للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تأملات قرآنية (من نبأ موسى وفرعون) (٢ ـ ٢)]

د. أحمد عبد الله العماري

تحدث الكاتب وفقه الله تعالى في الحلقة الماضية عن ميلاد موسى ـ عليه السلام ـ وما صاحب ذلك من الأمور العظام حتى اضطر إلى الهجرة خوفاً من دعوته وملته، ويواصل في هذه الحلقة الحديث عن عودة موسى ودعوته لفرعون، والمصير الذي لاقاه فرعون لرفضه هداية الله.

١٣ ـ (الرحلة البرية الثانية لموسى ـ عليه السلام ـ رحلة العودة إلى الوطن) :

إن من سنن الله ـ تعالى ـ في خلقه حنين الإنسان إلى وطنه مهما كان في ذلك الوطن من العنت والشقاء. وإن نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ لمّا غادر وطنه بغير رضىً منه أو اختيار، وغاب عنه سنين عديدة، بسبب جور الظالمين عليه، أعد عدَّته وعاد إلى وطنه، بعد ما قضى ذلك الأجل الذي تمّ بينه وبين ذلك الشيخ الكبير، والذي يُقدَّر بعشر سنوات، ويسدل الستار على تلك السنوات العشر، لا ندري ماذا تلقَّى فيها موسى، وماذا عمل فيها؟ إلاّ رعيه للغنم فقط، ثم عقد العزم على الرجوع إلى أهله وبلاده، مستصحباً معه في طريقه أهله ومتاعه، ويلقى في تلك الرحلة من المشاهد والمواقف الشيء العظيم، والنص القرآني يبين ذلك ويوضحه بدون تفصيل.

قال ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بَأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يَعْقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص: ٢٩ - ٣٢] .

إن هذا النص القرآني الكريم يحمل في طياته أخبار تلك الرحلة بإيجاز، ويعرض لنا مشاهدها باختصار، مع التمام في المعنى، وهذا من بلاغة القرآن وفصاحته وعظمته.

لقد عاد موسى ـ عليه السلام ـ إلى بلاده برفقة أهله وبعض متاعه، يحثُّ الخطو إلى بلاده ـ عادة كل غائب يعود إلى أهله وأرضه ـ لكن يفاجأ ـ عليه السلام ـ بنداءات ومشاهدات وبراهين لم يعهدها من قبل في طريقه، ممّا أثار في نفسه الخوف والوجل والقلق والحذر، ومن تلك المواقف:

١ ـ مشاهدته لنار بعيدة عنه وهو في ليلة مظلمة مطيرة؛ قاصداً الاستضاءة بها، والتصلية، والتدفئة.

٢ ـ سماعه النداء من الشجرة في البقعة المباركة الصادر من الله رب العالمين.

٣ ـ رؤيته لعصاه بعد إلقائها وهي متغيرة عليه في صورتها وخلقتها وحركتها، وخوفه منها.

٤ ـ منظر يده بعد أن أخرجها من جيبه وهي بيضاء نقية من غير سوء.

٥ ـ وجود الاطمئنان والسكون بعد أن يضع يده على قلبه، رحمة من الله ـ تعالى ـ به.

هذه المواقف العظيمة التي شاهدها موسى ـ عليه السلام ـ وهو في طريقه إلى أهله وبلاده، ما كانت تخطر بباله، ولا كان يتوقع رؤيتها وسماعها، وبناءً على ذلك أصيب بالخوف وعدم الاطمئنان، لكن عناية الله ـ تعالى ـ لعبده وتكريمه له، ترافقه من المهد إلى اللحد.

إن أعظم مشهد وموقف قابله موسى ـ عليه السلام ـ في هذه الرحلة البرية هو تكليف الله ـ تعالى ـ له بالرسالة إلى عدوه اللدود «فرعون» الذي هرب منه في أول الأمر، وهجر أهله وأرضه من أجله، وهذا تحقيق لوعد الله ـ تعالى ـ الذي لا يخلف الميعاد حيث طمأن أمّه بأنه ـ سبحانه ـ سيرُدُّه إليها، وفوق ذلك سيجعله من المرسلين. كما قال ـ سبحانه ـ: {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: ٧] .

ومن المواقف العظيمة التي لاقاها موسى في طريقه، كون ربه الذي خلقه يناديه، ويتكلم معه بدون واسطة، هذا هو الفضل العظيم، وهذا هو العطاء الجزيل، الذي لا منّة فيه ولا نفاذ.

أيّ تكريم، وأيّ تشريف هذا ترجع به يا موسى إلى أمك وأهلك وأعدائك بعد رحلتك المضنية، وغربتك المتعبة؟! فارقت أمك وأهلك ووطنك، وأنت في حالة يرثى لها من الخوف والمطاردة، والغربة والوحشة، تمكث في غربتك عشر سنين، والشمس تشرق عليك وتغرب، وأنت خلف غنيمات تغدو بها وتروح، والله هو الوحيد الذي يعلم ما يكُنُّه صدرك، وما يلوح في ذهنك، وما تأمرك به نفسك.

إن ما حصل لك في طريقك وأنت في رحلتك الأولى، وفي رعيك للغنم هو نوع من الابتلاء، كما أن ما حصل لك في طريقك وأنت عائد إلى أهلك ووطنك من المواقف والمشاهد العظيمة هو نوع من الابتلاء أيضاً، وإن كان هناك فرق بين الابتلائين، وتلك الابتلاءات هي سبيل التمكين.

