للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإجرام العالمي.. وفشل العقوبات الوضعية]

د. أكرم عبد الرزاق المشهداني

الجريمة ظاهرة اجتماعية قديمة ومستمرة لازمت الإنسان منذ بدء الخليقة، وما زالت تلازمه بأشكال وصور شتى. وستبقى ما دام في النفس البشرية طمع وميل وهوى وقدر من الفجور، وما دام هناك شيطان يوسوس للنفس الأمارة بالسوء ويشجعها أو يغريها على اقتراف الإثم؛ فإن الجريمة تبقى قائمة.

لقد كانت الجريمة، وما زالت، شاغلة الناس والمجتمعات والدول، وواحدة من أبرز مشكلات المجتمع الإنساني المزمنة الملازمة له عبر العصور والتطورات والحقب التاريخية، ولذلك حظيت بمركز متقدم من الاهتمام من قِبَل الشرائع السماوية الغراء ومن الفلاسفة والمفكرين والمصلحين، بحثاً عن سبل العلاج والردع، ورغبة في الأمان والسكينة وإقامة الحق والعدل. لكن قسوة القوانين الوضعية كلها لم تفلح في إزالتها ومحوها من الوجود الاجتماعي. وما زال العالم يشكو من تزايد معدلات الجريمة وتناميها بشكل يشبَّه بالانفجار الإجرامي على غرار الانفجار السكاني.

والدارس المتبحر للتأريخ الإسلامي يدرك جيداً كيف أن الإسلام تمكن من وضع معالجات جذرية شاملة لمشكلة الجريمة في المجتمع؛ بحيث أدت إلى انخفاض واضح وملموس في الجريمة في المجتمعات الإسلامية التي طبقت الشرع الحنيف على مدى التاريخ منذ عهد الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.

ويعاني العالم اليوم من حالة تضخم إجرامي وانفلات أمني وسط دلائل مؤكدة على فشل ذريع للنظم الوضعية في معالجة حالة الجريمة. ويعترف الأمين العام للأمم المتحدة (كوفي عنان) في تقريره الموسوم بـ (أحوال الجريمة والعدالة الجنائية على نطاق العالم) الذي ألقاه في مؤتمر الأمم المتحدة العاشر لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في فيينا من (١٠ - ١٧) نيسان (أبريل) ٢٠٠٠ م بأن (العولمة قد أدت إلى إيجاد بيئة مؤاتية لأشكال جديدة ومتوسعة من الإجرام، بفعل الهيكل المتغير في التجارة والتمويل والاتصالات والمعلومات، الذي أدى إلى تكوين بيئة لا تنحصر فيها الجريمة ضمن الحدود الوطنية، بل أصبحت عالمية الطبع) . وأشار الأمين العام في هذا الخصوص إلى تنامي نشاط العصابات الدولية المنظمة ذات الفعاليات العابرة للحدود مثل تجارة المخدرات وغسيل الأموال وجرائم إساءة استخدام الحواسيب وشبكة الإنترنيت وجرائم الاتجار بالبشر، والفساد، وشبكات الدعارة، وغيرها.

وأضاف الأمين العام في تقريره أيضاً: (لقد قامت التنظيمات الإجرامية بتعديل هياكلها إلى ما يشبه الشركات لممارسة مختلف الأنشطة الإجرامية، مستخدمة أشخاصاً ذوي مهارات عالية وآليات متطورة لمساعدتها في جني الأرباح وإخفائها) .

