للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تربية

[التربية: الواقع والبديل]

عدنان محمد عبد الرزاق

التربية أم التعليم:

حرصت معظم دول العالم في السنوات الأخيرة على تسمية المؤسسات

والوزارات المهتمة بشئون التعليم بالتربية بدلاً من التعليم، وبعضهم قرن التربية

بالتعليم حرصاً منهم على أهمية التربية، وعلى أن التعليم جزء من التربية،

والتربية أعم وأشمل.

وهذه حقيقة أدركها سلفنا الصالح إذ كانوا يسمون معلم الأولاد: المؤدب

والمربي. وهنا يحضرني قول ابن المبارك رحمه الله: (تعلمنا الأدب ثلاثين عاماً

وتعلمنا العلم عشرين) .

وليست هذه التسميات الحديثة إلا نتيجة أبحاث وتجارب طويلة قامت هنا

وهناك وتناولها الأبناء عن الآباء.. وهي ليست حكراً على أحد بل تنتقل من بلد

لآخر بل هنالك مؤسسات متخصصة بنقل تجارب الآخرين وخبراتهم مثل منظمة

(اليونيسكو) إذ لها نشاط واسع في هذا المجال، والمربون المتخصصون يستطيعون

تمييز الخبيث من الطيب..

ولا يمكن فصل التربية عن التعليم، فالتربية إذ تسعى لبناء الإنسان السوي

المحب للفضيلة ذي الشخصية المتوازنة المتحلي بمكارم الأخلاق فهي حريصة أن

يكون هذا الإنسان متعلماً مثقفاً بالعلوم المختلفة، فهو هدف من أهدافها.. فالتربية

تواكب التعليم، وأكثر ما تكون وضوحاً في سنين الدراسة المتقدمة، الابتدائي

والإعدادي.. وتقل في سني الدراسة المتأخرة، حيث تكون شخصية المتعلم قد

تبلورت، وهذا لا يعني انعدامها ...

ولا بد حتى تتضح صورة التربية ممزوجة بالتعليم من ذكر بعض الأمثلة من

المنهج والمربي والطالب.

فمن حيث المنهج نورد بعض الأمثلة التي تهدف إلى التعليم البحت وأخرى

إلى التربية والتعليم معاً، ففي الحساب مثلاً، لنأخذ هذا المثال:

مع سعيد ٥٠ ريالاً صرف منها ١٠ ريالات، كم بقي عنده؟ يمكن صياغة

المثال نفسه حتى يحقق غاية تربوية وتعليمية فيصبح كالتالي: مع سعيد ٥٠ ريالاً،

أعطى فقيراً قابله ١٠ ريالات، كم بقي عنده؟

وفي العلوم أيضاً انظر إلى هذه المعلومة الموجودة في الكتب:

حبت الطبيعة الزرافة عنقاً طويلاً لتستطيع أكل أوراق الأشجار. ويمكن

صياغة هذه المعلومة؛ بل يجب أن تصاغ كالتالي:

خلق الله للزرافة عنقاً طويلاً لتستطيع أكل أوراق الشجر.. على افتراض أن

المعلومة صحيحة، فهنا تربية مع تعليم.

وهكذا في مختلف المواد تستغل النصوص وتتضافر المعلومات لتحقق أهداف

سلوكية ووجدانية بالإضافة إلى الأهداف التعليمية حتى يحمل الطالب الأدب

والفضيلة والعلم.

هذا في المناهج؛ أما في مجال المربي والطالب فما أكثر المواقف اليومية

التي تمر والتي تحمل مئات الفرص لكي يتربى الطالب من خلالها ولا بد هنا من

ذكر بعض الأمثلة:

لنتصور أن طالباً أخطأ في الإجابة الصحيحة يمكن أن يقال له ما يلي:

- خطأ اجلس.

- أنت بواد ونحن بواد.

- غير فاهم أبداً، مع بعض عبارات التوبيخ أحياناً ...

ويمكن أن يقال له: جزاك الله خيراً لقد اقتربت من الإجابة، ويسأل من

يساعد أخاه أو يكمل له الإجابة؟ .

فالعبارات الأولى ليست من التربية بل العكس تعين على إحباط الطالب.

والإجابة الأخيرة من المربي أنقذت الموقف ولم يشعر الطالب بأي شيء غير عادي..

مثال آخر: دخل المدرس الفصل ووجد الطلاب قد أمسكوا بطالب سارق

وجدوا عنده قلم زميله، وتعالت الأصوات: سارق، سارق! فما كان من المدرس

إلا أن صاح معهم سارق! كيف تسرق؟ والله لأفعلن وأفعلن.. وانهال عليه ضرباً

وتوبيخاً.

