت مسيرة أوسلو في تقطيع أوصاله داخل الأراضي المحتلّة عام ١٩٦٧م، لا سيّما في الضفة الغربية.

\.. والإغراء بلا شيء:

كان الانتصار الانتخابي لحماس متوقّعاً، بل بدا قُبَيِل الانتخابات أنّ القوى الغربيّة بالذات بدأت تضعه في حسابها، وهذا إلى درجة القول الانهزامي إنّها ساهمت هي في تمرير الحدث! القائلون بذلك هم الذين ينطلقون غالباً من تعطيل مفعول أيّ عنصر من عناصر صناعة الأحداث وتفسيرها خارج نطاق التسليم المطلق بالقدرة المطلقة للهيمنة المعادية! والواقع أنّ القوى الدولية تعمل على صناعة الأحداث بنفسها، ولكنّها تتعامل أيضاً مع أحداث يصنعها سواها تعاملاً «واقعيّاً» يقوم على محاولة فهمها واستيعابها ومن ثمّ توظيفها لتحقيق أغراض ذاتية أو مواجهتها بجهود مضادّة. وقد بدأت مبكّراً بطرح تصوّراتها بشأن ضبط النتائج المنتظرة عبر فوز حماس، ومحور تصوّراتها هو استخدام وسائل التهديد والقمع والإغراء معاً، وهدفها المعلن هو العمل لمنع إسهام هذا الحدث في تحقيق هدف التحرير الأعلى شأناً من أيّ انتخابات ومن سائر التنظيمات.

إنّ عنصر استخدام القوّة والتهديد بها كان قبل الانتخابات وسيستمرّ بعدها. والمطلوب صهيونياً ودولياً أن يبقى هذا العنصر موجوداً وفعّالاً من وراء التعامل بأي أسلوب سياسي للإملاءات أو التسويات على السواء. وإنّ إجهاض نتائج الانتصار الانتخابي عبر استخدام القوّة العسكرية في مرحلة مقبلة أمر محتمل وموضوع في الحسبان دون ريب، وقد يمكن إخراجه غربيّاً إذا تقرّر تنفيذه فعلاً، في صيغة نشر التيئيس من نهج المقاومة أصلاً، أي «عجز حماس عن تحقيق أهدافها عبر السلطة» نتيجة رفض «الانصياع» ـ كسواها ـ لإرادة القوى الدولية المهمينة.

وفي هذا الإطار للمنظور الغربيّ فقط يظهر أيضاً تصوير انتصار حماس الانتخابي «فرصةً» للتمكّن من تطويعها «أيضاً» على طريق تصفية القضية، ما بين عنصري «التهدئة والتصعيد» لاستخدام وسائل البطش العسكري وحصار التجويع. ولكن حتّى على افتراض تحقيق ذلك الهدف جدلاً، يجب أن يكون واضحاً كلّ الوضوح، أنّ قضية حماس ليست أكبر من السلطة فقط، بل هي أكبر من حماس وسواها أيضاً، فلو ذابت حماس وتلاشت طاقاتها الكبيرة، فلن تذوب معها قضيّة فلسطين، قضية الأجيال، وقضية التحرير والمصير.

في الوقت الحاضر يبدو المطلوب في هذا الإطار من قبيل التمنّيات وربّما الأوهام، وهو أن تقبل حماس بما قبلت به منظمات لا تتبنّى النهج الإسلامي، فتتحوّل من نهج المقاومة إلى نهج المشاركة في تصفية القضية الفلسطينية؛ فهذا ـ لو تحقّق ـ يساهم أكثر من أيّ حدث آخر في تحقيق «الحلم الصهيوأمريكي» لإعطاء صبغةِ مشروعيةٍ شعبيةٍ ما، لتهويد الجزء الأكبر من أرض فلسطين التاريخية، بدعوى الاعتماد على توقيعات «المنتخَبين انتخاباً مشروعاً» .. حتّى وإن بقيت إشكاليّة تجاهل إرادة الشعب في الشتات وإشكاليات عديدة أخرى، أهمّها أنّ حق التحرير وحق تقرير المصير ليسا من الحقوق التي يمكن طرحها في انتخابات، أو استفتاءات؛ فهي حقوق ثابتة سابقاً ولاحقاً، لا تسقط بالتقادم ولا تسقط بالمناورات السياسية.

وفي نطاق التعامل الغربي مع النهج الإسلامي ونهج المقاومة في المنطقة على وجه التعميم، لا يُستبعد على القوى الدولية المعادية الاعتقاد بقدرتها على المخاطرة بتجربة انتزاع مثل ذلك التراجع «التاريخي» من جانب تنظيم إسلامي الاتجاه؛ ففي الأرض الفلسطينية المحتلّة بالذات، يمكن الاعتماد على الأداة الاحتياطية المشرعة لمواجهة احتمال إخفاق التجربة، بالقوّة العسكرية للاحتلال المباشر، وهو ما لا ينطبق على تجربة التعامل مع انتصار مشابه للتيّار الإسلامي، في أيّ بلد مستقلّ، وانتظار رؤية ما إذا كان سيتراجع عن قيمه وثوابته أم لا.

