للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الديمقراطية حقيقة أم وهم؟]

(٢-٢)

محمد بن شاكر الشريف

تحدث الكاتب وفقه الله ـ تعالى ـ في الحلقة الماضية عن مفهوم كلمة الديمقراطية، وبين الأساس النظري الذي تستند إليه، وأنه أساس غير مقبول شرعاً؛ لوضعه الشعب في المكانة التي لا تليق إلا لله ـ تعالى ـ، وذكر أن هناك من الإسلاميين من يريدون قبول الديمقراطية والتعامل معها من خلال كونها آليات لتداول السلطة، وحفظ حقوق الرعية من غير التزام بأساسها النظري، ويناقش الكاتب في هذه الحلقة هذه القضية.

آليات الديمقراطية: يراد بالآليات التي تتبعها الديمقراطية في عصرنا الحاضر: مجموعة من الإجراءات والتصرفات التي منها: حرية الدعوة إلى الأفكار وتكوين الآراء، وحرية تكوين الأحزاب، وحق المعارضة للسلطة القائمة، وحق الاقتراع العام، وتنظيم الانتخابات للوصول إلى الحكم، وتداول السلطة بين أفراد الشعب، واعتماد مبدإ الأغلبية في اتخاذ القرارات وسن القوانين.

- تلك الآليات لم تنشأ من فراغ:

دعوى الأخذ بآليات الديمقراطية دون التقيد بأساسها النظري، فيها قفز على الواقع وتجاوز للمعقول، فإن هذه الآليات لم تتبلور إلا انطلاقاً مما استقر في الفكر الديمقراطي من الاعتماد على نظرية السيادة الشعبية؛ تلك النظرية المرفوضة إسلامياً.

ولا يمكن في الحقيقة تصور: أن يقوم نظام له أصول وقواعد تُتبع، ويُحتكم إليها عند الاختلاف، ولا تكون لهذا النظام جذور فكرية يرجع إليها هي التي حتمته، وأوجبته، فهذا أمر مخالف لطبيعة الأشياء، وما مثله إلا كمثل من يزعم وجود شجرة لها ثمار، وهي مع ذلك معلقة في الهواء من غير جذور ترتبط بها.

فالديمقراطية لا تعمل في فضاء أو فراغ قِيَمِي، ولنضرب مثالاً على ذلك، بـ (حق الاقتراع العام) وهو حق كل مواطن ـ ذكراً كان أو أنثى، عالماً كان أو جاهلاً، تقياً براً كان أو فاجراً شقياً ـ في أن يكون له صوت انتخابي متساوٍ مع صوت الأفراد الآخرين تماماً بتمام.

إن هذه الآلية إنما بنيت على أساس نظرية السيادة الشعبية، وأن الشعب كله هو الذي يملك السيادة، وأن كل فرد له نصيب من هذه السيادة متساو بالتمام والكمال مع نصيب غيره، بغض النظر عن التفاوت بين الأفراد من حيث العلم أو الجهل، ومن حيث الصلاح أو الفساد، ومن حيث الذكورة أو الأنوثة، ومن حيث الحكمة أو السفه، وإلا فما الحجة في التسوية في الصوت الانتخابي بين المتقين والفجار، وبين العلماء والجهلاء، وبين الذكور والإناث، وبين الحكماء والسفهاء؟ ولو قامت جماعة من المسلمين اليوم ترفض المساواة بين العلماء والجهلاء، وبين الأتقياء والفجار، فهل يمكن أن يقبل هذا منهم، أم يعترض عليهم بأن هذا يخالف نظرية السيادة الشعبية؟.

ويترتب على هذه النظرية ـ التي تُرْجِع أصل السلطة إلى العنصر البشري فقط ـ نسبية الحقيقة؛ لأنه ليس أحد من البشر يمتلك الحقيقة الكاملة، وهذا يتيح لكل فرد الحرية الكاملة في أن يقتنع بما يشاء، وأن يعبر عما يراه بدون ضوابط أو حدود؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يقول له: إن ما تراه خطأ. ومن ثم فإنه يحق له الدعوة إلى ما يرى صوابه، وأن يجمع الأنصار حوله، كما يحق له تكوين حزب للدعوة بين الناس إلى هذه الآراء، ومحاولة الوصول من خلاله إلى سدة الحكم؛ لتنفيذ ما يرى صوابه، فإذا انهار الأساس الذي تبنى عليه هذه الآليات ـ وقد بينا بطلانه ـ فعلى أي شيء يعتمد الذين يأخذون بهذه الآليات؟.

