للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التهاون مع الأقليات وأثرها في تفتيت الشدول]

(الدولة العثمانية أنموذجاً)

حمدي عبد العزيز

لم يكن التسامح مقصوراً على عهد الراشدين أو المسلمين في القرون المفضلة، كما يظن ذلك بعض الناس، بل بقي هذا التسامح صفة أصيلة ملازمة للمجتمع المسلم وللحكم الإسلامي في كل عصر وفي كل مكان أياً كان الحاكمون. وكان المحكومون ـ حتى في أشد العصور اشتهاراً بالعصبية الدينية ـ يجدون في الدولة الإسلامية الملاذ. ولما هرب اليهود الإسبانيون فراراً من الاضطهاد الصليبي في جموع هائلة لم يجدوا لهم ملجأ إلا الدولة الإسلامية العثمانية في نهاية القرن الخامس عشر.

وفي وقت كان العالم يضج فيه بالممارسات الوحشية من قِبَل أي جماعة مسيطرة ضد الجماعات الأخرى التي تتجاور معها في المجتمع الواحد بسبب مخالفتها لها في الدين أو المذهب، كانت الدولة العثمانية المسلمة تقف في شموخ حضاري وقيمي وأخلاقي لا تمارس فيه ضد مخالفيها أي ممارسة متحيزة ... ولم يكن ذلك إلا بسبب قدرة مؤسسات الدولة العثمانية على التعامل مع التعدد والتنوع بفعالية وكفاءة.

وبهذا لم يكن العثمانيون مجرد غزاة، بل كانوا بناة حضارة وفاتحين تحكمهم أهداف استراتيجية مرتبطة بنشر عقيدتهم الإسلامية؛ لذا فقد راعوا عادات شعوب البلدان المفتوحة ولم يستخدموا الإكراه أو العنف في معاملة الأهالي.

وقاموا بتنظيم مؤسسة «الملة» لغير المسلمين بهدف تنظيم شؤونهم الداخلية بحرية تامة وأداء الجزية للدولة في مقابل الدفاع عنهم. ولكن مع تعاظم ضعف الدولة العثمانية وازدياد قوة النفوذ الخارجي داخلها وسعي هذه القوى الخارجية لكسب الأنصار والأتباع بدأ نظام المِلَل يتفتت وينفجر ليحل محله نظام طائفي ملغوم ومهدد للاستقرار وللهوية معاً.

وعلى مدار التاريخ الإسلامي فإن أكثر الظواهر السلبية التي شابت علاقة المسلمين بغيرهم لم تكن ناشئة فقط عن اعتداء الأغلبية على حقوق الأقلية لأي سبب كان، ولكن تلك الظواهر السلبية نشأت أيضاً إما عن سوء استخدام للحق مارسته الأقلية، أو إحساس سرى بين تلك الأقلية تحديداً في حالات الضعف أو الانكسار دفعها إلى محاولة قلب الميزان والتصرف بمنطق الأغلبية، وخصوصاً أن المحتلين لم يكفُّوا عن محاولة استمالة الأقلية من باب الإخلال بذلك الميزان الواجب الإحكام.

أولاً: نظام الملة:

في مرحلة قوة الدولة عبَّرت الخلافة العثمانية عن نموذج إسلامي لإنصاف غير المسلمين عن طريق تأسيس نظام سياسي داخلي يقوم على العدل والتسامح من ناحية، ويستند إلى قدرة تنظيمية ومؤسسية حيوية من ناحية أخرى.

وكانت الدولة العثمانية وقتذاك، دولة غير قومية؛ فلم يكن التمييز بين مواطنيها يتم على أساس العرق أو القوم، وإنما كان يتم على أساس الدين أو الملة، وكان هذا التمييز وظيفياً، ولم يكن في شيء منه عنصرياً؛ إذ كان الذين يختلفون مع الدين الرسمي للدولة هم رعايا للسلطان أيضاً يربطه بهم عقد يتبادل فيه الطرفان الحقوق والواجبات.