إن مؤتمر الأمم المتحدة الحادي عشر لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين في أبريل ٢٠٠٥م انعقد في وقت يشهد العالم فيه تنامياً وارتفاعاً مضطرداً في معدلات الجريمة، وقد أظهر استقصاء الأمم المتحدة السادس عن اتجاهات الجريمة وعمليات نظم العدالة الجنائية واستراتيجيات منع الجريمة والتي غطت المدة من (١٩٩٥ - ٢٠٠٠) ارتفاع معدلات الجريمة بأنواعها كافة على المستوى الدولي، خصوصاً جرائم الاعتداء على الإنسان والعنف والمخدرات، وإن هذه الزيادة في استمرار، وبلغت الزيادة نسبة (١١%) عما كانت عليه من (١٩٨٠ - ١٩٨٥) . وفي تصريح لرئيس الندوة الدولية لمكافحة الجريمة والإرهاب الجنرال (أناتولي كوليكوف) «أن هناك حوالي (٤٠٠) ألف جريمة تُرتكب يومياً في العالم، وأن الجريمة قد نمت خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة حوالي (٨) ثماني مرات في الولايات المتحدة الأمريكية، و (٧) سبع مرات في بريطانيا والسويد، و (٤) أربع مرات في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، و (مرتين) في اليابان» .

وطبقاً لإحصاءات الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية فإن معدل الجرائم لديها كان: وقوع جريمة سرقة عادية كل (٣) ثوان، جريمة سطو كل (١٤) ثانية، سرقة سيارة كل (٢٥) ثانية، سرقة مقترنة بالعنف كل (٦٠) ثانية، جريمة اغتصاب كل (٦) ثوان، قتل كل (٣١) ثانية. وتقدر كلفة الجريمة في أمريكا (١٠٥) بلايين دولار تنفق في علاج الضحايا و (٣٥٠) بليون دولار للتعويضات والتأمين و (١٢٠) مليون دولار تصرف على الشرطة و (٣٥) بليون دولار تصرف على السجون، وهناك (١٤) مليون متعاطٍ للمخدرات.

وتشير إحصائية السجون الأميركية الصادرة عن وزارة العدل الأميركية إلى أنه خلال عام ٢٠٠٣ ازداد عدد النزلاء في سجون أمريكا ٢٠٣٧٠ نزيلاً عن العام الأسبق. ومع نهاية ٣١ ديسمبر ٢٠٠٣ قُدِّرت نسبة الزيادة في الطاقة الاستيعابية للسجون الامريكيةالمحلية بـ (+ ١٦%) عن طاقتها التصميمية الاستيعابية، في حين كانت نسبة الفرق في السجون الفدرالية (+٣٩%) عن طاقتها الاستيعابية. ومع نهاية عام ٢٠٠٣ بلغ عدد النساء المودعات في السجون ١٠١١٧٩ نزيلة من مجموع ٦ ملايين و٩٠٠ ألف سجين أمريكي (أي نسبة ٦،٩% من عموم النزلاء) . بمعنى أن وجود حوالي ٧ ملايين نزيل أمريكي سجين داخل الولايات المتحدة عام ٢٠٠٣ يدل على أن من بين كل (٣٢) مواطناً أمريكياً بالغاً هناك سجين واحد.

[D]

Source: Correctional Populations in the United States, ١٩٩٧ and Prisoners in ٢٠٠٣

رسم بياني صادر عن وزارة العدل الأميركية يوضح الزيادة الحادة في أعداد نزلاء السجون الأميركية بين عامي ١٩٨٠ و ٢٠٠٣

إن الرسم البياني (الصادر عن وزارة العدل الأميركية) يوضح الزيادة الحادة في عدد السجناء في الولايات المتحدة منذ عام ١٩٨٠م، ويظهر الجدول أن هناك زيادة حادة بين عامي ١٩٨٠ و ٢٠٠٠، ثم بدأت الزيادة تأخذ منحى معتدلاً إلى ٢٠٠٣ لكن على العموم فإن الارتفاع مخيف في أعداد السجناء في الولايات المتحدة إذا ما علمنا أن هذه الزيادة في أعداد المحبوسين تقابلها زيادة مضطردة في أعداد الجرائم عاماً بعد آخر في مختلف الولايات الأمريكية.

