للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الممكن والمعهود والمستحيل]

أ. د. جعفر شيخ إدريس

الممكن أوسع دائرة من المعهود، وأوسع دائرة مما يمكن تفسيره في حدود معارفنا العلمية الحالية. لكن كثيراً من الناس تضيق أعطانهم عن هذا فيسارعون إلى إنكار ما لم يعهدوا، ويسارعون إلى إنكار ما لا تفسير له في حدود ما عندنا من علم، بل إن بعضهم يظن أن غير المعهود، أو غير ما يمكن تفسيره في حدود العلم المعهود مستحيل عقلاً. ويزداد الأمر عجباً حين ترى أن ضيقي الأفق هؤلاء كثيراً ما يدَّعون العقلانية، أو يدَّعون العلمية.

المعهود هو ما عرفناه وعهدناه واقعاً، كطلوع الشمس من جهة الشرق، وكمقدرة الناس على الكلام بألسنتهم، وكإرواء الماء للظمآن. الممكن هو ما يمكن وقوعه وإن لم يقع. فوصول الناس إلى القمر كان ممكناً قبل أن يقع، وكذلك السفر بالطائرات، والحديث بالهواتف. المستحيل ما لا يمكن أن يحدث بأي حال من الأحوال، كوجود الشيء الواحد نفسه في مكانين مختلفين، وكاجتماع الإيمان والإلحاد في قلب واحد، وكالكلام والصمت.

من الأمثلة التي ذُكرت في القرآن الكريم لهذه المستحيلات قوله ـ تعالى ـ ردًا على الذين زعموا أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً: {وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنجِيلُ إلاَّ مِنْ بَعْدِهِ}

[آل عمران: ٦٥] .

وقوله: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: ١٠١] .

أي أنه من المستحيل أن يكون ولد له أب وليس له أم. وأما قوله ـ تعالى ـ: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: ٤] .

فليس المقصود به ولداً يلده ـ سبحانه ـ فهذا يتناقض مع الآية السابقة، وإنما المقصود به ولد متبنى بدليل قوله ـ تعالى ـ {مِمَّا يَخْلُقُ} .

إن كون الشيء ممكناً لا يعني كونه لا بد أن يقع؛ لأن الممكن إنما يقع إذا تحققت شروط وقوعه، وإذا لم تتحقق فقد لا يقع أبداً وإن ظل وقوعه ممكناً.

المعهود نوعان: معهود طبيعي، ومعهود ثقافي. المعهود الطبيعي هو الذي يقع بحسب ما وضع الله ـ تعالى ـ في الكون من قوانين. وأما المعهود الثقافي فأعني به ما يعتاده الناس باختيارهم سواء كان حسناً أو سيئاً. وإذا كانت أعطان بعض الناس تضيق فتنكر ما لم تعهد في الطبيعة، فإن بعض الأعطان تكون أضيق من ذلك فتنكر كل ما لم تعهده في ثقافتها وعاداتها وتقاليدها وتعده منكراً.

الناس بالنسبة للمكن غير المعهود نوعان: نوع يستغرب وقوعه لكنه لا يعتقد استحالته، ونوع يعتقد أن وقوعه غير ممكن، أي يعتقد استحالته.

إنه لأمر طبيعي أن يستغرب الإنسان ما لم يُعهد وأن يتعجب منه إذا ذكر له.

لذلك كان من الطبيعي أن يستغرب نبي الله زكريا ـ عليه السلام ـ أن يكون له ولد من امرأة عاقر ورجل قد بلغ من الكبر عتياً مع أن الذي أخبره بذلك هو الله الذي أرسله.

{يَا زَكَرِيَّا إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: ٧ - ٩] .

وكان من الطبيعي أن تستغرب مريم ابنة عمران قول المَلَكِ لها: {قَالَ إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم: ١٩] ، وكان من الطبيعي أن تسأله مستغربة: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: ٢٠] ، وكان من الطبيعي أن يقول قوم مريم لها: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: ٢٩] ، مثل هذا الاستغراب أمر لا بد منه، وإلا استوى كون الشيء معهوداً معروفاً وكونه ليس بمعهود ولا معروف، وكان من لوازم ذلك أن يصدِّق الإنسان كل ما يقال له من غرائب. ولذلك فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يذم زكريا ولا ذم مريم على استغرابهما، وإنما بيَّن لهما أن ما استغرباه أمر ممكن وأنه داخل في قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه سيقع فعلاً.

التصديق بمثل غير المعهودات هذه التي يخبر بها الله ـ تعالى ـ أناساً لم يشهدوها هو من علامات حسن العلم به سبحانه، وقوة الإيمان به.