وتصرف آخر بديل: أسكت المعلم الطلاب وقال: لا، سعيد لا يسرق،

كيف يسرق ويعرف أن السرقة حرام؟ ! لا بد أنه أخطأ وظن أن القلم قلمه،

ووضعه في الحقيبة، أليس ذلك يا سعيد؟

سعيد: بلى يا أستاذ... تلافى الفضيحة ثم بينه وبين سعيد يعالج الأمر إذا

اقتضى ذلك بالطرق المعروفة.

فالسرقة والكذب والاعتداء والحيل كل ذلك يحصل مع الأطفال في المراحل

الأولى، ولكن يجب أن يعالج بحكمة لأن موقفاً واحداً ارتجالياً مع طالب قد يحطم

شخصيته ويجعله غير سوي طيلة حياته، وإنني لا أنسى ذلك المدرس الذى كاد

يحطم طالباً صغيراً لأنه بال بولاً لا إرادياً في الفصل، وأصبحنا شباباً كباراً حين

نمر بذلك الطالب فيطرق خجلاً وحرجاً منا لأننا نعرف القصة، وحين حصل مثل

ذلك مع مدرس آخر وأصر الطلاب على أن الطالب بال في الفصل على ملابسه،

وقف المدرس إلى جانب الطالب بحكمته وصرف انتباههم بلباقة عن التفكير في هذا

الموضوع حتى سرعان ما نسوه وانتهى الأمر.

إن الطفل يحتاج إلى يد حانية تمسح على رأسه.. وتأخذ بيده إلى شاطئ

التوازن النفسي بعيداً عن الخلل والشروخ.. وهذا ما دعا بعض الدول الغنية إلى

تعيين (أخصائي اجتماعي) في كل مدرسة يعالج مثل هذه الأمور.. ولكن التجربة لم

تنجح لسببين:

الأول: سوء اختيار هؤلاء الأخصائيين.

والثاني: المعلم أولى بحل هذه الأمور ومعالجة هذه المواقف وذلك لعدم

التوسع في نشر مثل تلك الأسرار والمشاكل.

وخلاصة القول لا بد من التربية أولاً، والتعليم معها ثانياً وخاصة في

المراحل الأولى، إذ تعتبر المدرسة امتداداً للبيت فيجب أن تتضافر جهود المربين

على ذلك، ليحمل العلم المتزنون الصالحون المؤدبون المحبون للفضيلة لكي يؤتي

هذا العلم ثماره، ويحمله أهله..

على يد من يتربى الأبناء؟

أول ما يتبادر إلى الذهن أن الأبناء يتربون على أيدي معلمي وزارة التربية

والمؤسسات التابعة لها.. نعم هذه حقيقة، ولكن هل هؤلاء فقط؟ أم هنالك مصادر

أخرى تؤثر في العملية التربوية؟ إذاً ما هي هذه المصادر والمؤسسات المعنية

بالتربية بشكل مباشر أو غير مباشر، وبنسب مختلفة؟ والتى لا بد لكل مشتغل

بأمور التربية أن يضعها في حسابه؟ :

١ - البيت: وهو أولها وأهمها وأطولها مدة وامتداداً وهو الأساس.

٢ - والمدرسة.

٣ - البيئة والمجتمع: كالمساجد، والمكتبات، والمحاضرات، والأندية

والجمعيات، ووسائل الإعلام باختلافها وبتنوع أساليبها.. والخدمة العسكرية في

بعض الدول لها دور كبير في صقل شخصية الأفراد.

وكذلك سياسة الدولة العامة، هل هي قائمة على احترام مواطنيها، وحرصها

على أن يكونوا عاملين منتجين تهيئ لهم العيش الكريم أم عكس ذلك تحرص

على قهرهم وإذلالهم وإبقائهم مستهلكين ضعفاء؟ كل هذه المؤسسات التي ذكرنا

والتى فاتنا ذكرها تترك بصماتها جلية واضحة على شخصية ذلك البرعم، وكل

واحدة منها تحتاج إلى كتب لتتناولها بالشرح والتفصيل والتأثير وما لها وما عليها.

التربية من خلال المدرسة:

حينما تذكر المدرسة نعني بذلك المؤسسة الرسمية المعنية بالتربية والتي تكون

غالباً تحت إشراف الحكومات، وقد اتفق المربون على أن عناصر العملية التربوية

ثلاثة:

١ - المنهج أو الكتاب.

٢ - والطالب.

٣ - والمربي.

المناهج:

قبل الحديث عن المناهج لا بد من الكلام عن أهداف التربية إذ أن المناهج

تخدم تلك الأهداف..