إنّ هذا هو اختيار الله ـ تعالى ـ لك، ونِعمَ المختار، ونِعمَ الاختيار. قال ـ تعالى ـ: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} .

[طه: ١٣]

وهي محبة الله ـ تعالى ـ ترعاك وتكلؤك. قال ـ تعالى ـ: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: ٣٩] .

وهو اصطفاء الله ـ تعالى ـ لك من دون الناس بالرسالة والكلام. قال ـ تعالى ـ: {قَالَ يَا مُوسَى إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: ١٤٤] .

ما أعظم هذه القدرة التي تحيط بك ياموسى! وما أعظم هذا التكريم الذي فزت به من بين خلق الله، اختيار واصطفاء، ومحبة وكلام، ونصر وتأييد، وعلو وتمكين، كل ذلك يأتي بعد ذلك العناء الذي لا قيته في أول حياتك، ما عقلت منها وما لم تعقل، والأعمال بالخواتيم.

ولقد حُرِم أهل الابتداع من الإيمان بهذه الصفات الإلهية ـ المحبة والكلام والرؤية والسماع ـ التي امتنَّ الله بها على عبده موسى ـ عليه السلام ـ وغيرها من الصفات الأخرى، التي ُتشِعر برحمة الله ـ تعالى ـ من خلالها، وبعزته وحكمته، وعلمه وسمعه وبصره، وقدرته ومشيئته، وإحاطته بكل شيء، وهيمنته وجبروته، وعلّوه واستوائه على عرشه، وأنه بائن من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؛ وذلك لفساد المدرسة التي نشأوا عليها، مدرسة الزيغ والإلحاد، والتحريف والتأويل، والتعطيل والتشبيه، والتجسيم والحلول.

وصدق الله ـ تعالى ـ القائل: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

[الأعراف: ١٨٠]

١٤ ـ مطالب موسى ـ عليه السلام ـ من ربه:

ولما علم موسى ـ عليه السلام ـ بتكليف الله ـ تعالى ـ له بالرسالة، لم يتردد في حملها، لكنه تذكر شيئاً من ماضيه مع فرعون وقومه، إنه عاش أول حياته في قصر فرعون، ورأى من طغيانه وجبروته الشيء الكثير، ومع ذلك حفظه الله من بأسه وبطشه، وهو في حالة ضعف وغربة، وطلب موسى من الله ـ تعالى ـ مطالب تُحققُ له، لكي يستطيع أن يقوم بأداء ما كُلِّف به خير قيام، بعضها معنوي، وبعضها حسي، ومن تلك المطالب ما ذكره الله ـ تعالى ـ في قوله ـ تعالى ـ: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَرُونَ أَخِي} .

[طه: ٢٥ - ٣٠]

وقال ـ تعالى ـ: {وَأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} [القصص: ٣٤] .

وقد استجاب الله ـ تعالى ـ لعبده موسى ما طلب، قال ـ تعالى ـ: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: ٣٦] .

وقال ـ تعالى ـ: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: ٣٥] .

إنّ هذه الإجابات من الله ـ تعالى ـ لعبده موسى تحمل في طياتها الرحمة والنصرة والغلبة على العدو؛ نصرة من الله ـ تعالى ـ لموسى وهارون على عدوهما فلا يصل إليهما، ونصرة من هارون لأخيه موسى ـ عليهما السلام ـ تتمثل في شد أزره وعضده، وفي الفصاحة والبيان، وفي الأنس من وحشة الطريق، وكل هذا رحمة من الله ـ تعالى ـ كما قال ـ سبحانه ـ: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: ٥٣] .

يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ تعالى ـ: (لقد طلب إلى ربه أن يشرح له صدره ... وانشراح الصدر يُحوِّل مشقة التكليف إلى متعة، ويحيل عناءه لذة، ويجعله دافعاً للحياة لا عبثاً يثقل خطى الحياة.

وطلب إلى ربه أن ييسر له أمره ... وتيسير الله للعباد هو ضمان النجاح. وإلا فماذا يملك الإنسان بدون هذا التيسير؟ ماذا يملك وقواه محدودة، وعلمه قاصر، والطريق طويل وشائك ومجهول؟!

وطلب إلى ربه أن يحل عقدة لسانه فيفقهوا قوله ... وقد روي أنه كانت بلسانه حبسة، والأرجح أن هذا هو الذي عناه. ويؤيده ما ورد في سورة أخرى من قوله: {وَأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص: ٣٤] .

وقد دعا ربه في أول الأمر دعاءً شاملاً بشرح الصدر وتيسير الأمر، ثم أخذ يحدد ويفصل بعض ما يعينه على أمره وييسر له تمامه.

وطلب أن يعينه الله بمعين من أهله؛ هارون أخيه. فهو يعلم عنه فصاحة اللسان، وثبات الجنان، وهدوء الأعصاب ...

لقد أطال موسى سؤله، وبسط حاجته، وكشف عن ضعفه، وطلب العون والتيسير والاتصال الكثير، وربه يسمع له، وهو ضعيف في حضرته، ناداه وناجاه. فها هو ذا الكريم المنان لا يُخِجلُ ضيفه، ولا يرد سائله، ولا يبطىء عليه بالإجابة الكاملة: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: ٣٦] .

