للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[على هامش ملتقى (مثقفي وناشطي السنة في العراق)]

ربيع الحافظ

يمكن القول: إن سقوط العراق كان الزلزال العنيف الذي اختصر الزمن والجهد، وأعاد الفرز الفكري والثقافي للشعب العراقي، وأعاد رسم الخريطة الفكرية على نطاق ونحو غير مسبوق أو معهود، وأصبحت العلامات الفارقة للاصطفاف الفكري الجديد هي: طبيعة العلاقة بالإسلام وبالعروبة في آن واحد، والموقف من الاحتلال والشعوبية المصاحبة له التي تغذيها إيران، ثم المحور الصهيو ـ صَفَوِي المتنامي في العراق والمنطقة بشكل عام.

وبناءً على الخريطة الجديدة عقد «ملتقى مثقفي وناشطي السُّنَّة في العراق» (١) ؛ فقد وجد طيف واسع من المثقفين وأصحاب التخصصات العلمية (التكنوقراط) من السُّنَّة العرب بشكل عام، يشاركهم عدد من الأكراد والتركمان ـ وجدوا أنفسهم ضمن كتلة سياسية ومساحة مشتركة وغايات واضحة، تمثل ثوابتُ الدين والقيمُ العربية وتاريخُ الحضارة العربية الإسلامية قاسمَها الأعظم، ويحركها في هذا الظرف أمران رئيسيان: الاحتلال الأجنبي والحرب الشعوبية على الإسلام والعروبة، وصمت الإعلام عن الوجه الحقيقي لما يجري على أرض العراق.

يهيمن على هذا الطيف شعور بثقل مسؤولية تاريخية، لا تزال تبحث عمن يتحدث باسمها بشكل صريح، ويصوغ شعاراتها بمفردات يفهمها الجميع، ويضعها في إطارها الفكري الصحيح، وأن هذه المسؤولية لا تنتهي عند حدود العراق.

خوطب الحضور في كلمة الافتتاح بالقول: «لقد جئتم إلى هذا المكان من بقاع شتى، وفي زمن سئم فيه الناس الشعارات، وفي سوق سياسةٍ لا تشكو شح اللافتات، بل تشكو تخمتها، ونظام عولمي استئصالي يحارب الإرادات الحرة، ويحصي على حَمَلَتها أنفاسهم، في وقت تسُدُّ فيه وعود السياسيين الآفاق، ثم لا تلبث هذه الوعود أن تتكسر على شطآن السمسرة السياسية، مشيعة روح الإحباط» .. «لكنكم مع ذلك كله أتيتم، واقتطعتم من أوقاتكم الضيقة زمناً ثميناً، ومن تدابير العيش المحدودة مالاً عزيزاً ... «أقول أتيتم ولا أقول لبيتم؛ لأن حضوركم هذا ليس شأن الملبي، بل شأن حامل المشعل» .

كان من بين اللافتات التي رُفعت في أروقة الملتقى ورسمت المعالم العامة للمسؤولية المتروكة:

«عامان ونيِّف وخريطة العراق العربي المسلم تكتسي بألوان التشيُّع الصَّفَوي المغلِّف للشعوبية الفارسية، وتتفكك بُناه الثقافية، ويُحرََق تراثه، وتُصَفَّى رموزه العلمية والسياسية وواجهاته الاجتماعية» .

«عامان ونيف والإعلام العربي يلتزم الصمت، وإن تحدث فبلغة ما قبل التاريخ الذي ابتدأ في ٩ نيسان ٢٠٠٣، وبمفردات فاقدة الصلاحية، وعاجزة عن صياغة جمل سياسية مفيدة» .

«لقد احتجبت في هذا الصمت هوية المنتصر الحقيق والخاسر الحقيقي في أخطر حدث تتعرض له الأمة منذ سقوط الخلافة وضياع فلسطين، واحتجبت مع هذا الصمت طبيعة الانتصار والخسارة وحجمهما وتداعياتهما، ومدلولاتهما السياسية التاريخية» .

«إعلامٌ لم ـ ولا ـ يريد أن يدرك، أن قاموساً سياسياً قد ولد في ٩ نيسان ٢٠٠٣، وتبدلت إثره لغة التداول السياسي، وغدت مفردات ما قبل ٩ نيسان في عداد اللغات القديمة غير الحية» .

والمحصلة هي:

أجواء من التسمم السياسي، وإنسان عربي يراد له الاستمرار بالعيش الطبيعي، والتنفس بجهاز تنفسه العادي الذي يعمل بالأوكسجين، ولكن في محيط غازات سامة، ومن دون كمامات تقيه آثار السموم.

الإنسان العربي المسلم السني يقف أمام خيارات محدودة:

ـ الموت اختناقاً.

ـ تحوير جهاز التنفس ليغدو مخلوقاً آخر يستمد الحياة لا من الهواء النقي، وإنما من السموم.

ـ تخليص محيطه من السموم والإبقاء على هيئته الطبيعية.