تعتبر أهداف التربية في كل بلد عنواناً لسياسة ذلك البلد لبناء مجتمع يحقق له

طموحاته وتطلعاته، فمن البديهي أن تختلف أهداف التربية من بلد لآخر.. فأهداف

التربية في اليابان مثلاً تهدف إلى إقامة قاعدة صناعية عريضة تختلف عن أهداف

التربية في إسرائيل إذ تهدف لبناء قاعدة عسكرية عريضة، والقاسم المشترك بين

الأمم من أهداف التربية هو إعداد المواطن (الصالح) ..

وهنا ومن خلال الأهداف تكمن خطورة الأمر إذ توجه كافة الوسائل والأنشطة

لخدمة ذلك الهدف وقلما تجد بين الأهداف هدفاً يدعو لترسيخ العقيدة الصحيحة أو

إعداد الإنسان المسلم الحق ... وإذا وجد مثل ذلك قرن بشيء آخر أفسده كأن يكون

الهدف: إعداد الإنسان المؤمن بالله والوطن..

وهذه الأهداف العامة تتشعب إلى أهداف خاصة ثم توضع في قوالب مختلفة

لتشكل فيما بعد مع المواد العلمية المناهج المقررة للتدريس.

إذاً تصاغ المناهج وفقاً للأهداف من قبل متخصصين بالمواد العلمية وعلماء

نفس وتربية، ومدرسين ذوي خبرة طويلة ... ثم تفرغ في كتب، وتجرب وتعدل

بين الحين والآخر لتشكل دليلاً للمعلم والطالب وخطاً عريضاً يسترشد به وفق ما

رسم له. والحديث عن المناهج وما سببته من غسل دماغ الناس وتزوير التاريخ

يطول جداً، ولكن أقول: إن أغلب المناهج التي بين أيدينا مترجمة ومنقولة عن

غيرنا بسلبياتها دون الإيجابيات وبعض النظريات أو الفرضيات قد تركها أصحابها

ونحن ما زلنا متعلقين بها.

الطالب:

وهو محور العملية التربوية فالجميع يعمل لأجله.. والجهود والتجارب كلها

من أجل أن تحقق له المزيد من المكاسب.. فيجب أن تكون المدرسة بالنسبة له

حياة وليست إعداداً للحياة، يتعلم من خلالها وهو يلعب ويلهو، وهي امتداد طبيعي

للبيت، وتغيرت كثير من المفاهيم فلم يعد الطفل صفحة بيضاء تكتب فيها ما تريد

بل هو جملة من الانفعالات والإحساسات تحتاج إلى توجيه وتصعيد.. ويجب أيضاً

أن يكون الطالب إيجابياً يتعلم بنفسه، والمعلم سلبياً يراقب ويوجه، وخرج الطلاب

في دول الغرب من سجون الصفوف إلى المخابر والمزارع والمعامل للتعلم

وأصبحت العملية تعلُّمية وليست تعليمية كذلك الثواب والعقاب والواجبات كل ذلك

خضع لتجارب كثيرة وأبحاث كلها تهدف إلى إعداد هذا المتعلم ليكون شخصية

متوازنة صالحة.

أما في كثير من الدول العربية فلا يزال الطالب بين جدران الفصول يتلقى

الخطب والمحاضرات النظرية وأسيراً يعد الساعات حتى يسمع جرس الانصراف

في حين زميله في الدول الأخرى تراه يبحث في المختبر والمعمل ويخترع ويشجع..

المربي:

وهو في العملية التربوية الأهم على الإطلاق والمنهج بعده في الأهمية وهو

الرأس إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله.. إذ يستطيع المربي

الفاضل أن يغطي سلبيات المناهج ويستطيع المربي الفاشل أن يغطي إيجابيات

المناهج أيضاً..

والأهم من ذلك والأصعب أن الطالب لا يتربى على يد المربي من خلال

الدروس فقط بل يأخذ عنه أضعاف ذلك من خلال النشاطات والإعجاب الشخصي

والمحاكاة حتى في اللباس والمشي والكلام، يأخذ في هذا المجال وقد يتأثر به ويأخذ

عنه أكثر مما يأخذ عن الأب.

فأين هذه الشخصية المتزنة الطيبة القدوة إلى الخير الآمرة بالمعروف الناهية

عن المنكر الذي يضع مخافة الله نصب عينيه حاملاً هذه الأمانة محباً لها، عارفاً

بصعوباتها.. كيف يختار؟ .

يخضع اختيار المدرسين إلى اعتبارات تتوافق مع سياسة البلد لتضمن تحقيق

الأهداف التي رسمتها وتطبيق المناهج التي أعدتها لذا تختلف الدول في ذلك.