وحصيلة التجربة مع حماس قابلة للتعميم دعائياً ـ لو تحقّقت التمنيّات الغربية ـ للتيئيس عموماً من قابلية نجاح النهج الإسلامي ونهج المقاومة الإسلامية عموماً، بما يشمل أيضاً عدم جدوى اختيار هذا النهج عبر انتخابات «حرّة نزيهة» على افتراض إجرائها في بلد ما أصلاً، وإن كان قد انتشر شعبياً الاقتناع بصدد الارتباط بالإسلام لا التنظيمات، وأنّ الالتزام بالإسلام هو الذي يحكم على التنظيمات وليس العكس.

مهما كان استقراؤنا لمعالم المرحلة المقبلة فسيبقى من المؤكّد أنّ الخطر الحقيقي الذي ينبغي أن يراه ويحذر منه المخلصون من داخل حماس وخارجها، ليس خطراً خارجياً جديداً؛ فالأخطار الخارجية قائمة باستمرار، ومتنامية أيضاً، بل هو خطر التراجع الذاتي، أو الانشغال بأعباء إضافية تفرضها متطلّبات ممارسة السلطة عن الالتحام الشعبي الذي أوصل إلى الانتصار الانتخابي، ومع ملاحظة أنّه مجرّد انتصار محدود في نطاق ما هو أقلّ من «حكم ذاتي» بمراحل، ناهيك عن حالة استقلال ناجز، وقيمته الحقيقية مرتبطة فقط بمقدار توظيفه على طريق التحرير.. وليس على طريق ممارسة السلطة بصورة مجرّدة عن هدف التحرير، أي عن نهج المقاومة.

ومقابل التهديد بالضغوط تَطرح الأطراف الغربية علناً ـ ولا نحسب الأطراف العربية ستقصّر في ذلك أيضاً ـ ما يمكن وصفه بمحاولات الإغراء أو المقايضة على حماس.. فالمطلوب عموماً:

١ ـ تبديل ميثاق منظمة المقاومة الإسلامية حماس كما بدّلت منظمات فلسطينية سابقة ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية.

٢ ـ الانضمام إلى مسيرة أوسلو ومدريد رسمياً بعد اعتبار المشاركة في الانتخابات وفي «المجلس التشريعي» اعترافاً واقعياً بتلك المسيرة.

٣ ـ التخلّي عن «العنف» أي التخلّي عن عنصر «استخدام القوة» في مقاومة القوّة العسكرية الباطشة من جانب احتلال وعدوان مستمرّين، وهو ما سبق أن سارت عليه الطائفة الرئيسية من «قيادات المنظمات» المرتبطة بالسلطة الفلسطينية سنوات وسنوات، ومن ورائها الأنظمة العربية كلّها أو جلّها، دون الوصول إلى نتيجة.

ويوجد مزيد من المطالب، القاسم المشترك بينها هو أن تتخلّى حماس عن النهج الإسلامي الذي انبثقت رؤاها وممارساتها عموماً عنه، ولم يتردّد عن التلميح إلى ذلك والتصريح به كثيرون ممّن يكرّرون بألسنة وأقلام عربية ذكر المطالب الغربية ذاتها. أمّا مضمون الإغراء المعروض على حماس مقابل سائر هذه المطالب، فهو ـ بكل بساطة تثير الدهشة ـ لا يتجاوز مجرّد القبول بحماس طرفاً في مفاوضات على «هدف مجهول» ، وذلك ابتداءً بمسألة الاعتراف بالدولة اليهودية «ثمناً مسبقاً» للحصول على «وعود ضبابية» ترتبط بجزء من الأرض وجزء من الشعب وجزء من الحقوق، والسؤال الحقيقي المطروح: هل تريد حماس مفاوضات من هذا القبيل؟ وليس السؤال: هل «يُقبل» بها طرفاً في مفاوضات؟

\ فرض الأمر الواقع:

لا ينبغي الوقوف كثيراً عند التهديدات والإغراءات على السواء؛ فالخطر الحقيقي هو ما يصدر عن عوامل ذاتية، وهنا يمكن التأكيد أنّه بقدر ما تدرك حماس أنّ خسارة الطرف الآخر للانتخابات ومن ثَم خسارة المسيرة التاريخية السابقة لها، قد كانت بسبب الخضوع لمثل تلك التهديدات والانزلاق وراء الإغراءات الفارغة المضمون، وهو ممّا يصنعه افتقاد الالتزام بمثل ما يُلزِم به الإسلام من معايير ومقاييس.. بقدر ما تدرك حماس ذلك، تستعصي مع قضية فلسطين وشعبها على التهديدات والإغراءات، وبقدر ما تغفل عنه، يمكن أن تقع في الحفرة ذاتها التي وقع سواها فيها، إنّما قد يحصّنها أنّها حركة عقيدة، تنبثق عنها ثوابت ومبادئ ومُثُل وأهداف ومعايير، عليها تقاس الحركة وسياساتها وكلّ تنظيماتها وأشخاصها وقياداتها وقواعدها جميعاً كما سبقت الإشارة.. وليس العكس؛ فمن ينحرف يقع هو بالذات في سبيل من السبل المشتعّبة، ويبقى الصراط مستقيماً، لا ينحرف، ولن يفتقد من يتابع المسيرة عليه.

إنّ العنصر الأبعد شأناً بمغزاه في انتصار حماس الانتخابي يكمن في تقويم الحدث بالمنظور التاريخي لا السياسي الآني، وهو ما يتطلّب المتابعة والتفصيل، إنمّا يمكن القول في حدود ما يقتضيه الإيجاز في هذه الخاتمة للموضوع: إنّ قضية فلسطين تشهد لأوّل مرة منذ بدء الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، انقلابَ معادلة فرض الأمر الواقع؛ فما بدأ التنويه ببعضه عن المواقف السياسية الأمريكية والغربية والصمت المذهل إقليمياً، يكشف بوضوح أنّ مسيرة حماس عبر السنوات الماضية فرضت بوجودها والتلاحم الشعبيّ معها أمراً واقعاً على أرضيّة القضيّة، فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ودولياً، لم يستطع أحد أن يتجاوزه، بغضّ النظر عن متابعة مسيرة الضغوط ومواصلة التبعية المباشرة لها وحتى «النصيحة» بالخضوع لها أيضاً.

ولم تكن سياسة فرض الأمر الواقع «سياسة نظرية» قطّ، إنّما هي تطبيقات عملية لرؤى سياسية. وللتطبيقات ثمنها، وهذا بالذات ما يمثّل عطاء حماس ومن ورائها شعب فلسطين، ولا يُنتظر ـ ولا يُرجى ـ أن تتخلّى عن ذلك، أو أن تفقد القدرة عليه في السنوات المقبلة، وهو على الأقلّ ما تنوّه به المواقف الأولى المطروحة بعد الانتخابات.

على أنّ هذا الجانب من بين المعاني المتعدّدة لانتصار حماس، لا يطرح نفسه فلسطينياً فقط، بل على سياسات المنطقة، وممارسات الحكومات العربية والإسلامية، والفعاليات الشعبية بمختلف مداراتها ومنطلقاتها وتوجّهاتها.. فهنا نفتقر إلى تحرّك يصنع أمراً واقعاً، ويحقّق بدوره شكلاً قويماً للسياسة «الواقعية» . ونعلم أنّ نقيض ذلك هو السائد في المنطقة حالياً، وهو ما يدفع إلى توقّع أن تشارك جهات عربية في الدرجة الأولى في ممارسة الضغوط والإغراءات على حماس، بصورة تواكب خلال السنوات المقبلة ما تصنعه القوى الغربية.

وبالمقابل فإنّ عنصر فرض الأمر الواقع في انتصار حماس يطالب كلّ من يعنيه الخروج من حضيض التسليم للهيمنة الصهيوأمريكية ـ والمفروض أن يعني الجميع دون استثناء ـ بإعادة النظر فيما مضى من سياسات وممارسات، فقد آن الأوان للتخلّي عن ألوان الانهزامية والتسليم والمساومة على القضايا المصيرية والثوابت والحقوق، ومن خلال ذلك على الأرض والشعوب وحياتها الكريمة في ظلّ العدالة والشورى لتحمل رسالتها الحضارية للبشرية من جديد.. ولا يسري ذلك على الممارسات السياسية فقط، بل يسري أيضاً على الميادين الفكرية والثقافية والإعلامية.

إنّ انتصار حماس الانتخابي الشعبي في إطار الظروف المعروفة السابقة له والمحيطة به، يقول إنّ الطرف الأضعف بموازين القوى السياسية والعسكرية والمادية المعروفة، قادر أيضاً على فرض عناصر مؤثّرة في صناعة الواقع، وتلك هي ممارسة فرض الأمر الواقع، وهذا بمقدار ما ينطلق من التمسّك بالنهج القويم، والاعتماد على الطاقة الذاتية، والاستعداد لدفع الثمن، والقدرة على الاستمرار في هذه الطريق الصعبة إلى حدّ كبير، حتى تتحقّق الأهداف العادلة الجليلة المشروعة، وليس البديل هو الوصول إلى «بعض الأهداف» ، إنّما هو الانهيار شبه المطلق، والعجز عن التفكير في القدرة على بلوغ أبسط الأهداف المشروعة أصلاً.