هكذا مرة واحدة، في كلمة واحدة. فيها إجمال يغني عن التفصيل، وفيها إنجاز لا وعد ولا تأجيل ... كل ما سألته أعطيته، أعطيته فعلاً؛ لا تُعطاه ولا ستعطاه؟ وفيها مع الإنجاز عطف وتكريم وإيناس بندائه باسمه «يا موسى» ، وأيّ تكريم أكبر من أن يذكر الكبير المتعال اسم عبد من العباد؟) (١) ا. هـ.

ثم كلَّفه الله ـ تعالى ـ وأخاه هارون بالذهاب إلى «فرعون» الطاغية، وأمرهما أن يُلينا له في القول، لعل رحمة الله ـ تعالى ـ تدركه، ويعود عمَّا هو فيه من الظلم والطغيان، ما أحلم الله بعباده؟! بيَّن لهم عظمته سبحانه في مخلوقاته، الدالة على وحدانيته وتفرده بالأمر والنهي، والخلق والتدبير، وبعث فيهم رسلاً منهم، مبشرين ومنذرين، فخيره إليهم نازل، ولا يصعد منهم عمل صالح.

١٥ ـ الموقف الثاني لفرعون وملئه من موسى ـ عليه السلام ـ:

قال ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [القصص: ٣٦] .

إن هذا الموقف يختلف عن الموقف الأول تماماً، من الضعف إلى القوة، ومن التخفي إلى الظهور، ومن المطاردة إلى المواجهة، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الوحشة في الطريق إلى الأنس، ومن ضيق الصدر إلى الانشراح، ومن التلعثم إلى الفصاحة، ومن التردد إلى الانطلاقة، يحمل موسى وهارون إلى «فرعون» المعجزات الباهرات، والدلالات القاهرات، التي لو أٌلقيت على الجبال الرواسي لخشعت وخضعت وانقادت؛ بل لصارت دكاء. لكن القلوب القاسية والمغلقة تنكر الحقائق وتشكك فيها؛ بل تقف ضدها بغياً وعدواناً، وعناداً وجحوداً، بل أنكر «فرعون» الصانع كما حكى الله ذلك عنه؛ فقال: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: ٢٣] .

وقال ـ تعالى ـ: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه: ٤٩] .

إنها صيغة استفهام إنكاري صادرة من «فرعون» . إن موسى وهارون أول ما بادرا «فرعون» في دعوتهما دعياه إلى الاعتراف بالصانع الخالق المالك المدبر لهذا الكون كله، كما قال ـ تعالى ـ: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: ١٦] .

وقال ـ تعالى ـ: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: ٤٧] .

ومن اعترف بذلك فقد اعترف بألوهية ذلك الصانع إلزاماً، وأنه صاحب الأمر والنهي، والأسماء والصفات الحسنى، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع العليم.

لقد تلطف موسى وهارون في دعوتهما «فرعون» وذلك بتوجيه من الله ـ تعالى ـ لهما؛ لأن الهدف من دعوته هدايته، وإخراجه من الظلمات إلى النور.

قال ـ تعالى ـ: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: ٤٢ - ٤٤] .

إن في هذا التوجيه سنة ربَّانيَّة لمن يقوم بحمل المنهج الرباني ويدعو إليه، وهي أن يتلطف بمن يدعوه، ويُبيّن له بالدلائل البينات، والبراهين الساطعات ما يدعو إليه، لعله يتذكر أويخشى، فيخرج من الظلمات إلى النور، ومن الرق إلى الحرية؛ حرية العبودية لله ـ تعالى ـ. وإن الرفق واللين في بيان الحق والوصول إليه أنفع وأوقع في النفس البشرية.

يقول ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيره لهذه الآية: «هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألاَّ يخاطب فرعون إلاّ بالملاطفة واللين، وأن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين قريب سهل؛ ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع، كما قال ـ تعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} » [النحل: ١٢٥] .

إنّ مواجهة أهل الباطل المتمكنين في الأرض كـ «فرعون» وغيره، لهو أمر صعب على النفس، خاصة وأن الله ـ تعالى ـ بين لهما أنه طغى، لأن الذي لا يستحي ممن خلقه ورزقه، وبيده محياه ومماته، فإنه من باب أولى لا يستحي من مخلوق مثله، فقد يبطش به، أو يسفّهه، أو يسجنه، أو يسلط عليه السفهاء، وإن هذه المواقف ما غابت عن «موسى وهارون» ـ عليهما السلام ـ فقد حكى الله عنهما ذلك فقال ـ تعالى ـ: {قَالا رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى} [طه: ٤٥] .

لكن من كان الله ـ تعالى ـ معه فلا يخاف ظلماً ولا بخساً، ولقد وجه الله ـ تعالى ـ عبديه الصالحين بعدة توجيهات في مواجهة «فرعون» الطاغية، وأخبرهما أنه ـ سبحانه ـ معهما يسمع ويرى، ومن تلك التوجيهات الربانية:

١ ـ السرعة في تنفيذ حجج الله ـ تعالى ـ وبراهينه ومعجزاته. قال الله ـ تعالى ـ: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: ٤٢] . وفسَّر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ذلك بقوله: لا تُبطئا. وبقوله: لا تضعفا. وأياً كان الشأن فالتوجيه لهما بالصمود أمام فرعون، والمبادرة في بيان دلائل الحق والإعجاز، وعدم الفتور في عرضها وبيانها. والواجب على كل من عرف شيئاً من معالم هذا الدين أن يبادر إلى تنفيذها وإرشاد الناس إليها، وألاَّ يصاب بالكسل، أو الخور والجبن في تبليغها مهما قُوبل في الطريق من الصعاب والعقبات، فهذه سُنَّة الأنبياء، بتوجيه لهم من الله ـ تعالى ـ.