والقارئ في تفصيلات الفكرة الديمقراطية، والنظم الانتخابية المنبثقة عنها، وما يوضع من أفكار ونظريات في تفسيرها يجد التخبط الشديد، والتناقض فيها. ولذا فهم يتقلبون من فكرة إلى أخرى، فقد كان أول أمرهم يفسرون السيادة بأنها للأمة بمجموعها، وليس بآحادها، ولا يمكن تجزئتها، ثم عدلوا عن ذلك بأن جعلوا السيادة للشعب بآحاده، بحيث يكون لكل فرد جزء من السيادة، ثم تداخل المعنيان معاً، ولم يعد هناك من فرق بينهما عند التطبيق، وكانوا يقولون بوكالة النائب عن الناخبين، ثم عدلوا عن ذلك، وقالوا: لا داعي لهذه الوكالة، والنائب نائب عن الشعب، وليس عن أفراد، وهذه الأفكار والتصورات قد تَرَتَّب عليها أمور متعارضات. وهكذا ففي كل فترة يتخبطون محاولين إيجاد مسوغ مقبول عقلاً لما اختاروه آلية أو طريقة عملية، ولن يجدوا من الناحية العقلية مثل هذا المسوغ؛ لأنه لم يُبْنَ على أساس متين، وإنما بُني على أساس التصورات الشخصية، والتفسيرات العقلية، وهي تختلف من مفكر لمفكر آخر، ومن زمن لزمن غيره.

قد يقول البعض: أنا آخذ هذه الأشكال والنماذج، وأحشوها بمضمون ذي أصل إسلامي. وهذا في الحقيقة قول غير ممكن الحدوث، لكن لو تنازلنا عن هذه الجزئية، فكيف يقبل أصحاب هذا القول التنازل عن المضمون المستند إلى الأصل الديمقراطي، ويصرون على التمسك بشكلها؟ ويقال لهم: إذا أقررتم بأن الشريعة لديها المضمون الصالح الذي لا تحتاج معه إلى الاعتماد على الغير، أفلا يوجد عندها الشكل الملائم لذلك المضمون؟.

إن الأشكال أُطُرٌ حاوية للمضامين، فإذا قيل: إنه لا توجد أطر إسلامية يمكن أن تحتوي المضمون، حتى يُحتاج إلى استعارتها من النظام الديمقراطي؛ كان ذلك قدحاً في وجود المضمون نفسه.

يحاول بعض الناس إيجاد أصول لهذه الآليات بعيدة عن تلك المسوغات الفلسفية المتقدمة، حيث يذكرون أن من مسوغات الدعوة إلى الديمقراطية التنوع الذي خلق الله عليه الإنسان، فتعدد طرق تفكير الإنسان، وتنوع المشارب والاهتمامات، واختلاف ردود الأفعال تجاه الأحداث، تبين أهمية تمكين الإنسان من التعبير عن رأيه وأحاسيسه، وامتلاكه لحريته الكاملة في الاختيار المطلق، دون قيود تمنع من ذلك أو تعيقه (١) ، لكن هذا التصوير الذي يربط حقيقة وجود الإنسان بامتلاكه لحريته الكاملة في الاختيار المطلق دون قيود، هو في حقيقته معارض لفكرة «الدولة» ، التي يقبل بها الديمقراطيون، بل جُلُّ جهدهم منصب على الوصول إلى حكمها والسيطرة عليها.

ومهما قيل عن تسويغ فكرة الدولة، فهي تضع في النهاية حدوداً وعوائق على الحرية المطلقة، ومهما قيل عن عقلانية هذه القيود، وأنها قيود لصالح الإنسان، ولمنع الفوضى في المجتمع، لكنها في النهاية تضاد فكرة الحرية المطلقة، مما يعني أن هذا الأساس الذي تحاول الديمقراطية المعاصرة أن تقيم مشروعها عليه هو أساس منقوض، وما دام أن الفكر الديمقراطي بكل ما عنده من حديث عن الحريات المطلقة قد قَبِل مبدأ تقييدها، فهذا يدعونا إلى عدم تقبل فكرة الحرية المطلقة، كأساس تبنى عليه الديمقراطية المعاصرة، كما يدعونا في الوقت نفسه أن نحدد مَنْ الذي له الصلاحية في وضع هذه القيود.

والقيد يعني: الحجر على التصرفات بحيث لا تتجاوز نطاقه. والقبول به هو في حقيقته نوع من الخضوع لمن يضع هذه القيود، ولا يكون الإنسان كامل الحرية حقاً إلا عندما يكون غير خاضع لمن هو مثله، وهو يقود في النهاية إلى أن القيود لا بد أن تأتي من خارج المصدر الإنساني، ولا يكون ذلك إلا من الله ـ تعالى ـ، عن طريق رسله الذين اصطفاهم من خلقه؛ لهداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم.

ويترتب على الأخذ بتلك الآليات المذكورة إجمالاً أمور تفصيلية كثيرة منها:

٣ الدعاية: الدعاية للنفس، وبيان إمكاناتها، وتفوقها على غيرها أحد التصرفات التي يستخدمها الفكر الديمقراطي؛ لتعزيز طلب الثقة من الشعب، والوصول إلى الحكم، وهذا التصرف مرفوض شرعاً؛ إذ لا يجوز للمسلم أن يُزَكِّيَ نفسه، ولكن الإنسان الصالح أعماله هي التي تخبر عنه وليس أقواله، فإذا اجتهد المسلم في العناية بالشأن العام، وبالعمل الاجتماعي ابتغاء وجه الله، وعرفه الناس من خلال ذلك، ومدحوه على فعله وأحبوه، فتلك عاجل بشرى المؤمن، فعنْ أَبِي ذَرٍّ قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن» (١) ، لكن لا ينبغي له هو أن يعلن عن نفسه، أو يزكيها، قال الله ـ تعالى ـ: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: ٣٢] ، ولا يصلح أن يقال: لا يدعو هو لنفسه؛ بل يتولى ذلك الأمر أحد غيره لأن هذا التصرف نابع من الأسر النفسي الذي أسر به النظام الديمقراطي نفوس الناس، وما هذا التصرف إلا تحايل على الشرع في هذه المسألة، ومع ذلك فقد ورد في الشرع ما يبين النهي عن ذلك، فقد أخرج مسلم في صحيحه: «عن همام بن الحارث: أن رجلاً جعل يمدح عثمان، فعمد المقداد، فجثا على ركبتيه ـ وكان رجلاً ضخماً ـ، فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب» (٢) كما لا يصلح في هذا المقام أن يحتج محتج بقول يوسف ـ عليه السلام ـ: {إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: ٥٥] ، لما سنبينه في الفقرة القادمة.

والدعاية اليوم صارت صناعة محكمة، تحتاج إلى نفقات عظيمة لا يقدر عليها إلا أفراد قلائل جداً، ولو أخذنا مثالاً من العالم الغربي: فإن تكلفة الدعاية الانتخابية في انتخابات الرئاسة الأمريكية قد بلغت أكثر من ٥٠٠ مليون دولار للمرشح، ولو أخذنا مثالاً من محيطنا العربي: سنجد أن تكلفة الدعاية الانتخابية لانتخابات مجلس الشعب المصري قد كلفت جماعة ـ كالإخوان المسلمين ـ ما يزيد عن أربعين مليون جنيه مصري، فمن أين يأتي الأفراد العاديون بمثل هذه المبالغ الطائلة؟ وما الذي يدفعهم ـ حقيقة ـ لبذل هذه الأموال الضخمة؟ هل الرغبة في نفع الشعوب والسهر على مصالحها؟ وماذا يكون موقفهم لو طولب المرشحون لإنفاق جزء منها على الشعب في غير زمن الانتخابات احتساباً لله؟.

إن هذا الإنفاق الضخم يقود إلى أحد أمرين، الأمر الأول: إما ألاّ يرشح نفسه، ويخوض غمار هذا العمل إلا من كان من كبار الموسرين المستعدين لبذل هذه النفقات الكبيرة، وهو ما يحرم الفقراء، وأصحاب الدخول العادية وهم الغالبية في الشعوب، ويحولهم فقط لمجرد مانحي أصوات للأغنياء الأثرياء، ومن ثم تصير الديمقراطية ديمقراطية الأغنياء، وأصحاب النفوذ والثروات، وهي بذلك تكون انتقائية لا يمارسها إلا النخبة الغنية، والأمر الثاني: أن يقايض المرشح أو الحزب الشركات الكبرى، ويدعوها لدعمه وفق معادلة معلومة: ساعدني في الانتخابات أعوضك عن ذلك عند النجاح، وأساهم في التشريعات التي تخدم مؤسستك وشركاتك (وكل هذا يتم على حساب الشعوب) ، أو أن المرشح لا يمكن أن يخوض غمار هذه الانتخابات إلا من خلال حزب ينفق على حملته الانتخابية، وفي هذه الحالة يصبح العضو أسيراً لدى الحزب، لا يتمكن من التعبير عن رأيه الحقيقي إذا كان مخالفاً لحزبه، وإلا تعرض للفصل أو عدم ترشيحه مرة أخرى، ومساندته في الانتخابات.

٣ طلب الولاية: يقوم الفكر الديمقراطي على طلب الولاية للنفس، بل وعلى الصراع من أجل ذلك، فما تكوين الأحزاب، ونشر الدعايات، وخوض الانتخابات؛ إلا للحصول على الولاية، وهذا أمر منهي عنه، فالمسلم منهي عن طلب الإمارة لنفسه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنا ـ والله ـ لا نولَّي على هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه» وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لن، أو لا نستعمل على عملنا من أراده» وقال -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن سمرة: «يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة أوكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها» (٣) ، وهذا يشمل طلب الولاية بكل الطرق: سواء كان بطريق القهر والغصب لأمور الناس، كما هو الحاصل في كثير من البلدان، أو كان بطريق الطلب ممن له أن يعطي ذلك ويمنع، أو كان بطريق الترشيح في الانتخابات وطلب التأييد من الناس لذلك، ولا يصلح معارضة هذه الأدلة وهديه -صلى الله عليه وسلم- في إسناد الإمارة بقول يوسف ـ عليه السلام ـ: «اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم» وذلك لأمرين: الأمر الأول: أن هذا من شرع من قبلنا، والعلماء في شرع من قبلنا لهم قولان: الأول: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأتِ شرعنا بخلافه، والثاني: أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا إلا إذا ورد في شرعنا، وعلى الرأيين كليهما لا يصلح أن يحتج بما فعله يوسف ـ عليه السلام ـ في شرعنا، فإن طلب الإمارة لم يأت في شرعنا إلا على سبيل النهي عنه، والأمر الثاني: أن يوسف ـ عليه السلام ـ قال ذلك في ظروف غير اعتيادية، وما جاء مخالفاً للأصل فإنه يقتصر به على مورده ولا يتعداه لغيره، كما يقرر ذلك أهل الأصول، فكيف يمكن أن يؤسس على الحالة الاستثنائية نظاماً اعتيادياً؟.