و (نظام الملة) الذي يقوم على تحديد هذه العلاقة، هو استمرار تاريخي وقانوني لمصطلح (أهل الذمة) ، وهو تعبير عن الخبرة العثمانية.. يركز على الانتماء الديني الذي لا يتعارض مع مفهوم الأمة، وقد قنن هذا النظام السلطان أبو الفتوح محمد الفاتح العثماني (١٤٥١ ـ ١٤٨١) ويقضي (نظام الملة) بمنح رؤساء الطوائف حق إدارة الشؤون الشخصية والعامة لرعاياهم عبر الدولة، وكان هؤلاء الرؤساء الدينيون يُنتخَبون من قِبَل أفراد ملتهم، ويُعَيَّن البطريرك المنتخَب بصورة براءة سلطانية.

وتم بموجب هذا النظام منح غير المسلمين حق الاستقلال بانتخاب رؤسائهم الدينيين، وحق ممارسة شؤونهم الخاصة في التعليم والقضاء (الجنائي والمدني) والضرائب تحت إشراف هؤلاء الرؤساء، وكانت كل مجموعة من غير المسلمين تمثل طائفة مستقلة يتحدد وضعها ووضع المنتسبين إليها وفقاً لانتمائهم الديني.

وأرسى هذا النظام العثماني، حق كل طائفة دينية في تنظيم شؤونها الداخلية عن طريق رؤسائها الذين كانوا يفصلون في المنازعات الداخلية بين أعضائها، كما كانت قضايا الأحوال الشخصية مثل: الميراث والزواج والوصايا والتركات يقوم بالفصل فيها رؤساء الطوائف المعترف بهم لدى الدولة، لكن الوثائق العثمانية تشير إلى أن النصارى واليهود كانوا يلجؤون إلى القاضي المسلم في كل أحوالهم الشخصية بلا استثناء.

وقام هذا النظام أساساً لتقوم كل طائفة بتحصيل الجزية عن طريق رؤساء المؤسسة، وبالرغم من أن الجزية كانت تسقط عمّن يؤدي خدمات خاصة للدولة كالأطباء مثلاً، ولا يؤدي الجزية القساوسة ورجال الدين غير المسلمين، كما لا يؤديها العاجزون عن حمل السلاح كالأطفال والنساء والعجزة وكبار السن، حتى المشاركون في الدفاع عن الدولة كان يتم إعفاؤهم من الجزية؛ ومع كل هذه المبادئ العالية في تعامل الدولة الإسلامية مع رعاياها غير أننا نجد أن المؤسسات الملية كانت تستغل تسامح الدولة معها في خفض مبالغ الجزية والتلكؤ في أدائها في أحيان أخرى.

وبموجب هذا النظام شاركت الأقليات في الأعمال التجارية والزراعية والصناعية بجميع أشكالها، ولكن لأن الدولة الإسلامية دولة عقيدة توظف كل إمكانياتها من أجل مبادئها؛ فإنها راعت أن يباشر توجيه الدولة لأهدافها، أُناس من المؤمنين بهذه العقيدة دون أن يعني ذلك تمييزاً ضد غيرهم من الرعية.

وكان غير المسلمين يزاولون جميع المهن والأنشطة التجارية والزراعية والحِرْفية دون أي تمييز أو تضييق؛ فالنقابات المهنية كانت تشمل المسلمين والذميين معاً، أما من حيث تولي الوظائف في الجهاز الإداري للدولة، فنلحظ أن غير المسلمين قد شاركوا الجيش العثماني بكتائب مستقلة في الفتوحات العثمانية وفي الدفاع عن الدولة.

وكانوا أيضاً يبرعون في مهن معينة كأقباط مصر الذين شكلوا معظم صناعات الصاغة والجواهر والتطريز في العهد العثماني، كما توضح وثائق المحكمة الشرعية وغيرها إقبال الأقباط على النشاط الزراعي بصورة كبيرة وبأشكال عديدة، سواء بالإيجار أو الإدارة الزراعية أو شراء الحدائق وتجارة وتسويق الفاكهة، ويمارسون ذلك إما بمفردهم أو بالمشاركة مع مسلمين، كما أجمعت العديد من الدراسات على أن الأقباط قد مارسوا التجارة في جميع المجالات تقريباً، وامتهنوا كل الحرف التي كانت تعرفها مصر آنذاك.