٢ ـ اللين في القول. لقوله ـ تعالى ـ: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: ٤٤] .

إن الرفق في جميع الأمور ما كان في شيء إلا زانه، كما أن الغلظة والشدة ما كانتا في شيء إلا شانتاه، وكما أن هذا التوجيه من الله لموسى وهارون ـ عليهما السلام ـ جاء أيضاً لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فقال ـ تعالى ـ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} .

[آل عمران: ١٥٩]

٣ ـ وهذه سُنَّة شرعية لمن يحملون المنهج الرباني ويبلغونه عباد الله؛ لأن الهدف إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتعريفهم بخالقهم، والخضوع والتذلل له.

٤ ـ عدم الخوف في القيام بالرسالة الربانية. إن من طبيعة النفس البشرية أن يعتريها شيء من الخوف، وهو على درجات متفاوتة، والذين يحملون المنهج الرباني يدركون تبعاته وما يترتب على تبليغه ونشره، وموسى وهارون ـ عليهما السلام ـ وقع لهما شيء من الخوف من طاغية عصرهما «فرعون» أن يبطش بهما، ويعتدي عليهما لأول وهلة يلتقيان معه، لجهله من جانب، ولظلمه وطغيانه وجبروته من جانب آخر، والله ذكر ذلك في كتابه فقال ـ تعالى ـ: {قَالا رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: ٤٥ - ٤٦] .

إن الله ـ تعالى ـ اختار من خلقه من يحمل رسالته، ويقوم بنشرها وتبليغها، وفي مقدمة هؤلاء الأنبياء والرسل ـ عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ وجاء في وصفهم في كتاب الله العزيز: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: ٣٩] .

يقول ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: «يمدح تبارك وتعالى {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ} أي: إلى خلقه ويؤدونها بأمانتها، {وَيَخْشَوْنَهُ} أي: يخافونه ولا يخافون أحداً سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله. {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} أي: وكفى بالله ناصراً ومعيناً.

وسيّد الناس في هذا المقام ـ وفي كل مقام ـ محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب، إلى جميع أنواع بني آدم، وأظهر الله كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع، فإنه قد كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وأما هو ـ صلوات الله عليه ـ فإنه بُعِث إلى جميع الخلق عربهم وعجمهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: ١٥٨] .

ثم ورَّثَ مقام البلاغ عنه أمته من بعده، فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه، بلَّغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، في ليله ونهاره، وحضره وسفره، وسِرِّه وعلانيته، فرضي الله عنهم وأرضاهم.

ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا، فبنورهم يقتدي المهتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفقون، فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم» ا. هـ.

ما أجمل سيرة السلف الصالح من الأنبياء والرسل، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم، وكيف يخشى أو يخاف من كان الله ـ تعالى ـ معه بالنصر والتأييد، أنقذ نوحاً، وموسى، ويونس من الغرق، وإبراهيم من النار، وعيسى ومحمد من القتل، وأهلك من عاداهم، ولم يستجب لهداهم، وأخذ كلاً بذنبه، وصدق الله القائل: {إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: ١٤] .

١٦ ـ العاقبة الوخيمة لفرعون وملئه:

لقد اقتضت حكمة الله ـ تعالى ـ أن يكون لكل مخلوق من خلقه بداية ونهاية، ولا يبقى إلاّ وجهه الكريم، قال ـ تعالى ـ: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: ٨٨] .

وقال ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: ١٨٥] .

وقال ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: ٣٥] .

وقال ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: ٥٧] .

ولقد ذكر الله ـ تعالى ـ لنا في كتابه أحوال كثير من خلقه ـ أفراد ومجموعات ـ من الذين طغوا وتجبروا وتكبروا في الأرض بغير الحق، بل بغياً وعدواناً، كما جاء في وصف فرعون وجنوده، في قوله ـ تعالى ـ: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: ٩٠] .

وبيَّن لنا ـ سبحانه ـ كيف أخذهم، وأنه ـ سبحانه ـ أخذ كلاً بذنبه، فقال بعد أن ذكر الله ـ تعالى ـ نوحاً، وإبراهيم، ولوطاً، وشعيباً، وهوداً، وصالحاً، وموسى ـ عليهم السلام ـ وقومهم: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: ٤٠] .

وقد وعد الله ـ تعالى ـ عباده الصالحين بالنصر والفوز المبين، والغلبة والتمكين، فقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: ١٧١ - ١٧٣] .

ولقد بذل رسول الله موسى ـ عليه السلام ـ جهداً عظيماً مع فرعون وملئه، لكنهم أعرضوا عنه وتنكروا له، بل ضاقوا ذرعاً به وبدعوته، ووقفوا ضده يحاورونه ويجادلونه، ويناقشونه ويشوهونه، ومع ذلك وقف نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ وقوف الجبال الرواسي على دينه، ولم يقصّر في تبليغ ما كلّف به من ربه، وترفق بفرعون وملئه في دعوته، وصبر على ما لاقى منهم في الطريق من المتاعب والمطاردة والمشاق والأذى، ووقفوا ضده مواقف مخزية، ومن تلك المواقف السيئة:

١ ـ التكذيب بآيات الله ـ تعالى ـ، والاستكبار عنها.