أما الرسم البياني أعلاه فيوضح أعداد الأميركان المنفذ فيهم حكم الإعدام في بلادهم ما بين عامي ١٩٣٠ و ١٩٩٩ من البيض والسود (هكذا هي إحصائياتهم الرسمية تقوم على اللون) ورغم أن عدداً كبيراً من الولايات الأمريكية قد ألغت عقوبة الإعدام خلال الفترة المشار إليها.. إلا أن أحكام الإعدام ما زالت ترتفع عاماً بعد عام.. ولم تؤدِ غرضها في انحسار الجرائم بل على العكس ازدادت.

إن السجون في العالم تعاني من اختناقات وحالة اكتظاظ شديدة، وزيادة عدد المودَعين في السجون عن طاقتها التصميمية أو الاستيعابية؛ ففي بريطانيا أصدرت منظمة تدعى NCAD المهتمة بأوضاع السجون في العالم تقريراً على شبكة الإنترنيت:www.ncadc.org.uk)) عن حالة الاكتظاظ التي تعانيها السجون في مختلف أنحاء العالم بنسبة تفوق (٣٠%) عن طاقتها الاستيعابية، وعن تزايد حالات الانتحار بين السجناء، وفشل السجون في تحقيق الأهداف المتوخاة منها، وكيف أنها تحولت إلى مدارس لتفريخ المجرمين.

وقد بدأت السلطات في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تبحث عن بدائل لعقوبة السجن التي أثبتت فشلها في سياسة الإصلاح الجنائي، ومنها التعهد بالسلامة والتشغيل الإجباري والإيداع في مصحات اجتماعية والحجز في المسكن.... وغيرها من الوسائل التى لم تنفع في تخليص المجتمعات من الجريمة.

- أبرز النتائج:

من كل ما عرضناه آنفاً نخلص للنتائج الآتية:

١ ـ العالم كله يعاني من تضخم إجرامي، أو انفجار إجرامي، وتصاعد في معدلات الجريمة، وفقاً لإحصاءات وتقارير الأمم المتحدة والأنتربول (الشرطة الجنائية الدولية) وتقارير أجهزة الشرطة ووزارات العدل في مختلف بلدان العالم وبالأخص الدول المتقدمة كالولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وروسيا، إضافة إلى أعداد المتورطين في الجرائم وتزايد في ضحاياها، وتضخم في حجم الخسائر الاقتصادية التي تتكبدها الدول من جراء الجريمة؛ فمثلاً إن جرائم غسل الأموال المتحصلة من الجريمة (المخدرات والجريمة المنظمة) تكلف المجتمع الدولي سنوياً ١٥٠٠ مليار دولار سنوياً.

٢ ـ برغم الجهود المبذولة تقنياً وبشرياً وتشريعياً للحد الجرائم، ما زالت نسب الجريمة من كل الأنواع وبخاصة جرائم العنف والمخدرات والجريمة المنظمة في تصاعد وازدياد في البلدان المتقدمة، وما زالت الجريمة تتصدر أجندات المؤتمرات الدولية ولقاءات قمم القادة، وما زالت الجريمة تقض مضاجع المجتمعات الغربية.

٣ ـ أثبتت كل الإجراءات والجهود المتصلة بتسخير التكنولوجيا في الحد من نسب الجريمة، فشلها؛ حيث إن المجرمين قد سخَّروا التقنية في تنفيذ مآربهم الشريرة؛ فالإنترنيت (على سبيل المثال) صار أحد وسائل المجرمين في ترويج جرائمهم وإخفاء متحصلاتها وتبادل المعلومات التي تسهل تعبير الجريمة وامتداد آثارها لتتجاوز الحدود.

