للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التكامل والتوازن في التربية]

أحمد المنصب

إن الحديث عن أهمية إنقاذ الأمة، وعن ضرورة رسم المنهج ذي المعالم الواضحة في إحياء الأمة، وإنقاذها حديثٌ أحسب أننا قد تجاوزناه، وأصبح من البدهيات لدى كل مسلم يشعر بواقع الأمة، ويدرك دوره في إنقاذها.

إنما مدار النقاش والحديث حول المناهج ووسائل التغيير، وأحسب أن الأغلب من قطاع الصحوة يوافق على أن التربية ضرورة ملحّة؛ لغرس المعاني والتوجيهات في صفوف الناشئة وعلى صعيد الأمة أجمع، وضرورة ملحّة لغسل أوضار الماضي وآثاره السيئة.

وهي حينما تسعى للقيام بهذا الدَّور وأداء هذا الواجب فلا بد أن تكون مؤهّلة لهذه المنزلة، ولا أظن أننا نملك بديلاً غير التربية، لذا فهي تستحقّ منا الحديث الكثير عن ضرورتها، والمطالبة بها والسعي في نشر آثارها، وهناك جوانب كثيرة؛ منها:

أولاً: ينبغي أن نعتني به جميعاً لا على مستوى رجال الصحوة فحسب، بل على كافة الطبقات والمستويات التي تعتني بهذا الجانب، ونحن حين نتحدَّث حول هذا الموضوع الشموليّ، عن جوانب كثيرة سواء أكانت جوانب فردية أم جوانب على مستوى الأمة، وسواء أكانت جوانب تخص الفرد بحد ذاته، أم كانت تخصّ الأسرة ودور الأب والأم، أم كانت تتعلَّق بالمؤسسات التربوية، إننا حين نتحدَّث هذا الحديث فإننا لا نعدو أن نذكر خواطر مجرَّدة؛ فالحديث عن هذه القضية مجال واسع.

ثانياً: حين نتحدث عن القضايا التربوية، علينا أن نطرح منهجاً نظريّاً، وربما يكون قابلاً للصواب وللخطأ؛ لكن هذا شيء، وتطبيقه على آحاد الأفراد شيء آخر؛ فنحن نتحدّث عن أسلوب ومنهج، أو عن برنامج، وهذا لا يعني أن محمداً من الناس أو زيداً من الناس ينطبق عليه هذا الكلام أو ذاك؛ ذلك أن كثيراً من الإخوة الأساتذة والمربِّين يطبق ما يسمع حرفاً بحرف، وما يقول قد يكون حالة من الحالات يعيشها المربي مع من يربِّيه، مع تلميذه، أو مع ابنه، وقد تكون حالة فريدة؛ وهذا راجع إلى إلقاء أسلوب المربي في التعامل مع تلاميذه وأبنائه.

ثالثاً: التربية ليست مسؤولة عن مشكلات لم تكن هي السبب في إحداثها ووقوعها. إنك مثلاً، قد تجد البعض من الآباء يعرض مشكلة ابن من أبنائه، أو بنت من بناته قد بلغ سن التكليف، واستعصى على التوجيه وشب عوده؛ فلم يعد قادراً على تربيته؛ فهنا يعجز الأب عن حل هذه المشكلة، فيعرض عليك مشكلته ويطلب منك حلاًّ لها، قد تجد حلاًّ وقد تنجح، لكن ينبغي أن نعلم أن هذه المشكلة من أسبابها سوء التربية ابتداءً. فنحن حين نتحدث عن التربية نرى أنها كفيلة - بإذن الله - بحل كثير من المشكلات والعقبات، وهي ليست مسؤولةً عن حل مشكلاتٍ لم تكن هي السبب في حدوثها.

إن المفترض أن تبدأ تربية الشاب من صغره وطفولته، بل أن يتربى وهو حمل في بطن أمه؛ فضلاً عن طفولته ومراهقته وشبابه، وحين يسار به وفق المنهج الشرعي والتربوي السليم، فالأغلب حينئذ - بإذن الله - أن يستقيم وفق المنهج القويم، وحين يفلت فلان أو فلان فالقلوب بيد الله عز وجل.

رابعاً: حين نتكلم عن هذه القضايا التربوية التي تخص فئة، وقطاعاً عاماً من الناس فهي تعني المعلم، وتعني الأب، وتعني الأم، تعني الكثير من الناس. حينئذ فنحن لسنا نتحدث حديثاً أكاديمياً، ولسنا نتحدث للمختصين؛ فلا بد حينئذ أن يكون حديثاً عامّاً يأخذ طابع العمومية، وحينئذ أرجو ألَّا يؤاخذني أهل الاختصاص والاصطلاح حين أسطو على مصطلح من مصطلحاتهم، فأستخدمه أوسع أو أضيق مما يريدون هم، أو يستخدمونه هم في قضية من قضاياهم.