قال ـ تعالى ـ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران: ١١] .

وقال ـ تعالى ـ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: ٥٢] .

وقال ـ تعالى ـ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} .

[الأنفال: ٥٤]

قال ـ تعالى ـ: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} [يونس: ٧٥] .

وقال ـ تعالى ـ: {إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} [المؤمنون: ٤٦] .

وقال ـ تعالى ـ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: ٤] .

وقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلاَّ فِي تَبَابٍ} [غافر: ٣٦ - ٣٧] .

وقال ـ تعالى ـ: {مِن فِرْعَوْنَ إنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ} .

[الدخان: ٣١]

٢ ـ وصمٌهم لموسى ـ عليه السلام ـ بأنه ساحر ومسحور. وأن ما جاء به سحر.

قال ـ تعالى ـ: {قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: ١٠٩] .

وقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر: ٢٣ - ٢٤] .

وقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} .

[الإسراء: ١٠١]

وقال ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا إنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} [يونس: ٧٦] .

٣ ـ اتهموا موسى وقومه بالفساد في الأرض.

قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: ١٢٧] .

وقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} .

[يونس: ٧٩]

٤ ـ قتلهم لأبناء بني إسرائيل، واستحياء نسائهم.

قال ـ تعالى ـ: {وَإذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [الأعراف: ١٤١] .

وقال ـ تعالى ـ: {وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم: ٦] .

٥ ـ الإنكار لربوبيّة ربِّ الأرباب.

قال ـ تعالى ـ: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: ٢٣] .

٦ ـ العزم على قتل موسى، والتخلص منه.

قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص: ٩] .

وقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: ٢٦] .

وقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: ٢٨] .

٧ ـ ادعاء فرعون الربوبيّة.

قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: ٣٨] .

٨ ـ ادعاؤه الكمال في الرأي والدلالة.

قال ـ تعالى ـ: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: ٢٩] .

إلى غير ذلك من المواقف المشينة من فرعون وقومه في حق الله ـ تعالى ـ وأنبيائه ورسله.

وقد أخذ الله ـ تعالى ـ فرعون وقومه أخذ عزيز مقتدر، وبيّن الله لنا في كتابه أنه طغى، فأخذه الله ـ تعالى ـ بالغرق ليكون عبرة لمن خلفه.

فقال ـ تعالى ـ: {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} [طه: ٢٤] .

وقال ـ تعالى ـ: {اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} [طه: ٤٣] .

وقال ـ تعالى ـ: {وَإذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة: ٥٠] .

وقال ـ تعالى ـ: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: ٧٨] .

وقال ـ تعالى ـ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران: ١١] .

وقال ـ تعالى ـ: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: ١٠٣] .

وقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: ١٣٠] .

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: ٥٢] .

وقال ـ تعالى ـ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} .

[الأنفال: ٥٤]

ومن العاقبة السيئة لفرعون وجنوده، أنهم يُعرضون على النار غدواً وعشياً، ويوم القيامة يذوقون أشدَّ العذاب.

قال ـ تعالى ـ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: ٤٦] .

ولم يقع ما حلَّ بهم إلاّ بعد ما أُنذِروا، قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} [القمر: ٤١] .

١٧ ـ الدروس والعبر المستفادة.

إنَّ عَرضَ سير الأنبياء والمرسلين الذين اختارهم الله ـ تعالى ـ، واصطفاهم من خلقه على الأسماع لهو أمر مهم ومطلوب، فهم القدوات الطيبة الذين حملوا المنهج الرباني وطبقوه في أنفسهم، ثم دعوا البشر إلى اعتناقه وتطبيقه، ولاقوا في سبيل ذلك من المتاعب والمشاق ما الله به عليم، ومع ذلك حفظهم الله ـ تعالى ـ، ومكَّنهم في الأرض، وصرف عنهم كيد عدوهم، وفي معرفة سيرهم خير زاد في الطريق إلى الله ـ تعالى ـ.

إنّ الصراع بين الحق والباطل سُنَّة من سنن الله ـ تعالى ـ، ما دامت السماوات والأرض، لا يزول هذا الصراع إلاّ بزوال هذا الكون. وما وقع بين موسى ـ عليه السلام ـ وفرعون وملئه من هذا الباب.

إن الله ـ تعالى ـ أخبر أن التمكين في الأرض سيكون لموسى وملئه، وأن الدائرة السيئة ستكون على فرعون وملئه. قال ـ تعالى ـ: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: ٥ - ٦] .

إنّ طريقة القرآن في عرض المشاهد أو الأحداث يجمل ولايفصل، ولكن هذا الإجمال يرى فيه الناظر كأنما شاهد القصة أو الحدث كاملة أومتكاملة، وهذا من بلاغة القرأن الكريم وإعجازه، وهذا يؤخذ من قصة أخت موسى من الحدث حيث تجلَّى ذلك في عدة محاور:

الأول: الأم وابنتها وما دار بينهما في شأن موسى ـ عليه السلام ـ.

الثاني: الدور الذي قامت به أخت موسى.

الثالث: الحوار الذي دار بين أخت موسى وآل فرعون.

الرابع: رجوعها إلى أمها بالبشارة العظيمة برجوع موسى ـ عليه السلام ـ إليهما.