٣ التعددية: من الآليات المعتمدة في الفكر الديمقراطي التعددية، وهي أوسع من السماح بتشكيل أحزاب متباينة في رؤاها، فالتعددية التي ظاهرها عند البعض السماح بالاختلاف في الرؤية حول بعض التصورات المتعلقة بأمور المصالح ونحوها، هي في حقيقتها إباحة لجميع المعتقدات، والأفكار، والتصورات في المجتمع، وبأحقية كل فرد أو جماعة في تكوين الآراء والمعتقدات الخاصة. ولعلم جماعة إسلامية تخوض في لعبة الديمقراطية بأن التعددية في الديمقراطية تعني ذلك، وأن عدم الموافقة عليه يعني عدم الموافقة على الديمقراطية، فقد صرحت تلك الجماعة أنه: لا مانع لديها حتى بعد وصولها إلى الحكم من السماح بقيام حزب شيوعي، وهو ما يتعارض تعارضاً واضحاً مع المقررات الإسلامية إذ من الثابت أن من ارتد عن دينه فعليه أن يتوب، أو يواجه الحد الشرعي، لا أن يُسمَحَ له بتشكيل حزب ينظر إلى الأمور من خلاله، ويدعو الناس إلى تصوراته.

وتعد حرية تكوين الأحزاب السياسية أحد أهم مظاهر السماح بالتعددية السياسية في المجتمعات وخاصة بعد تقرير مبدأ الاقتراع العام، لكن على أي شيء يبنى هذا التعدد أو ما المسوغ له؟ هو تعارض الإرادات، والرؤى، والتصورات تعارضاً بيناً؛ بحيث لا يسع الجميع أن يكونوا في حزب واحد. فالديمقراطية على ذلك تُفَرِقُ ولا تجمع، وهو واضح حتى من الممارسات داخل الحزب الواحد؛ فإن الحزب يظل حزباً واحداً متماسكاً ما دام أعضاؤه متفقين في أسسه العامة، وتوافقت تصوراتهم إزاء القضايا المهمة، فإذا حدث خلاف مهم في هذه الرؤى؛ فإن الحزب يتحول إلى هيئة عامة تظلل عدة أجنحة متباينة فيما بينها، وقد يصل الاختلاف إلى درجة لا يتمكن معها الأعضاء من التعايش، فينشق الحزب إلى حزبين أو عدة أحزاب، مما يعني: أن الديمقراطية لا تنمو إلا في ظل الاختلاف.

٣ الأغلبية: عند اختلاف الرؤى في النظام الديمقراطي يُنْظَرُ إلى الأغلبية على أنها ممثلة للإرادة الشعبية العامة، وهذا يعطيها صفة العصمة أو صفة الصواب، بينما يلتصق برأي الأقلية صفة الخطأ، لكن من حق الأقلية أن تحاول ضم من تستطيع إلى صفوفها، والقبول بأطروحاتها؛ لتحقيق الأغلبية لتلك الآراء، حتى تتحول من صف الرأي الخاطئ إلى صف الرأي الصواب، ويحدث العكس، ويتبدل الحال للأغلبية السابقة، وهذا بدوره ينشئ صراعاً كبيراً بين فئات الشعب في محاولة ضم أكبر عدد للصفوف؛ لتكتسب رؤيتهم العصمة؛ ولتكون معبرة عن الإرادة العامة، مع ما يصاحب ذلك من كل الظواهر التي توجد في ظل الصراع، وهكذا يمر الحق والصواب بدورات متتالية متعاقبة، فما يكون اليوم صواباً قد يصبح بعد حين خطأ لا لشيء؛ سوى أن القائلين به تمكنوا من استقطاب شريحة كبيرة من الناس للموافقة عليه، وما كان بالأمس صواباً قد يصير خطأ لا لشيء؛ سوى أن القائلين به لم يستطيعوا المحافظة على الأغلبية التي كانت معهم، وذلك بغض النظر في الحالين كليهما عن مدى صواب تلك الأقوال أو خطئها من الناحية الحقيقية، ثم هذه الأغلبية قد تصبح أغلبية مستبدة أكثر من أي نظام استبدادي، وليس هناك من وسيلة ديمقراطية لإيقاف هذا الاستبداد؛ إذا استطاعت أن تحافظ الأغلبية على وضعها في المؤسسات السياسية. ويظهر هذا بجلاء في الشعوب التي تتكون من أكثر من عرقية، فالعرقية ذات الغالبية العددية على ما سواها من العرقيات الأخرى مؤهلة للاستبداد، في حين لا تملك العرقية الأخرى أية وسيلة ديمقراطية لمنع هذا الاستبداد، ويبقى الطريق المفتوح هو الصدام مع الأغلبية، أو التعاون مع أعداء الوطن، ويصبح المحافظة على حقوق الأقليات العرقية مرهوناً بالحالة الأخلاقية للأغلبية.