وتتفق في شيء واحد وهو حصوله على المؤهل الذي يؤهله للعمل، وإذا لم تسع

الدولة لتأمين المدرس الكفؤ فهي تهدم بيتها بيدها مهما طال الزمن أو قصر.

أما المؤهل فينقسم إلى قسمين:

الأول علمي: فيجب أن يكون المدرس ملماً إلماماً جيداً بالمادة التي سيدرسها.

الثاني تربوي: وهو حصوله على مؤهل تربوي يدرس من خلاله:

١ - طرق تدريس المواد: أي كيف يوصل هذه المواد للطالب وفن ذلك.

٢ - تربية وعلم نفس: وهي معرفة المراحل النفسية والانفعالية التي يمر من

خلالها الطالب ليسهل عليه التعامل معه بدقة ويأخذ بيده.

فلا يعتبر مربياً من لم يحصل على المؤهل التربوي الثاني ولو كان في مادته

في أعلى الدرجات ... ومع أهمية هذا الأمر فقد غاب عن أذهان كثير من الناس

وممن نحسبهم على خير. وقد فطن له وتنبه له كثير من الدول التي قطعت شوطاً

كبيراً في هذا المضمار؛ ففي فرنسا مثلاً يختار خيرة المربين للمرحلة الابتدائية،

وتكون رواتبهم أعلى الرواتب، ويحترمون من الجميع، ولم لا؟ ، لأن الأساس

هنا والبناء هنا، وبناء الإنسان أهم بكثير من بناء البنيان.. والرابح هو المجتمع

في حين سمي (دار المعلمين) في إحدى الدول العربية (مأوى العجزة) وكنا نسمعها

من مدرسينا إذ ينصحوننا بأن لا نعمل في التربية والتعليم أبداً لما لاقوه، حتى قالوا: اشتغل أي عمل ولا تشتغل معلماً، وإذا أراد شخص أن ينتقص من الآخر يقول

له (معلم أولاد) .

وليست هذه هي المصيبة فحسب بل هذه نصف المصيبة والنصف الآخر أن

المعلمين أنفسهم صدقوا هذا وعرفوه، وإذا أردت المزيد يكفي الاطلاع على

مجلاتهم التي تصدر عنهم وعن النقابات لتراها مليئة بالنكات والرسوم الكاريكاتورية

التي تحمل هموم المعلمين ومشاكلهم وخاصة الاجتماعية والمادية، حتى يخيل إليك

أنهم متسولون.

فالمعلم يعرف نفسه ويعرف قدره في المجتمع لذا تراه متخفياً لا يظهر أنه معلم

فلقد أمضينا ثلاث سنوات ونصف مع زميل لنا وأخفى عنا أنه معلم وحين عرفنا

فيما بعد قال: حتى إذا تكلمت يسمع لي.

ومعلم آخر يدعي أنه بائع أمام أناس اجتمع بهم وحين سئل عن السبب قال:

تريدون أن يضحكوا مني؟ ! ..

فبأي نفسية يربي هؤلاء وبأي عطاء يعطون وأي قدوة يكونون؟ ! إن ذلك

الواقع الأليم شائع ليس في الدول التي تسمي فقيرة فحسب؛ بل في الدول الغنية

أيضاً قلما تجد شباباً يتقدمون إلى هذه المهنة إلا من ضاقت عليهم المهن الأخرى

وينتظر أي فرصة ليتفلت منها.

هذه الهموم ينقلها المربون إلى الأبناء والأبناء إلى من بعدهم، وهكذا يتراكم

الجهل والخطأ ويتنكر المجتمع الجاهل للمعلم، والمعلم للمجتمع والطالب.

هل يمكن من خلال هذا الواقع إعادة ترتيب الأوراق وأن تقوم عملية تربوية

متكاملة تجمع بين آخر ما وصل إليه العالم من تجارب في هذا المضمار وبين تعاليم

ديننا الحنيف؟ ..

الجواب: نعم: بإذن الله.. فإذا صيغت الأهداف صياغة جديدة لبناء مجتمع إسلامي قائم على الفضيلة منتج آخذ بالأسباب والسنن الكونية مواكب لركب العلم الحديث غدت المناهج تخدم هذه الأهداف، واختير المدرس الكفؤ الذي يتقي الله ليحمل هذه الأمانة، وتعاونت مكانة المؤسسات المعنية بالتربية من بيت ومدرسة وإعلام ومساجد وجمعيات... تعاونت جميعاً على هدف واحد أظن أن ذلك يحقق التربية التي نصبوا إليها، وهذا لا يتحقق إلا من خلال الأجهزة العليا المسئولة عن السياسة العامة.