إنّ الله ـ سبحانه ـ خلق الجن والإنس لعبادته وحده دون من سواه، وهداهم النجدين، وأوضح لهم الطريقين بواسطة رسله الكرام، وقد بلغوا الناس ما أنزل إليهم، وأول تكليف طلبوه منهم عبادة الله وحده وعدم الإشراك به.

جَعَلَ ـ سبحانه ـ من سنته ابتلاء الناس بعضهم ببعض. كما قال ـ تعالى ـ: {وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد: ٤] .

كما جعل من سنته التدافع فيما بينهم. كما قال ـ تعالى ـ {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: ٢٥١] .

إنَّ من عدل الله وفضله ومنَّته أنه حرّم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرماً. قال ـ تعالى ـ: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: ٤٩] . وقال ـ تعالى ـ: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: ٤٦] .

وفي الحديث القدسي الصحيح: «ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا» رواه مسلم. وقد ظلم فرعون وقومه نبي الله موسى وقومه، والمظلوم هو المنتصر في النهاية. سواء في الحياة الدنيا أو الآخرة.

إنّ بعض خلق الله كُتِبت عليه الشقاوة في الدنيا والآخرة، فيشقى به من كان تحت ولايته، أو حوله، ومن أولئك «فرعون المثبور» ذلك الرجل الطاغية، الذي ادّعى الربوبية، كما حكى الله عنه: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: ٢٤] .

ووصفه الله بالطغيان وكثرة الفساد في الأرض، قال ـ تعالى ـ: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: ١٠ - ١٤] .

وقال ـ تعالى ـ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: ٤] .

إنّ من أعظم فساد فرعون ادعاؤه الربوبية والألوهية، ثم ذبحه لأبناء بني إسرائيل خوفاً على ملكه ونفسه منهم. ولو استسلم لله ـ تعالى ـ واستجاب؛ لسَعِدَ في الدارين، ولكن لله ـ تعالى ـ الحكمة البالغة.

إن المخاوف البحرية أيّاً كانت؛ سواء كانت أمواجاً أو غرقاً، أو حيوانات من حيوانات البحر، أوظلمات، أو غير ذلك ممَّا يتصوره الإنسان على مثل ذلك الرضيع الصغير الضعيف أو غيره، ترجع أمناً وطمأنينة وهدوءاً وسكينة بتدبير الله ـ تعالى ـ لها، فهو الخالق المصرّف الذي بيده ملكوت كل شئ، إذا أراد شيئاً قال له: كن. فيكون.

إن بيوت الجبابرة قد يوجد فيها الاختراق، إمّا من داخلها أومن خارجها، وإذا قوي التوكل على الله لدى الإنسان قويت عزيمته، وإذا أخذ بالأسباب الشرعية في الوصول إلى الأهداف فإن الله ـ تعالى ـ يُسَهل له الطريق ويلين له القلوب ويجعل الله له مع العسر يسراً، انظر إلى ما هيأه الله لهذا الرضيع وهو في المهد! لا يعرف توكلاً، وليس له عزيمة ولا قدرة، ولا يعرف وسيلة ولا هدفاً ولا غايةً، وهو في قبضة من يريد ذبحه والتخلص منه، وليس لديه أيّ تردد في ذلك وهو داخل داره وبين جنوده وغلمانه، ومع ذلك هيّأ الله له من يعطف عليه ويدافع عنه، ويجادل فرعون في أمره وهو لا يشعر بذلك، فأصبح عدواً وحزناً لفرعون في داخل داره، ومع ذلك صرف الله عنه بطش فرعون وظلمه وطغيانه، ومع إصرار زوجة فرعون ودفاعها عن الاعتداء على ذلك الطفل استجاب فرعون لها، مع تخوفه منه وكرهه لذلك، واستنفرت خدمها للعناية بموسى ـ عليه السلام ـ فكلّفتهم البحث عن المرضعات؛ لكي يقمن بإرضاعه وإطعامه، فحضرن وحاولن أن يرضعنه، لكنه امتنع عن ذلك، فلم يلقم ثدياً على الإطلاق؛ لأن الله ـ تعالى ـ حرّم ذلك عليه لحكمة يريدها سبحانه.

إن من يرتكب خطيئةً ـ مهما كانت ـ فإنه يصبح ضعيف الموقف، خائف النفس، وهذا يؤخذ من موقف موسى ـ عليه السلام ـ لما اقترف تلك الخطيئة ـ وهي قتل القبطي ـ فأصبح خائفاً من أن ينكشف أمره لأولئك القوم الذين يتربصون به وهو في المهد، فكم حاولوا قتله، والتخلص منه، فكيف وقد وقع منه ما يسئ إليهم؟ فعلى العاقل أن يصون نفسه من الوقوع في الزلات، حتى يكون عزيز الجانب، مطمئن النفس وإن ظُلِم؛ كما حصل لنبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ.

إن الله ـ سبحانه ـ إذا أراد شيئا هيأ له أسبابه، وإن الله ـ سبحانه ـ قادر على إيجاد ذلك الشيء من دون أسباب، ولقد سبق في علم الله ـ تعالى ـ الأزلي أن عبده موسى ـ عليه السلام ـ سيكون من المرسلين. كما سبق في علمه ـ تعالى ـ أنه سيقع في أيدي أعدائه وهو طفل رضيع ليكون لهم عدواً وحزناً. فهيأ الله ـ تعالى ـ لعبده الضعيف من يحفظه ويكفله، ويرعاه من داخل بيوت أعدائه، وهم لايشعرون ماذا تكون العاقبة.