ويمكن القول: إن الخبرة العثمانية تعاملت مع غير المسلمين باعتبارهم جزءاً من النسيج العام للمجتمع الإسلامي، ولم تمارس تجاههم أي سلوك تمييزي أو إكراهي، ومن ثَم فإن المفردات التي يهتم بها علم الأقليات المعاصر مثل التعصب والتحيز والتحامل والتمييز والاضطهاد والتفرقة لم تعرفه الخبرة الإسلامية عامة والخبرة العثمانية خاصة.

ونظراً لأن هذه الخبرة قدمت نموذجاً إسلامياً وُصِف بأنه المدافع عن حقوق البسطاء، وأنه الموسوم بالعدالة والكمال، وأن حلوله في أي بلد يعني نهاية الشرور؛ فلقد ظهرت في أوروبا نفسها أدبيات الحب والحنين للعثمانيين، ودفعت آثار هذا التسامح المؤرخ الفرنسي (فرنان بروديل) إلى القول: «أصيب النصارى المجاورون للبلدان الإسلامية بدوار الردّة؛ فقد بدؤوا ينقلبون من النصرانية إلى الإسلام أفواجاً أفواجاً طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر» .

وبموجب نظام «الملة» تقلصت سلطات الدولة مكانياً ووظيفياً على المدن والسواحل والأودية النهرية والسهول، بحيث لم يكن على الجماعات الراغبة عن الخضوع لها إلا الانسحاب إلى حيث يصعب الوصول إليها. ومن جهة أخرى تحددت سلطات الدولة ببعض الاختصاصات التي جعلت منها نموذجاً للدولة الحارسة التي لم تكن تُعنَى بغير استتباب الأمن الداخلي والخارجي، وجباية الضرائب، وحفظ الدين وإقامة شعائره دون إلحاح بها على غير أهله.

غير أن هذا النظام الذي عبَّر عن نجاح الدولة العثمانية في التعامل مع التنوع والتعدد على المستوى الاجتماعي والثقافي قد تحول ـ في فترة الضعف والاختراق الخارجي ـ إلى المستوى السياسي ليكون أساساً لبرنامج انفصالي يهدد وحدة الدولة والمجتمع، وهذا ما حصل.

ثانياً: ظروف تحوُّل الأقليات من الديني إلى السياسي:

لقد ظل نظام الملل واحداً من الشواهد على سماحة الإسلام مع مخالفيه في العقيدة، ولكن لما كانت السماحة سلاحاً في يد القوي مصوَّباً إلى قلب الضعيف فإنه ما إن بدأت الإمبراطورية العثمانية تضعف قواها وتخور حتى وقع الاختراق الغربي لأراضيها بعد توظيف مجموعة التأثيرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كان قد تم التمهيد لها من قبل.

وظلت الإرساليات التنصيرية شاهداً على هذا الاختراق، كما لعبت المؤسسات التعليمية المرتبطة بالبعثات التنصيرية المختلفة دوراً بارزاً في نمو وعي طائفي مرتبط بالخارج.

ومهد ذلك لخطوة تالية هي التدخل بالضغط على الدولة العثمانية للحصول على امتيازات للأقليات، كما في نظام الامتيازات، والذي منح الأجانب الذين يقيمون في أراضي الدولة العثمانية حصانات وحقوق وإعفاءات مميزة، كذلك عدم خضوعهم لقوانين الدولة العثمانية، وإنما لقوانين البلاد التي ينتمون إليها، ولقد اتفق تاريخياً على أن الامتيازات التي منحها السلطان سليمان القانوني سنة ١٥٣٥ إلى (فرانسوَا الأول) ملك فرنسا هي البداية للاختراق الاقتصادي للمنطقة وإلحاقها بالغرب.

وتلا هذه الامتيازات تدخلات من جانب دول أوروبية معينة في الدولة العثمانية بحجة حماية الأقليات وتحسين أوضاعها، ويمثل (الخط الهمايوني) الذي أصدره السلطان عبد المجيد في ١٨ من فبراير سنة ١٨٥٦ قمة تأثير التدخل الخارجي في توجيه السياسة العثمانية وتشكيلها؛ فرغم أن إعلان (الخط الهمايوني) هو شأن داخلي لتنظيم العلاقة بين السلطان ورعاياه، إلا أن معاهدة دولية هي معاهدة باريس سنة ١٨٥٦ قد تضمنت الإشارة إليه ضمن بنودها ـ البند ٩ ـ وهو ما اعتبر مساساً بشرف الدولة وكرامتها.