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها، التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أُخلَق لهذا، ولكني إنما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله! ـ تعجباً وفزعاً ـ: أبقرة تكلم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فإني أومن به وأبو بكر وعمر» .

وقال أبو هريرة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بينما راع في غنمه، عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة، فطلبه حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب فقال له: من لها يوم السبع، يوم ليس لها راع غيري؟» (١) فقال الناس: سبحان الله! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر» .

وفي رواية لهذا الحديث: «وما هما ثَمَّ» . يعني لم يكونا موجودين حين ذكرهما الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

الخلط بين الممكن والمعهود والمستحيل هو أساس الحجج التي اعتمد عليها كل الذين أنكروا بعض حقائق الدين التي بلَّغتهم إياها الأنبياء.

كان هو أساس حجج العرب الجاهليين ومن سبقهم ممن كفر برسل الله، ومن جاء بعدهم من الزنادقة المنافقين والملحدين إلى يومنا هذا. انظر إلى الحجج التي اعتمدوا عليها في إنكارهم للبعث: {أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً} [النازعات: ١١] .

{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: ٤٩ - ٥١] .

فهؤلاء قوم ظنوا أنه من المستحيل على عظام أرمت وتفتت أن تدب فيها الحياة من جديد. لكن القرآن الكريم أعطاهم أدلة على أن هذا أمر ممكن، بل هو أمر لازم. كان القرآن الكريم يخاطب أناساً يؤمنون بأن الله ـ تعالى ـ خالق كل شيء، فبين لهم أنه إذا كان ـ سبحانه ـ قد خلقهم أول مرة؛ فلماذا يستغربون أن يعيد خلقهم مرة ثانية، مع أن الإعادة أهون من البداية؟ وبيَّن لهم أن في ما يشاهدون من إحيائه الأرض بعد موتها ما يدلهم على إمكانية البعث ويقربه إليهم، ثم بين لهم أن هذا البعث أمر تستلزمه صفات الله تعالى. كيف يرسل الله ـ تعالى ـ رسلاً فيؤمن بعض الناس بهم ويصلحون وقد يضحون في سبيل ذلك ببعض المكاسب الدنيوية، بينما يكفر آخرون ويعيثون في الأرض فساداً، ثم يساوي بين مصير الفريقين؟

{إنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: ٣٤ - ٣٦] .

من أمثلة إنكار الناس لما يخالف ما عهدوه من أمور ثقافية قول العرب الجاهليين: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: ٥] .

ومن أمثلته: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} . [الزخرف: ٢٣ - ٢٤]

لا تظنن أن هذا أمر خاص بالعرب الجاهليين، بل هو ضعف بشري عام، وهو الآن من أكبر سمات الحضارة الغربية السائدة في العالم اليوم. فالغربيون في جملتهم يعتقدون أن ما ألفوه من قيم وتقاليد في الأكل والشراب واللباس والتعامل والحكم والاقتصاد وغير ذلك هو الأمر الطبيعي الذي ينبغي أن يكون عليه الناس، بل هو المعيار الذي يقاس به مدى صلاحية ما عند الآخرين.

لقد كان من فوائد الكشوف والمخترعات العلمية الحديثة أنها وسَّعت من تصور الناس لدائرة الممكن لإتيانها كشفاً أو اختراعاً بأشياء ما كان الناس سيصدقون بها لولا قيام الأدلة الحسية أو العقلية على وجودها. من كان سيصدق في شيء كالهاتف الجوال، أو الأقراص التي تحوي من الكلام ما يساوي آلاف الصفحات. وأظن أن كثيراً من الناس كانوا سيعدُّون وجود ما يسمى بالثقوب السوداء أمراً مستحيلاً؛ إذ كيف يوجد شيء حسي مادته أكثر من المادة التي في عدد من الجبال وهو مع ذلك لا يمكن أن يشاهَد بشيء من الحواس الخمس؟

ولكن مع قيام الأدلة العقلية التي جاء بها الشرع، ومع وجود هذه الغرائب التي جاء بها العلم الطبيعي، فإن بعض الناس ما زالوا ينكرون أشياء مثل عذاب القبر، ووجود يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى عليه السلام. بل إنهم ما يزالون يجدون حرجاً في الإيمان بكل ما ليس بمعهود في الحضارة الغربية السائدة، فيُحرَجون من قضية الردة ويحاولون أن يجدوا منها مخرجاً بتحريف النصوص الدالة عليها، ويُحرَجون من كل شيء في تاريخهم السياسي لم يكن سائراً على قواعد الدمقراطية، ويودون أن يساووا بين الناس مسلمهم وكافرهم ما داموا أبناء وطن واحد، وهكذا.

نسألك اللهم عقلاً نيِّراً، وعلماً نافعاً، وفقهاً واسعاً.