إن الإنسان مهما ارتكب من الذنوب والخطايا فإن أبواب الله مفتوحة بالليل والنهار، فلا يقنط الإنسان ولاييأس من عفو الله ورحمته ومغفرته، وإن أعظم ذنب عُصيَ الله به هو الشرك.

فعلى كل من وقع في خطيئة سواء كانت كبيرة أو صغيرة أن يتوب إلى الله ـ تعالى ـ، ويستغفره، ويتوب إليه، ويندم على ذلك، ويخلص في توجهه إلى الله ولا يعود إلى ذلك.

ليعلم ورثة الأنبياء أن الطريق الصحيح هو طريق الأنبياء؛ فليصبروا، وليحتسبوا على ما يلاقون في طريقهم، وليدعوا ربهم أن يهديهم السبيل المستقيم وأن ينجيهم من كيد الكائدين، وحقد الحاقدين، ومكر الماكرين، أسوة بالأنبياء في ذلك، ولا يستعجلوا الطريق، فإن النصر بيد الله ـ تعالى ـ: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: ١٢٦] .

إن الرجل المصلح في هذه الحياة قد يجد معاناة في داخل النفس، ومعاناة في الطريق، ومعاناة من قلة الزاد وأنيس الطريق، ومعاناة ممَّن سيلقاهم أمامه، كيف يأوي إليهم، وكيف يقص خبره عليهم، وكيف يستقبلونه؟

لكن الرجل المؤمن بالله، والواثق بنصره، والمتوكل عليه حق التوكل، يلجأ إليه ويعتصم به ويتضرع إليه، فهو الخالق الرازق، وهو المحيي والمميت، وهو النافع وبيده مقاليد الأمور، لا رادَّ لما قضى، ولا مانع لما أعطى، ولا مذل لمن أعز، ولا معز لمن أذل.

لقد لجأ موسى ـ عليه السلام ـ بجلال الله وعظمته فدعاه؛ فحماه الله ـ سبحانه ـ وهيأ له من الأسباب وطرق الخير الشيء الكثير.

إن من طبيعة المرأة الخجل والحياء والضعف، وعدم القدرة على مزاحمة الرجال، وهذا يؤخذ من حال تلك المرأتين اللتين تذودان غنمهما عن ذلك المجتمع، فلا تُزاحمان القوم في السقي، وتنتظران صدورهم حتى تتمكنا من السقي بدون مزاحمة ولا مشادة. فالمرأة العاقلة تقدر وتحترم نفسها ومن وراءها، فكيف إذا كانت من بيت عز ومكانة؟ فإن مزاحمة المرأة للناس في منتدياتهم وفي قضاء حوائجهم ليس من طبيعتها، بل إذا حصل منها شيء من ذلك فإنَّه سلوك مشين، وخارج عن طبيعتها التي خلقها الله عليها.

إن الإنسان مهما أعطي من قوة في جسمه، وفي عقله، وفي جميع جوارح، فهي من الله ـ تعالى ـ، فعليه أن يلجأ إلى من حباه تلك القوة فيعترف بالتقصير والفقر، وأن لا ملجأ من الله إلا إليه. وهذا يؤخذ من موقف موسى ـ عليه السلام ـ بعد ما سقى للمرأتين. قال ـ تعالى ـ: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: ٢٤] ، مفوضاً أمره إلى الله، ومتوكلاً عليه، ومعترفاً بضعفه وفقره أمام ربه وخالقه.

إنّ إعانة الضعيف ومساعدته في قضاء حاجته لهو خلق عظيم، حثّ عليه الدين الحنيف، وإن نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ بادر إلى فعل الخيرات، وساعد المحتاج، وأعان الضعيف على قضاء حاجته.

وهكذا يجب على الذين يقتدون برسل الله الكرام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وينتهجون نهجهم، ويسيرون على طريقهم غير عابئين بالعوائق والعقبات التي يلاقونها في طريقهم إلى الله ـ تعالى ـ.

إن القوة والأمانة قلّمَا تتوفر في شخص، وقد وُصف بهما موسى ـ عليه السلام ـ في قوله ـ تعالى ـ على لسان إحدى الفتاتين: {قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: ٢٦] .

إن المرأة لها أن تبدي رأيها، وتسعى في تحقيقه، وهذا يؤخذ من موقف ابنة ذلك الشيخ الكبير التي قصَّت على أبيها خبر موسى، فأمرها أبوها أن تدعوه، فذهبت إليه، في خطى حثيثة، وأدب جم، وستر كامل، ولسان طلق، وعزيمة قوية، لتبلغه دعوة أبيها، ولما وصلت إليه أبلغته الدعوة في أدب رفيع، ومنطق سليم، وأخبرته: أن والدها يريد أن يجازيك ويحسن إليك مقابل ما قدمت لنا من الخدمة في السقي. قال ـ تعالى ـ: {فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: ٢٥] .

إن من مواقف الرجال الكبار وحُسنِ أخلاقهم كرمُ الضيافة، وحسن الاستقبال، وحماية الضيف، واحترام الجار، ونصرة الضعيف والمظلوم، والوقوف ضد الباطل وأهله، وهذا يؤخذ من موقف ذلك الشيخ الكبير عندما عرض عليه موسى ـ عليه السلام ـ أمره وحاله، فقال مسرياً عن موسى، ومطمئناً وناصراً له، قال: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: ٢٥] .