الحقيقة الأخرى، هي أن أعراض استنشاق السموم آخذة في الظهور على المناعة الثقافية لهذه المجتمعات، ولو أن عقارب الساعة أعيدت إلى ما قبل ٩ نيسان ٢٠٠٣ ـ وهو محال ـ فإن الجبهة الصَّفَوِيَّة الشعوبية تكون قد حققت اختراقات عميقة، ووثبات ثقافية واجتماعية عريضة في مجتمعات المشرق العربي والخليج على وجه الخصوص، ونجحت هذه الجبهة في الانتقال من «البر» السياسي والنبذ الاجتماعي إلى قلب الطيف السياسي والاجتماعي، بل والديني كذلك، وتماهت رؤاها السياسية واجتهاداتها الفقهية في مفاهيم الخط العام لهذه المجتمعات.

وأن هذه الجبهة قد قطعت أشواطاً مهمة على طريق التأهيل والتكامل في هذه المجتمعات، وهي اليوم رقم مهم داخلٌ فيما يسمى بعملية الإصلاح السياسي والاجتماعي المنكبّة عليها الأنظمة السياسية في هذه المجتمعات بالتنسيق مع قوة الاحتلال ومراعاة حساسيات الجارة القوية إيران، وهو الأمر الذي يمثل برمته زخماً كبيراً في الاندفاعة القادمة لهذه الجبهة.

أمام هذه الحقائق، وهذا الواقع السياسي والثقافي المتردي، وعطب المؤسسة السياسية، وإخفاق أهل الشأن بالقيام بمسؤولياتهم، تتراكم ملفات الاحتلال «العسكري الأمريكي ـ الثقافي الصفوي» للعراق دونما علاج، إلا من خلال كلمات مخنوقة تَرْشَح بين الفينة والأخرى بإعداد وتنسيق ضعيفين في مكالمات هاتفية يجريها مع الفضائيات أناس عاديون تدفعهم الغيرة وخلوُّ الميدان، ليواجَهوا على الفور بآلة إعلامية، وأكثر من عشرة فضائيات، وشبكة من المتداخلين المتفرغين تديرها الأحزاب الصفوية الدينية واللبرالية على حد سواء، وتمولها إيران.

مع دخول العام الرابع من الاحتلال تزداد القناعة رسوخاً في أوساط منظمي اللقاء والمشاركين فيه على حد سواء، بأنه لو استُبعدت لغة المجاملات والدبلوماسية، فإن هذه الرؤية هي السقيفة التي تُظِلُّ المثقف والعادي، العسكري والمدني، الكبير والصغير، الرجل والمرأة، وهي واقع يبحث عن عنوان، وليست عنواناً يبحث عن واقع، وهي ما يفسر ظاهرة البطالة السياسية المتفاقمة في أوساط السُّنَّة، المتمثلة في العزوف عن اللافتات السياسية المرفوعة، وغياب المشاريع الواضحة.

لا ينظر هذا التكتل إلى نفسه بديلاً لمنظمات أو حركات أو هيئات سياسية تتبنى قضايا أهل السنة في العراق، وإنما يعتبر نفسه الظهير الفكري الذي تحتاجه هذه الجهات بشكل ملموس واضح. ويُولِي التكتل أهمية أساسية إلى البعد السياسي للمقاومة العراقية وإطارها الفكري الذي لم يأخذ حجمه الطبيعي، والذي هو كفيل بحفظ مكانتها الطبيعية في دواوين التاريخ.

من هذا المنطلَق قرر جمعٌ من العراقيين في بريطانيا وغرب أوروبا عقد ملتقى ثقافي يسلِّط الأضواء على المساحات المظلَّلة من الساحة السياسية والثقافية. وقد لبى الدعوة شريحة عريضة من المجتمع العراقي في بريطانيا وغرب أوروبا، تراوح بين الأستاذ الجامعي، والديبلوماسي، والطبيب، والمهندس، والطالب، والتاجر، وتجاوزت أعداد الحاضرين العدد المتوقع.

اشتمل برنامج الملتقى على فقرات تناولت الوضع السياسي الجديد الذي يمر فيه أهل السنة في العراق والمنطقة بشكل عام، وطبيعة التحديات أمام المد الطائفي والثقافي الشعوبي والاجتماعي الصفوي، كما سلط البرنامج الضوء على مفاهيم للمصطلح السياسي لـ (السُّنَّة) والظروف السياسية والتاريخية التي ولدت فيها هذه اللافتة. ثم كانت هناك جولة على أهم المحطات السياسية والمنعرجات التي مرت بها هذه المدرسة السياسية على مدى أربعة عشر قرناً من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.

وقد تقرر أن تُعقد هذه التظاهرة الثقافية بشكل دوري، إما فصلياً أو نصف سنوي، وأن توضع المادة الثقافية بالصوت والصورة والنص على موقع على شبكة الإنترنت، ويتم التواصل والتعارف مع الملايين في أنحاء المعمورة الذين لم ولن يتسنى لهم حضور الحدث، وصولاً إلى لملمة ما يسمى بقطاع التكنوقراط والناشطين الذين شتتهم الاحتلال وإرهاب نظام دولة الطوائف.


(*) كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.
(١) عقد هذا الملتقى في لندن في شهر ديسمبر ٢٠٠٥.