فآليات الديمقراطية تعمل على توطين الفساد، وإعطائه الصبغة الشرعية حيث يكثر التحايل بهذه الآليات عبر التصويت، ويتم تغيير القوانين، ويصبح هذا التغيير مشروعاً ليس إلا لصدوره عن الأغلبية حتى وإن كان مجافياً للصواب، فتستطيع الأغلبية تغيير القانون الذي يُجَرِّمُ بعض تصرفاتها لتصبح تلك التصرفات بعد التصويت صوابا، والأمثلة كثيرة؛ فآليات الديمقراطية لا تمنع من تقنين الظلم وجعله شريعة ينبغي على الناس قبولها والعمل بها.

وهناك وجه آخر لمشكلة الأغلبية، فإنه من المستقر المعلوم حتى في المجتمعات المتقدمة أن شريحة الأكثرية ليست مثقفة عالمة فاعلة، وأن الطبقات الدنيا والمتوسطة هي التي تمثل الغالبية أو الأكثرية، أما الطبقات العليا فهي تمثل الأقلية في الناس، وفي هذا تغليب للكثرة الجاهلة، أو غير المثقفة، أو غير المؤهلة على القلة العالمة الخبيرة، حتى يستوي في ميزان الديمقراطية من وصل إلى أعلى الدرجات العلمية مع من ليس له من ذلك نصيب، ولو كان الموضوع يتعلق بتخصص ذلك العالم، كما يستوي فيها أتقى الاتقياء مع أفجر الفجار.

- آليات الديمقراطية لا تعبر حقيقة عن إرادة الناخبين:

إخفاق الآليات الديمقراطية في التعبير عن إرادة الناخبين، فبعد انتخاب النواب ينفصل النواب عن ناخبيهم فلا تكون لهم عليهم سلطة، ويظل الناخب في كل ذلك يعبر عن آرائه وتصوراته، أو آراء الحزب وتصوراته، كما أن فكرة تعبير النائب عن آراء ناخبيه هي في الحقيقة فكرة ساذجة، فإن الناخبين للنائب قد يتجاوزون العشرات من الآلاف، ولكل منهم رأيه بحكم ثقافته، ومصالحه، التي تختلف في قليل أو كثير عن آراء الآخرين، فكيف يكون النائب معبراً عنهم؟ ناهيك عن الذين لم ينتخبوه، وإذا قيل: بأن الناخبين إنما ينتخبونه من أجل البرنامج الذي يعلنه، لكان هذا القول لا قيمة له؛ لأنه لا يوجد شيء يلزم النائب بعدم الخروج على برنامجه، ثم إن هناك أموراً قد تَجِدُّ لم تكن موضوعة من قبل في برنامج النائب، ففي هذه الحالة فإنه يتكلم فيها بمجرد تصوراته، والتي قد تكون معارضة لآراء كثير أو قليل من منتخبيه، وإذا قيل: بأنه يرجع لناخبيه ويستطلع آراءهم. فإن هذا قول مغرق في الوهم فكيف يجمع هذه الآلاف؟ وكيف يستطلع رأيهم؟ وكيف يحسم الخلاف إذا اختلف الناخبون فيما بينهم؟، وهل المداولات التي تتم في البرلمان سوف تنتظر كل نائب حتى يرجع إلى ناخبيه؟.

- الفراغ الأخلاقي:

الديمقراطية نظام بلا أخلاق، إذ أنه لم يُؤَثِّرْ في الدول التي تبنته، وعملت به، ودعت إليه، فهو كالجسد الذي لا روح فيه، بل إن أكثر الدول استغلالاً لغيرها وظلماً لها هي الدول التي تعد رائدة في هذا المجال، فالديمقراطية البريطانية ـ كما يقال ـ هي أم الديمقراطيات، والثورة الفرنسية هي التي أشاعت نظرية السيادة الشعبية، وأمريكا اليوم تتربع على عرش الدول الديمقراطية العاملين بها والداعين إليها، ومع ذلك فلم تحجز هؤلاء ديمقراطيتهم عن الظلم، والطغيان، وسرقة ثروات الدول الأخرى، وقد تعرضت دول العالم العربي والإسلامي للاحتلال من هذه الدول الثلاث، وغيرها، وعانت من ذلك الكثير، وتعرض رجالها للقتل، وثرواتها للسرقة والنهب، وما زال هذا النهج مستمراً، فهل كان في الديمقراطية خُلُقٌ يمنعهم أو يحجزهم عن ارتكاب كل هذه القبائح؟.