٤ ـ أثبتت العقوبات الوضعية رغم شدتها أنها لا توفر للدول والمجتمعات العلاج الشافي المطلوب لمرض الجريمة، ما لم تقترن بمنظومة متكاملة للإصلاح الاجتماعي تسهم فيها كل قطاعات المجتمع؛ فالسجون أصبحت عبئاً ووبالاً على الدول والمجتمعات وتحولت إلى مدارس ومعاهد لتخريج المجرمين، فضلاً عما تعانيه المؤسسات العقابية من حالة اكتظاظ وازدحام فوق طاقاتها الاستيعابية التصميمية مما اضطر دولاً عديدة إلى اللجوء لأساليب جديدة بدلاً من السجن؛ وبخاصة لأصحاب المدد القصيرة (مثل الاحتجاز الآلي في المنازل ومنع المغادرة، ومراقبة المحتجز بوسائل تقنية متطورة ومكلفة) .

٥ ـ كما أن عقوبة الإعدام، رغم توجه بلدان كثيرة في العالم نحو إلغائها والاستعاضة عنها بالسجن المؤبد، لم تؤد غرضها المطلوب في خفض معدلات الجريمة أو ردع المجرمين عن ارتكاب جرائمهم؛ فبالرغم من ازدياد أعداد المحكومين بالإعدام في الولايات المتحدة مثلاً، فإن الجريمة لديها ما زالت في ازدياد.

٦ ـ يشكل الفساد الإداري وبخاصة المتصل بالأجهزة المعنية بمكافحة الجريمة وملاحقتها (أو ما تسمى بأجهزة العدالة الجنائية) واحداً من أبرز معرقلات الحد من الإجرام في الكثير من بلدان العالم اليوم.

٧ ـ أثبتت الوقائع أن زيادة أعداد القوات المكلفة بالتعامل مع الجريمة منعاً ووقاية وتحقيقاً وإدارة سجون لا تؤدي الغرض المطلوب؛ فضلاً عن أنها تشكل عبئاً اقتصادياً ثقيلاً على المجتمعات والدول؛ فكثير من دول العالم المتقدم صارت نسبة الشرطة فيها إلى السكان تتراوح بين (٥٠٠ إلى ١٠٠٠ عنصر أمن) لكل ١٠٠٠٠٠ نسمة من السكان، لكن كل هذه الأجهزة المترهلة عددياً والمكلفة اقتصادياً لم تؤد غرضها في معالجة وباء الجريمة، وبقي خطر الجريمة في تصاعد وازدياد.

- الخاتمة: أين العلاج؟

إن العالم كله يعاني من تضخم في الجريمة وتصاعد في معدلاتها وازدياد أعداد المتورطين فيها وضحاياها، وتنامي حجم الخسائر البشرية والاقتصادية من جرائها، وقد أثبتت القوانين الوضعية بالرغم من كل قسوتها وشدتها أنها غير فعالة أو رادعة ... ولا تحقق الوقاية المطلوبة ولا الخفض المنشود في معدلات الإجرام، ولا بد للمجتمع الدولي وللأمم المتحدة التي تعقد مؤتمراً عالمياً كل خمس سنوات لبحث أمور الجريمة وتنسيق الجهد الدولي في مكافحتها وملاحقتها، أن يعرفوا أن التصدي للجريمة لا يتم من خلال تشديد العقوبة وملء السجون، فحسب، بل لا بد من الاستفادة من المنهج الإسلامي الرباني الرشيد في معالجة آفة الجريمة في المجتمع وكيف صنع الإسلام من المجتمع الإسلامي مجتمعاً نقياً خالياً من الانحراف والجريمة إلى أدنى الحدود والمستويات، وبات المواطن في المجتمع الإسلامي يأمن على نفسه وعرضه وماله من الاعتداء.


(*) دكتوراه في اجتماع الجريمة من جامعة بغداد، ماجستير في السياسات الاجتماعية (منع الجريمة) من جامعة كرانفيلد المملكة المتحدة، ليسانس حقوق وأدب إنكليزي من الجامعة المستنصرية، ليسانس إعلام (صحافة) من جامعة بغداد.