إنّ النفس الأبيّة لاترضى أن تعيش على فتات العيش وموائد الآخرين، بل لابد أن تبحث عن وسيلة تكدح من خلالها، وتشعر بالعزة والاستعلاء بعيداً عن المسألة والاستجداء، وهذا ما وقع لموسى ـ عليه السلام ـ حيث عاش مع الشيخ الكبير عيشة عمل وكدح يرعى له الغنم مقابل تزويجه إحدى ابنتيه، واتفقا على مدة العقد اللازم والكامل برضىً واختيار.

إن الوفاء بالعقود والالتزام بها من الإسلام، ولا يجوز الإخلال بها، أو نقضها، والله ـ تعالى ـ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ... } [المائدة: ١] الآية؛ ونبي الله موسى ـ عليه السلام ـ وفّىّ بما التزم به مع ذلك الشيخ الصالح، وأدى أكمل الأجلين.

إن من سنن الله ـ تعالى ـ في خلقه حنين الإنسان إلى وطنه، فعلى كل مغترب أن يفكر في العودة إلى أهله وبلاده؛ لكي يقوم بما يستطيع عليه من الإصلاح، بين أهله وذويه، اقتداء بنبي الله موسى ـ عليه السلام ـ فإنه لما قضى أكمل الأجلين وأتمهما ودَّع مضيفه هو وأهله ليعود إلى أهله وبلاده التي غادرها منذ زمن بعيد.

إن الابتلاءات التي قد تحصل للإنسان في الطريق قد تكون هي سبيل التمكين في الواقع.

إن التكاليف الربانية ليست بالشيء اليسير، إنها تكاليف عظيمة وكبيرة وثقيلة، تحتاج إلى رجال أقوياء في حملها، وفي تبليغها إلى الآخرين، وتحتاج إلى صبر ويقين، وتوكل على الله، وهمّة عالية، وموسى ـ عليه السلام ـ من أولئك الرجال العظماء، فقد صنعه الله ـ تعالى ـ على عينه، وغذاه ورباه ومحّصه حتى بلغ أشده، واستوى على سوقه، فكلّفه وأرسله، بعد أن أعطاه الله ـ تعالى ـ الحكم والعلم، فقام بما كلّف به خير قيام.

لقد سبق في علم الله ـ تعالى ـ الأزلي أن فرعون لا يؤمن، ومع ذلك أمر عبديه ونبييه ـ موسى وهارون عليهما السلام ـ أن يذهبا إليه ويترفقا به في الحوار والنقاش لعله يتذكر أو يخشى، كل ذلك من أجل أن يرسما طريقاً في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ لمن يأتي بعدهما، من إلانة في القول، وترفق بالآخر، والصبر على المعاناة في الطريق من القريب والبعيد، والصديق والعدو، والأخذ بالأسباب، وعدم اليأس أو القنوط، فإن القلوب علمها عند الله ـ تعالى ـ يصرفها ويقلبها كيف يشاء.

يجب على من يدعو الناس إلى دين الله ـ تعالى ـ أن يحرص على هدايتهم؛ وإن لم يهتدوا، وأن يبلغهم دين الله ـ تعالى ـ برفق ولين، كما مرّ في قصة موسى وهارون مع فرعون، وأن يلجأ إلى الله ـ تعالى ـ بالذكر والتسبيح والدعاء، وأن يطلب من الله ـ تعالى ـ التوفيق والسداد.

إن التعاون بين أفراد البشر على تبليغ دين الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور لهو أمر مطلوب، سواء كان ذلك وفق نشاط منهجي، أو لا منهجي مادام أن النتيجة واحدة والغاية واحدة، وإن شدَّ الأزر في الطريق إلى الله ـ تعالى ـ وتوزع الأدوار، والتعاون على القيام بها، لهي من الأسباب التي تجعل العمل ناجحاً، وتجعل النفوس وثَّابةً إلى المعالي كلما حققت شيئاً من أهدافها وغاياتها.

وإن قصة موسى ـ عليه السلام ـ وطلبه من ربه ـ سبحانه ـ أن يشد أزره بأخيه هارون ـ عليه السلام ـ خير شاهد على ذلك.

إن الله ـ تعالى ـ ليمهل للظالم ولا يهمله، ثم يأخذه بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر، وهذا ما حصل لفرعون وغيره من الأمم الظالمة، وقد أخبرنا ربنا ـ سبحانه ـ بذلك في كتابه، ولا يظلم ربك أحداً.

فقال ـ تعالى ـ: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .

[العنكبوت: ٤٠]

إن الحق قد ينتصر بجهد الضعفاء قبل جهد الأقوياء، فلا يحقرن الإنسان أيّ جهد يقوم به، فإن مؤمن آل فرعون، وأخت موسى، وأمه، وآسية، كانوا ضعفاء، ومع ذلك قاموا بأدوار عظام في نصرة الحق.

إن الله ـ تعالى ـ وعد عباده الصالحين بالنصر والفوز المبين، والغلبة والتمكين، فقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: ١٧١ - ١٧٣] .

فلا يتعجل الصالحون طريقهم، أو تمل نفوسهم، ولا يستوحشوا من قلة الناصرين أو السالكين، فإن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بدؤوا طريقهم فرادى، فما وهنوا لما أصابهم، وما ضعفوا وما استكانوا، ولنا فيهم الاقتداء والاتساء، والله ـ تعالى ـ ولي الصالحين.