- قبول الحل الديمقراطي يقضي على الحل الإسلامي:

وقبول الحل الديمقراطي هو في حقيقته الموافقة على كونه بديلاً عن الشريعة، فلا يمكن مع وجود هذا الحل أن يطالِبَ المسلمون حكامهم بتطبيق الشريعة؛ لأنه يقال لهم والحالة هذه: أمامك الشعب، وهو حجة يفصل في هذه المسألة، وهنا يقول أصحاب الحل الديمقراطي: هذه فرصتنا التي ننتظر حيث يخلى بيننا وبين الناس، فنقنعهم بما لدينا من التصور الإسلامي للسياسة. لكن كأن هؤلاء نسوا أو تناسوا أن كل النظم في الدول الإسلامية التي سلكت هذا الطريق الديمقراطي تنص في قوانينها على: عدم جواز إنشاء أحزاب على أسس دينية، وهذا مما يبين أن الديمقراطية في فهم الساسة تقترن بالعلمانية، والغرب الديمقراطي (الغاطس في ديمقراطيته إلى الأذقان) لن يقف مع المسلمين (الديمقراطيين) في هذه الحالة، بل سيقف مع أصحاب الحلول غير الديمقراطية إذا تعلق الأمر بالإسلام، ولسنا ندعي علم الغيب بذلك، فأمامنا موقف الغرب من وصول الجبهة الإسلامية للإنقاذ للحكم في الجزائر، والمثل القريب في فلسطين وموقفهم من حركة حماس.

- مقارنة الديمقراطية بغيرها مقارنة ناقصة:

هناك من يقر بأن الديمقراطية بها أخطاء كثيرة، ويُسلِّمون بكل ما ذكر من عيوبها، لكنهم يرونها على ما فيها من شر وأخطاء هي خير من غيرها بمرات كثيرة، وهؤلاء إنما يقيمون هذا الكلام على أساس مقارنة ناقصة، فهم يقارنون ذلك بالأنظمة الاستبدادية القائمة على القهر والظلم، أو على بعض النماذج التي تعد هي خارجة عن أصولها وليست مطبقة لها، لكن لو قورنت الديمقراطية بما يقدمه الإسلام في مجال نظام الحكم لظهرت عيوبها، وسوآتها في مقابل النظام الكامل المتكامل، ولعل بعض من يقول بخيرية النظام الديمقراطي يقول: نحن لم نضعه في مقابل الإسلام، وإنما نحن نطالب به للخروج من حالة الاستبداد التي تعيش فيها الشعوب. لكان يقال لهم: إن الذي ينقص في هذه الحالة ليس هو النظام العملي حتى نأتي به من خارج محيطنا، ولكن الذي ينقص هو الرغبة والإرادة في تمكين الشعوب، وإيجاد الرغبة والإرادة لا يكون بالدعوة إلى الديمقراطية؛ لأنه توجد من الوسائل الديمقراطية ما يكفي لجعل الديمقراطية حبراً على ورق عند عدم الرغبة في تطبيقها، أما إذا وجدت الرغبة، فلماذا اللجوء إلى نظام فاسد، وترك العودة إلى النظام الإسلامي؟.

- تعدد صور الديمقراطيات:

ولو أن هؤلاء انعتقوا من ربقة المتابعة للغرب لما احتاجوا إلى كل هذا العناء، فإن الديمقراطية ليست شيئاً واحداً أو محدداً، ولم ينزل بها تشريع من عند الله، بل كانت تتغير وتتبدل في صور ممارساتها، بإزاء العقبات، والمشاكل، والتناقضات التي كانت تقابلهم، كمشكلة التوفيق بين مصالح الفرد، ومصالح الأقلية، ومصالح الأكثرية، وكانت كل الصور التي ظهرت فيها الديمقراطية على مدار تاريخها تمثل حلولاً أو محاولات للتغلب على هذه المشكلات التي تعترضهم، لكن ذهنية التابع الذي لا يصدر عن رؤية أصيلة، تجعله ينظر إلى الديمقراطية وكأنها شريعة محددة، لا يملك بإزائها إلا المتابعة التامة، والنقل عنها من غير تصرف.

- ماذا يعني رفضنا للديمقراطية؟

لكن رفضنا للديمقراطية لا يعني ـ كما يصور ذلك الديمقراطيون ـ إقرار التسلط والرضا به، وإهدار مكانة الشعوب، والاستهانة بإرادتها، فإن تصوير الأمور على أنه: إما القبول بالديمقراطية، وإما القبول بالديكتاتورية! هو تسطيح مخل بالمسألة، وهو نوع من الإرهاب الفكري الذي يحاول أن يجر الناس إلى قبول الديمقراطية بالإكراه، وهو مشابه لقول بوش ـ عندما أراد أن يجر الدول معه في العدوان على الآخرين ـ: من ليس معنا فهو علينا.

لقد حرر الإسلام الناس من عبوديتهم لبعضهم البعض حينما أخرج سلطة التشريع من أيدي البشر والخلائق جميعاً، وجعل ذلك من خصائص الربوبية، فالإنسان في ظل الإسلام هو حر حقاً؛ لأنه لا يخضع إلا للذي خلقه ورزقه، وحتى المسائل التي لم يأت بشأنها نص قاطع، فإن الرأي فيها لا يكون قولاً بالاختيار عن طريق أكثرية الأصوات، وإنما يكون بحثاً في النصوص والدلائل للوصول إلى أشبه الأشياء، بما يريده الله ـ تعالى ـ الذي خلقنا ورزقنا، وأحْياناً بعد أن لم نكن شيئاً مذكوراً.

فالمسلم في كل أحواله يتمتع بالحرية الحقيقية، لا الحرية الصورية في الديمقراطية، والتي يكون فيها الإنسان عبداً للسلطة التشريعية، فكل الذي فعله الفكر الديمقراطي في هذا الباب أنه نقل الإنسان من عبودية الفرد في الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية، إلى عبودية الجماعة في النظام الديمقراطي.

