للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مفاهيم إسلامية

الدين والدنيا

محمد العبدة

وترى الدنيا انطوت في كسبه ... ليس فيها ذرة في قلبه

(إقبال)

كيف اختل التوازن؟ !

لا شك عندنا أن الصحابة رضوان الله عليهم هم القدوة وهم النموذج في فهم

الإسلام، وأقوالهم وأفعالهم هي التي تدل على هذا الفهم، وبالرجوع إلى سيرتهم

نجد أن حياتهم كانت طبيعية ليس فيها تكلف وتعمق، يأخذون بالأسباب في الكسب

من تجارة وزراعة أو عمل يدوي، ويخصصون جزءاً من أوقاتهم للعلم، وإذا دعا

داعي الجهاد فهم الرجال، وفيهم الأغنياء دون بطر، والفقراء مع التعفف، كانوا

أبعد الناس عن التهالك على الدنيا، فتحوا البلدان وأنشئوا المدن، وأقاموا الدول.

الخلل إذن جاء بعدهم، جاء من يقول: إن الدنيا ضرة الآخرة وليست طريقاً

لها، وأشاع الزهد بمعنى ترك الدنيا وعدم الاهتمام بها، ويمكن أن نعدد بعض

الظواهر التي أدت إلى هذا الخلل:

١- الزهد الأعجمى:

نقل الصوفية إلى المجتمع الإسلامي، فلسفات الهند في تعذيب الجسد وحب

(الفقر) كما نقلوا رهبانية النصارى، وروجوا هذه البضاعة باسم الزهد المشروع،

وحاولوا تأييد هذه (الرهبنة) بذكر ما كان عليه الجيل الأول من السمو حيث لم تكن

الدنيا في قلوبهم وراحوا يذمون الدنيا بمناسبة وبغير مناسبة، وساعدهم على ذلك

القصاص الجهلة، الذين وجدوا الكلام في هذا الموضوع من الأشياء المحببة لدى

الجماهير، وهكذا أصبحت مرتبة الزاهد الذي لا يتكسب ويعيش في زاوية أو رباط

هي أعلى المراتب، وسمع المسلمون وأعجبوا بمن يقول: (لو أن الدنيا بحذافيرها

عرضت علي حلالاً ولا أحاسب بها في الآخرة لكنت أتقذرها كما يتقذر الرجل

الجيفة) [١] .

ووضع هؤلاء الصوفية كلام الله سبحانه وتعالى عن الدنيا أو كلام الرسول -

صلى الله عليه وسلم- في غير موضعه، ولم يفهموه حق الفهم، وقد أدبنا الله

سبحانه وتعالى في القرآن بأن نذكر القضية ونقيضها حتى يتم التوازن، فلا يذكر

عذاب النار إلا ويذكر نعيم الجنة، ولا يذكر الفجار إلا ويذكر الأبرار، فعندما نذم

الدنيا يجب أن نبين على أي شيء يقع الذم.

يقول الشيخ رشيد رضا: (ومن أضر ما حدث بعد الخلفاء الراشدين الغلو في

التزهيد، وحمل الناس على الاعتقاد بأن الدنيا ضرة الآخرة على الإطلاق، ومن

أكبر المصائب أن هذا التعليم كان ديدن الخطباء والوعاظ، فزرع أهله في قلوب

الأمة الإسلامية فسيل الكسل، وما التكايا التي أحدثها المسلمون إلا كالأديار عند

النصارى) [٢] . (والذين لبسوا لبوس الصالحين نفثوا في الأمة سموم المبالغة في

التزهيد، وأكثرهم يريد إنفاق كسب الكاسبين عليهم وهم كسالى لزعمهم أنهم بحب

الله مشغولون) [٣] .

هؤلاء البطالون الذين لا يريدون الكد والتعب، ويتخوفون الصراع مع

الأعداء، يلجئون إلى حيلة الزهد والانزواء وكيف يكون إذن التمكين في الأرض

والحكم بشريعة الإسلام، وهذا كله يختلف عن الاغترار بالدنيا والانغماس في

شهواتها.

٢- الخلل في فهم طبيعة الإنسان:

قد يظن بعض الناس أن الأمور الدنيوية أو اللذات الحسية هي نقص في

الإنسان بتأثير من الفلاسفة الذين يفكرون تفكيراً خيالياً، ورهبان النصارى الذين

يستقذرون الأمور الحسية وهذا غير صحيح، بل هي بوجه من الوجوه كمال إذا لم

تطغِ، وإذا لم تصرفه عن الآخرة (والدليل على أن اللذات الجسدية ليست نقصاً:

أن عالم الآخرة لا يخلو منها، فهو عالم يكون الإنسان بهخ في أعلى أوج الكمال،

فيستوفي جميع اللذات الروحية والجسدية من غير عناء ولا شقاء ولا جهاد ولا بلاء [٤] ومن هذا الباب يشنع النصارى على نبينا عليه الصلاة والسلام كثرة الزواج،

ويحاول بعض المسلمين الرد عليهم بأساليب تبريرية، فالأكل والشرب والزواج

ليست عيباً في الإنسان، لأن طبيعته ليست من جنس الملائكة.

٣- أسباب نفسية:

عندما يفشل بعض الناس في الحياة ولا يستطيعون إعمار الدنيا بالخير

والتمكن فيها، واستخلاصها من أيدي الكفار، عندنا يلجئون إلى حيلة نفسية وهي

التركيز على الزهد، وإقناع النفس أن نعيم الدنيا زائل، والكفار لهم الدنيا ونحن لنا

الآخرة، وربما في دخائلهم يحبون الدنيا حباً جماً، لقد انتشر التصوف وازداد بعد

ضعف الدولة الإسلامية أو فشلها في الوقوف أمام زحف التتار، فكثرت الزوايا

والربط والهروب السلبي من متطلبات الكفاح.