ü مسوغات المطالبة بالتربية المتكاملة المتوازنة:

إننا نطالب أن تكون التربية متكاملة، وأن تكون متوازنة في الوقت نفسه، سواء على مستوى الأفراد أو على المجتمع ككل. وحين نطالب بذلك فإن الذي يدعونا إلى هذا الأمر مسوغات عدة:

طبيعة الإنسان:

فالله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق الإنسان بجوانب كثيرة متنوعة (جسم، وعقل، ومشاعر ... ) وحينئذ فالمنهج التربوي الذي يريد أن يرقى بهذا الإنسان ينبغي أن يكون متوافقاً مع فطرة هذا المرء، ولهذا صار أي تشريع للبشر من غير المصدر الشرعي محكوماً عليه بالفشل والبوار؛ لأنه تشريع صادر من البشر، والله - سبحانه وتعالى - هو الذي خلقهم: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: ١٤] وغالباً ما ترى تشريعات البشر وآراءهم تأخذ جانباً على حساب جانب آخر، وغالباً ما تخل بهذا التكامل أو هذا التوازن في شخصية المرء، إذن! فالتكامل والتوازن هو الذي يتوافق أصلاً مع خلق الإنسان ومع فطرته التي فطره الله عليها.

ولأضرب على ذلك مثلاً: إننا حين نربي الناس على الخضوع وعلى التسليم لكل الآراء التي تُطرح عليهم أياً كان مصدرها، ونطلب من الناس أن يعطلوا عقولهم، وألاّ يفكروا مطلقاً فيما يُقال لهم؛ إننا حينئذ نعطل هذا العقل الذي خلقه الله - عز وجل - له، وما خلقه الله - سبحانه وتعالى - إلا لحكمة، ولو كانت أمور الناس تستقيم على التقليد والتبعية لخلق الله - عز وجل - لنخبة من الناس عقولاً دون عقول سائر الناس؛ حتى يخضع بعضهم لبعض ويكونوا تابعين لغيرهم.

أما وقد خلق الله العقول للناس جميعاً فهذا يعني أن تُربى العقول، وهذا يعني أن يُربى الناس على أن يستخدموا عقولهم ويحكّموها داخل الدائرة الشرعية التي لا تخرجهم عن حدودها. وحين نأخذ منهجاً تربويّاً يتعامل مع جانب العقل والمعرفة وحدها، ويغفل عن جانب الوجدان في نفس الإنسان، يعيش في تناقض يحكم عليه بالفشل والبوار، كما هو الحال في المجتمعات الغربية المعاصرة، وقُلْ مثل ذلك في أي منهج يتعامل مع جانب واحد من جوانب الإنسان.

التوازن والتكامل سُنة الله في الحياة:

فالجنون مثلاً نتيجة لعدم توازن القدرات العقلية والحسية؛ ولهذا يقال عن المجنون: «إنسان غير متوازن» ، «والصرع العضوي من أسباب زيادة الكهرباء في دماغ الإنسان» ، «وفقر الدم أو ضعفه يحصل عن عدم توازن كريات الدم الحمراء والبيضاء في الدم» ، «ثم إن زيادة سائل الأذن قد يتسبب في حالة إغماء لدى الإنسان» ، «كما يتسبب ضغط العين أو القلب على انعكاسات صعبة خطيرة» . هذه بعض النتائج التي يخلّفها عدم التوازن في الكائن البشري، وهناك عشرات الأمثلة الأخرى على ذلك.

أما حدوث عدم التوازن في الكون والحياة فهي أكثر من أن تحصى ... «إن تغير نسبة الأكسجين في الهواء تجعله ملوثاً، وقد تجعله سمّاً قاتلاً» ، «وتغير المعادلة المتوازنة في دوران الأرض والشمس والأفلاك ينتج عنه كثيرٌ من الأمور أقلها اختلال نظام الليل والنهار، وتعاقب الفصول، وما يؤدي ذلك من أضرار على الإنسان والحيوان والنبات وعلى الحياة بكاملها» .

وما يصنعه بنو الإنسان من آلات وما ينشئونه من بنايات، فجميعه محكومٌ بقاعدة التوازن، وأي خلل في المقادير والمعايير يتسبب بنتائج خطيرة ومأساوية.