إن كل ما يمكن أن تقبله النفوس السوية أو تدعو إليه، مما دل عليه الفكر الديمقراطي، قد دلت عليه من قبل شريعة الإسلام، لكن على نحو صافٍ خالٍ من الشوائب العالقة بالديمقراطية، ـ فمثلاً ـ عمد الفكر الديمقراطي في سبيل الحد من طغيان السلطات أن دعا إلى ما عُرف بمسألة الفصل بين السلطات الثلاث: (التشريعية ـ التنفيذية ـ القضائية) ، ورغم أن الفكر الديمقراطي لم يستطع أن يحقق ذلك فعلا تحقيقاً كاملاً، ومع ذلك فقد جعل السلطة التشريعية في يد البشر (المجلس التشريعي) وهذا من أشد الطغيان، وأما في شريعة الإسلام فإن التشريع ليس من اختصاص البشر بل هو لله وحده، وكل ما للبشر في هذا المجال هو الاجتهاد في ضوء الشريعة الإلهية، على أمل إدراك حكم الشارع في هذه المسائل التي تحتاج إلى الاجتهاد.

وأما السلطة القضائية في الشريعة فهي سلطة مستقلة حقاً، ليس لأحد عليها سلطان خارجي حتى لو كان الأمير، ولا يملك أحد إلزامه بشيء خارج عما شرعه الله ـ تعالى ـ، بل لو أراد الأمير أن يلزمه بالقضاء على أحد المذاهب الإسلامية لم يكن له ذلك. يقول ابن قدامة: «ولا يجوز أن يُقَلَّدَ القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه، وهذا مذهب الشافعي ولم أعلم فيه خلافاً، لأن الله ـ تعالى ـ قال: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: ٢٦] والحق لا يتعين في مذهب، وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب، فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط، وفي فساد التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع» (١) ، وقال ابن القيم: «صرح أصحاب الشافعي وأحمد ـ رحمهما الله تعالى ـ بأن الإمام إذا شرط على القاضي ألَّا يقضي إلا بمذهب معين بطل الشرط، ولم يجز له التزامه، وفي بطلان التولية قولان مبنيان على بطلان العقود بالشروط الفاسدة» (٢) ، وقال ابن حزم: «واتفقوا على أنه لا يحل لقاضٍ ولا لمفتٍ تقليد رجل بعينه» (٣) ، وقال الماوردي: «فلو شرط المولِّي وهو حنفيٌّ أو شافعيُّ على من ولاَّه القضاء ألاَّ يحكم إلاَّ بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة فهذا على ضربين: أحدهما: أن يشترط ذلك عموماً في جميع الأحكام، فهذا شرطٌ باطلٌ سواء كان موافقاً لمذهب المولِّي أو مخالفاً له، وأما صحة الولاية فإن لم يجعله شرطاً فيها، وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي، وقال: قد قلّدتك القضاء، فاحكم بمذهب الشافعي ـ رحمه الله ـ على وجه الأمر، أو لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه النهي، كانت الولاية صحيحة والشرط فاسداً، سواء تضمَّن أمراً أو نهياً، ويجوز أن يحكم بما أدَّاه اجتهاده إليه سواء وافق شرطه، أو خالفه، ويكون اشتراط المولِّي لذلك قدحاً فيه إن علم أنَّه اشترط ما لا يجوز، ولا يكون قدحاً إن جهل، لكن لا يصحُّ مع الجهل به أن يكون مولِّياً ولا والياً، فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية، فقال: قد قلدتك القضاء على ألا تحكم فيه إلاَّ بمذهب الشافعي، أو بقول أبي حنيفة كانت الولاية باطلة؛ لأنه عقدها على شرطٍ فاسدٍ، وقال أهل العراق: تصحُّ الولاية ويبطل الشرط» (١) .

وهو ما يبين استقلال القضاء في الإسلام، وأنه ليس لولي الأمر أن يتدخل فيه، بل لو قضى القاضي بما يخالف اجتهاد ولي الأمر، لم يكن له لينقض كلام القاضي، يقول ابن القيم: «وعن عمر أنه لقي رجلاً، فقال: ما صنعت؟ قال: قضى عليٌّ وزيد بكذا، قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله، أو إلى سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي مشترك. فلم ينقض ما قال عليٌّ وزيد» (٢) .

وأما السلطة التنفيذية فإنه لا يجوز اغتصابها، والتغلب عليها، واستخدام القوة للحصول عليها، وإنما يشرع أن يكون ذلك برغبة المسلمين، ورضاهم، وشوراهم من غير إجبار أو إكراه، وقد بينت في مقال سابق (٣) دور الأمة في ذلك، وسقت على ذلك العديد من الأدلة.