ومن ذلك (إلغاء الجزية) سنة ١٨٥٧، لكن فرض التجنيد الإجباري على الأقليات غير المسلمة لم يطبق إلا سنة ١٩٠٨ وكانت الخدمة العسكرية تمثل واجباً ثقيلاً؛ إذ كانت تبلغ عشرين سنة، وكان القانون يقبل البدل النقدي مقابل الإعفاء من الخدمة العسكرية، وكان غير المسلمين يدفعون البدل مقابل إعفائهم من الخدمة، وكان رؤساء الطوائف هم الذين يقومون بجباية الإعانة العسكرية، ولكنهم كانوا يتلكؤون في تحصيلها ودفعها بانتظام.. أي أن الأقلية غير المسلمة استفادت من المزايا ولم تشأ أن تتحمل ما يقابلها من الواجبات والتكاليف.

وعدم اشتراك غير المسلمين في الجيش العثماني جعلهم يتخصصون في الأنشطة الاقتصادية بحيث صار كثير منهم وكلاء وقناصل فخريين للدول الأجنبية، مما جعلهم مراكز قوى داخل الدولة العثمانية استعانت بهم الدول الأجنبية لاختراقها ثم تفتيتها. والثابت أن الأقباط قد أعرضوا عن التعاون أو الاستفادة من التوسع التجاري الأوروبي، كما أن بيوت التجارة الأوروبية عندما بحثت عن عناصر يعملون معهم كوكلاء وتراجمة ومقاولين للتجار الفرنجة اختارت في الأساس أن تستعين باليهود وبعض الأقليات الأخرى.

ü التحول العلماني التركي يثير صراع الأقليات:

وبانقضاء «الفترة المثالية للحكم العثماني» مع كثافة التدخل الاستعماري المواكب لبدء سياسة «التتريك» أخذت صراعات الأقليات أشكالاً ثلاثة:

الأول: الصراع بين الأقليات الدينية بعضها مع بعض بتأثير رغبة كل منها في ترجمة ما تتمتع به من حماية إلى مزيد من النفوذ والامتيازات، ومن ذلك ما اصطُلح على تسميته بمذابح الدروز والموارنة في عام ١٨٦٠م. وارتبط هذا الصراع بما عرف بالرعاية المذهبية التي سعت الدول الأوروبية لتنفيذها بحيث ترعى كل دولة أوروبية مجموعة من غير المسلمين تبعاً للتوافق المذهبي.

ومن المفارقات أن النمسا تدخلت لحماية الكاثوليك، والملاحظة الجوهرية هنا هي أن الرعايا الذين تريد النمسا حمايتهم ليسوا من الكاثوليك، بل هم أرثوذكس مجاورون للحدود النمساوية/ الصرب، الأفلاق، البغدان، الجبل الأسود.

أما الثاني: فهو الصراع بين الأقليات المختلفة وبين السلطنة العثمانية طلباً للاستقلال أو لبعض التنازلات، وكان من نماذجه تحالف الأرمن مع روسيا ضد العثمانيين في عام ١٨٩٤م.

وبدأت روسيا تستخدم بفعالية ورقة الأقليات في تفجير الدولة العثمانية من الداخل، ويمكن القول: إن انفصال اليونان والأفلاق والبغدان وصربيا والجبل الأسود عن الدولة العثمانية يرجع إلى المساندة الروسية بشكل أساس. والهدف الروسي الواضح من إثارة الأرمن كان الوصول إلى بلغاريا واقتطاع أرض جديدة، وكان لحركة الاتحاد والترقي دور في مساندة الأرمن أيضاً، وهو ما أثار السلطان عبد الحميد، فذكر أنه لم يكن يدهش: «لهيام الأرمن بحب الاستقلال خاصة بعد معرفة إثارة الدول الكبرى لهم بلا توقف، لكني أدهش لأن بعض أفراد تركيا الفتاة الذين هربوا إلى أوروبا وأصدروا هناك صحفاً ضدي كانوا يتعاونون مع أعضاء المنظمات والجمعيات الأرمنية.. كانوا يقولون: إنهم يريدون إنقاذ الدولة العثمانية من التمزق، ثم يتعاونون مع الذين يعملون على تفتيت الدولة» .