وجوانب الشخص نفسها حين لا تكون متوازنة ولا متناسقة فإنها تُخرج إنساناً غير متناسق؛ فجمال الوجه - مثلاً - فيه توازن نسبي بين حجم الأنف والعينين والفم والرأس؛ بحيث لو اضطربت هذه النسب لكانت صورة مشوهة هزيلة أو ناقصة. وقيمة الطعام تكمن في مختلف عناصره الرئيسة؛ بحيث تتحقق النسبة المتوازنة لسلامة الجسم من مختلف الدهون والسكريات والفيتامينات والأملاح والمعادن ... إلى غير ذلك.

والإخلال بالتوازن حتى في المظهر الجمالي أمر يدعو الناس إلى النفور؛ فحين يسعى الإنسان لتجميل منزله فيبالغ فيه أو يجعله بصورة غير متوازنة يصبح أمراً مرفوضاً.

وتقرأ في كتاب الله - عز وجل - الحديث عن هذا الكون وأنه محكوم بهذه السنة. قال ـ تعالى ـ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: ٢] ، ويقول: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: ٤٩] ، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إلاَّ بِإذْنِهِ} [الحج: ٦٥] ، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: ٤٠] ، {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: ٣ - ٤] .

الشرع قائم على الوسطية والتكامل:

إن شرْع الله - عز وجل - قائم على الوسطية في كل الأمور: الوسط في الاعتقاد، الوسط في العبادة، الوسط في السلوك، فشرْع الله - عز وجل - قائم على هذه القاعدة.

وهو كذلك تبدو فيه ظاهرة التكامل مَعْلماً بارزاً؛ فما من مجال من مجالات الحياة إلا وللشرع فيه حُكم؛ فإنك ترى للشرع حُكماً في معتقد الإنسان، وترى للشرع حُكماً في تعامل الإنسان مع غيره، وترى للشرع حُكماً في عبادة الإنسان، ترى له حُكماً في سلوكه، وترى له حُكماً في أخلاقه، وفي الاقتصاد والسياسة وحياة الناس الاجتماعية وعلاقاتهم ... إنك لا تجد باباً من أبواب الحياة إلاّ وفيه حُكم واضح للشرع، وهذا يعني أننا أمام شرع متكامل.

إذاً! حينما نريد أن نربي الناس على هذا الشرع ينبغي أن نربيهم تربية متكاملة ومتوازنة؛ ولهذا أنكر الله على بني إسرائيل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: ٨٥] ، {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: ١٥٠ - ١٥١] .

ومن إعجاز القرآن أن الله - سبحانه وتعالى - حذَّر نبيه من صورة نراها في واقعنا؛ فحين أمر الله نبيه أن يحكم بشرع الله قال بعد ذلك: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ} [المائدة: ٤٩] وكأن هذه الآية تنطق بواقع القرون المتأخرة، وأن هناك من يساوم على بعض شرع الله، فيأخذ بعض شرع الله ويرفض بعضه، فينادي بالاحتكام إلى شرع الله - عز وجل - في باب من أبواب الحياة، ويرفض بعد ذلك سائر الأبواب.

إن هذا دليل على أن هذا الشرع جاء للحياة كلها، وهذا يعني أن أي منهج تربوي يريد تربية الناس على خلاف هذا المنهج فهو منهج غير متكامل وغير متوازن، ومعارض لهذه القاعدة الشرعية التي لا تنخرم وتراها في كل حكم شرعي في سائر أبواب الحياة.

كثرة التحديات التي تواجه الأمة:

الأمة الإسلامية تواجه تحدياً تربويّاً من أبواب شتى؛ فالشباب يعانون من تخطيط ماكر وغزو مدبر، وكذلك الرجال والنساء، والصغير والكبير، بل حتى الطفل المسلم تُعد له أفلامٌ وتُكتب له قصصٌ ومجلاّت يُقصَد منها تربيته تربية تحرفه عن المنهج الشرعي.

وحياة الناس في عقيدتهم، وحياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فيها تحديات، فنحن نواجه تحدياً شاملاً، تحدياً متكاملاً في جوانب الحياة كلها لخلع الأمة عن دينها، ثم تربيتها على غير شرع الله عز وجل. فالتربية التي تهدف إلى إنقاذ جيل الأمة، والوقوف في وجه هذا التيار الوافد ما لم تكن آخذةً بالتكامل والتوازن فإنها حينئذٍ لن تكون مؤهلة للمواجهة، ولن تكون مؤهلة لصدّ هذا السيل الجارف من الغزو الذي تواجَه به الأمة.

(*) طالب في كلية العلوم ـ جامعة حضرموت.