ويبين أهل العلم أن السلطة التنفيذية (الخلافة) لا تمنحها لمستحقٍ إلا الأمة، فقد أجمع أهل العلم على أن نصب الإمام فرض كفاية على الأمة (٤) ، وهذا يعني أنه مفروض على الأمة من حيث مجموعها لا من حيث أفرادها، ولا يمكن أن يقال: أن الأمة مفروض عليها القيام بذلك العمل، بينما لا يكون لها دور في العمل نفسه. هذا كلام متناقض يدفع بعضه بعضا، قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: «ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة، ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم، وكذلك كل من قال بقوله، واتبعه على رأيه ومذهبه» (٥) ، وقال النووي: «وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة» (٦) .

وقد تحدث الماوردي عن حالة ما إذا وقع الإمام في أسر يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه، ثم قال: «وللأمة اختيار من عداه من ذوي القدرة» (٧) ، وبيَّن أنه لو عقدت الخلافة لرجلين، وأشكل معرفة المتقدم منهما، فلو تنازعاها، وادعى كل واحد منهما أنه الأسبق، لم تسمع الدعوى، وعلل ذلك بقوله: «لأنه لا يختص بالحق فيها، وإنما هو حق المسلمين جميعاً» (٨) ، فكون نصب الإمام واجباً على الأمة، يعني أن الأمة هي التي يصح منها ذلك، وأنه لو استبد بذلك واحد أو جماعة بدون موافقتها لم يصلح ذلك، وهذا هو الذي يليق بمكانة هذه الأمة الشريفة التي هي خير أمة أخرجت للناس من ذرية آدم ـ عليه السلام ـ، وقد قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الخليفة الراشد الملهم على منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة بمحضر من الصحابة كلهم: «من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي تابعه؛ تغرة أن يقتلا» (٩) .

ثم إن للمسلمين الحق في الاحتساب والإنكار على أمرائهم إذا خرجوا عن الجادة بطرق الإنكار المعروفة التي أقرتها الشريعة، فقد أقر الرسول -صلى الله عليه وسلم- محاسبة خالد ـ رضي الله عنه ـ من قبل جنوده عندما امتنعوا من تنفيذ أمره الباطل، عندما أخطأ في اجتهاده، وقتل الذين قالوا: صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» مرتين.

وهذا أبو بكر ـ رضي الله تعالى ـ عنه يقر مبدأ الحسبة السياسة عقب توليه الخلافة مباشرة إذ خطب الناس، وقال لهم: «إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني» ، مما يبين أن الحسبة ليست قاصرة على الرعية دون الولاة؛ لأن الكل في ميزان الشرع عبد لله، والحاكم والمحكوم كلاهما مطالب بعبادة الله وحده، وطاعته، واتباع ما شرعه، وما طلبه أبو بكر ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ من الصحابة لا يتأتى منهم إلا بعد المتابعة والمراقبة التي بها يتمكنون من معرفة الإحسان أو الإساءة، وهذا عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ يقول: (إني والله ما أرسل عمالي إليكم؛ ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم؛ ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فُعِلَ به شيء سوى ذلك، فليرفعه إليَّ فوالذي نفسي بيده إذاً لأقصنّه منه، فوثب عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين! أَوَ رأيت إن كان رجل من المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته، أئنك لمقتصه منه؟ قال: أي والذي نفس عمر بيده إذن لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقص من نفسه. ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم (١) ؛ فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم؛ فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض (٢) ؛ فتضيعوهم) (٣) فعمر ـ رضي الله عنه ـ يحض رعيته على عدم السكوت على ظلم الولاة، ويوجه الولاة بعدم منع المسلمين حقوقهم، والعمل على راحتهم، والحفاظ عليهم.

لكن مع ذلك فإن النظام الإسلامي لا يفصل بين السلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، وأما السلطة التشريعية فهي أصلاً ليست للبشر، وبالنظر إلى ما يقدمه النظام الإسلامي لمنع الطغيان والاستبداد أنه لم يجعل التشريع بيد البشر، بينما النظام الديمقراطي لم يفعل شيئاً أكثر من أن يجعل التشريع ـ بعدما كان في ظل الاستبداد في يد فرد أو فئة ـ جعلت الديمقراطية التشريع في يد مجلس يزيد عدده قليلاً عن الحالة الأولى، وأما أصل الاستبداد، والظلم، والجور فلم تتخلص منه إذ جعلت التشريع بيد البشر.

وإذا تبين لنا هذا، فما الحاجة إلى ما يدعيه البعض حول أسلمة الديمقراطية؟ فإن كانت الأسلمة تعني: إقرار ما جاءت به الديمقراطية مما يوافق الإسلام، ومما يخالفه كان هذا من قبول الباطل، ونشره بين المسلمين باسم الإسلام، وإن كانت الأسلمة تعني: أنه لا يقبل منها إلا ما يقره الإسلام، فلماذا الحرص على نسبته للديمقراطية، ولا ينسب للإسلام نفسه؟ على أنه ما من شيء حَسَن أتت به الديمقراطية بدون عيوب، إلا وفي الإسلام ما هو أفضل منه وأكمل، فما دمنا أقررنا أن الإسلام دين ودولة، وأن الإسلام أكملُ الشرائع، فكيف يقوم في الذهن أن شريعة الإسلام تخلو عن بعض الأمور التي يحتاج إليها المسلمون في تنظيم دولتهم، بحيث يأخذونها من غيرهم؟.