عودة إلى المفهوم الإسلامي:

١ - إن ما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ذكر للدنيا لا يفهم

منه إلا التحذير أن يتنافسها المسلمون فتهلكهم، وإلا أنها لا تساوي شيئاً بالنسبة

للآخرة لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- اشتغل بها، فقد دعا وجاهد وأسس

دولة الإسلام، وكان بعض كبار الصحابة من الأغنياء، ولم يدعهم الرسول -صلى

الله عليه وسلم- إلى ترك المال وترك الاشتغال بالتجارة.

وكذلك ذم الدنيا الوارد على لسان بعض العلماء (إنما هو راجع إلى أفعال بني

آدم التي تقع على غير الوجه الذي تحمد عاقبته) [٥] .

٢-ربما يتكالب الناس على الدنيا في زمن معين أو في بلد معين، فيأتي عالم

رباني ويتكلم عن الدنيا وموقعها بالنسبة للآخرة وذلك فيما يرد الناس إلى التوسط

والتوازن، فهذا صحيح وهذا يختلف عن الذي يجعل الفقر هو الأصل، ويذم الدنيا

دائماً.

ذكر الخلال في كتابه (الحث على التجارة) حديثاً عن عائشة رضي الله عنها

قالت: كان أبو بكر رضي الله عنه أتجر قريش حتى دخل في الإمارة) ثم أتى برواية عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه لم يستطع الجمع بين التجارة والعبادة، وقد علق محقق الكتاب أن الخلال ساق أثر أبي الدرداء ليبين أنه حالة خاصة بمن لديه سعة من المال لينفق على العيال ثم ساق كلام الذهب (الأفضل الجمع بين الأمرين) .

٣ - الإسلام يحث على العمل والكسب: قال سفيان بن عيينة: (ليس من

حب الدنيا أن تطلب منها ما يصلحك) وعن الإمام أحمد بن حنبل (أحب الدراهم

إلي درهم من تجارة، وأكرهها عندي الذي من صلة الإخوان) [٦] .

وعن سعيد بن المسيب: (لا خير فيمن لا يطلب المال يقضي به دينه، ويصون به عرضه، ويقضي به ذمامه، وإن مات تركه ميراثاً

لمن بعده) [٧] .

وقد جاء في القرآن عن داود عليه السلام: [وعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ]

[الأنبياء: ٨٠] ، وصح عن زكريا عليه السلام أنه كان نجاراً، وأما ما اشتهر ...

بعدئذ من احتقار للمهن، فهذا شيء أتي به المسلمون من قبل الفلاسفة اليونانيين

الذين كانوا يعظمون العمل العقلي ويحتقرون المهن، ويرتبون المجتمع طبقات

حسب أهوائهم، إن كتب بعض العلماء توحي بالاحتقار للمهن كقول الإمام الماوردي: (وأشرف الصناعات صناعة الفكر وأرذلها صناعة العمل) [٨] وهذا قد يكون من

أسباب تخلف المسلمين فى الصناعة في الوقت الذي تقدم فيه الأوربيون واستعمروا

العالم.

٤ -إن الاستمتاع بالدنيا وملاذها والترفه فيها وإن كان بالحلال، ولكنه يوشك

أن يؤدي بالمؤمن إلى حبها والتعلق بها، فالمؤمن يبقى على حذر منها ويبتعد عن

مواطن الزلل والشبهات، ويعود نفسه على العيش الخشن حتى يكون على استعداد

للجهاد في أي وقت، وهذا لا يمنع من لبس الثوب الحسن والنعل الحسن كما سأل

أحد الصحابةرسول الله-صلى الله عليه وسلم-عن التجمل بهذا وحبه للنظافة في

مسكنه وثوبه فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله جميل يحب الجمال)

وهذا لا ينقص درجته عن الذي يفضل الخشونة في مأكله أو ملبسه. وأما الآية

[أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا واسْتَمْتَعْتُم بِهَا] [الأحقاف: ٢٠] قال الشيخ

الشنقيطي في تفسيرها: (التحقيق إن شاء الله في مثل هذه الآية هو أنها في الكفار

وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذات التي أباحها الله لهم لأنه تعالى ما أباحها

لهم ليذهب بها حسناتهم) [٩] .

وقال سعيد بن جبير: متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك

فليس بمتاع الغرور، ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه.

والخلاصة أنه لا بد من التوازن الدقيق في هذه المسألة، فلا تكن الدنيا أكبر

همنا، وفي نفس الوقت لا نغتر بترهات الصوفية وتخبطات القصاص الوعاظ،

ونحن لا نريد تضخيم دور المال ولكن واقع البشرية اليوم يقول إن للاقتصاد دور

بالغ، ونعم المال الصالح للعبد الصالح، وكيف تقوى الدعوة الإسلامية دون أخذ

الأسباب، وكيف نريد من شعوب تعيش على فتات موائد الغرب أن تنهض وتساعد

في إقامة حكم الله في الأرض.

ولهذا قلنا: إنها معادلة صعبة.


(١) شرح حديث الزهد لابن رجب / ٧٥.
(٢) المنار: ٣٣ / ١٧٥.
(٣) المنار: ٤/٣٨٣.
(٤) - المنار٣/١٠٠.
(٥) شرح حديث الزهد لابن رجب / ٤٧.
(٦) أبو بكر الخلال: الحث على التجارة والصناعة /٣٥، تحقيق محمود بن محمد الحداد.
(٧) المصدر السابق/٨٠.
(٨) أدب الدنيا والدين، تحقيق د محمد صباح/٢٤٣.
(٩) أضواء البيان ٧/٣٩٣.