أما الثالث: فيتمثل في الصراع بين الأقليات وبين السلطات الاستعمارية ذاتها. وللخبرتين البريطانية والفرنسية دلالات كبيرة، ويقوم الصراع بعد أن تسعى هذه السلطات إلى فصل الأقلية عن محيطها الاجتماعي بسن القوانين أو المعاملة التمييزية أو الإعلان عن الانتماء المشترك مثلما قامت فرنسا بإصدار الظهير البربري في الحقبة الاستعمارية للمغرب بهدف استقطاب الأقلية البربرية وفرنستها غير أن البربر رفضوا ذلك وطالبوا بالوحدة والشرع الإسلامي.

ثالثاً: دور الأقلية اليهودية في تفتيت الدولة:

يمكن تقسيم الأقلية اليهودية إلى شريحتين:

الأولى: الجماعات اليهودية التي وجدت في الأراضي العثمانية قبل وصولهم إليها وهم يتألفون من يهود ينتمون إلى الإمبراطورية البيزنطية القديمة.

الثانىة: الجماعات اليهودية التي هاجرت إلى الدولة العثمانية بسبب اضطهادها في العالم الغربي.. لكن هذه الهجرة بلغت مداها بعد قرار طرد اليهود من أسبانيا عام ١٤٩٢ وقد استقبلتهم الدولة العثمانية بتسامح شديد.

وهذه الهجرة قد أدت إلى انقلاب في حجم الملة اليهودية في الدولة العثمانية؛ ففي جميع المراكز الحضرية التي تتميز بقدر من الشهرة وجدت جاليات يهودية مهمة؛ ففي (سالونيك) كان أكثر من ٦٠% من سكانها يهوداً، وفي القرن السادس عشر أصبحت العاصمة الأم لليهود في الدولة العثمانية.

وقد تميزت تلك الحركة بالامتداد والتشعب والتعقيد؛ إذ وجدت في هذه الحقبة عوامل عديدة متشابكة مثل حدوث الأزمات الاقتصادية ومحاولات تغريب النظام الاجتماعي للمجتمع التركي، وإثارة القوى الغربية للقوميات والنعرات الطائفية وإقامة تحالفات مع الأقليات، وكان أكثرها تأثيراً التحالف مع بعض التنظيمات داخل الجماعات اليهودية.

وقد شهدت تلك الفترة ميلاد حركتين: الأولى: ظهور الحركة الصهيونية كمنظمة سياسية عام ١٨٩٧، أما الحركة الثانية: فكانت في ظهور حركة الاتحاد والترقي التي هيمنت على مجريات الأمور في تركيا، وقد استعانت بها الصهيونية. في إلغاء منصب الخلافة الإسلامية بكامل رسومه ورمته، وتحويل الدولة التركية من دولة إسلامية إلى دولة علمانية.

وكان يهود الدونمة من أبرز الطوائف التي استجابت لتلك الحركة على أساس أنها أقرب طوائف اليهود لفلسطين، كما أنها يمكنها أن تقوم بدور إيجابي، وقد تمخض نشاطهم داخل تركيا عن ميلاد حزب تركيا الفتاة الذي كانت أغلب تشكيلاته من يهود الدونمة الماسونيين الذين هيمنوا على مجريات الحياة الاقتصادية والإعلامية.

والاتحاد والترقي نشأ أولاً كلجنة في حزب تركيا الفتاة في سنة ١٨٨٩ وعقد اجتماعاته ونظم تشكيلاته داخل المحافل الماسونية في تركيا، كما فتحت السفارات الأجنبية أبوابها داخل تركيا وخارجها لأعضائها بهدف تشجيعهم على معارضة السلطان.

و (الدونمة) كلمة تركية أطلقها الأتراك على اليهود الذين هاجروا من أسبانيا إلى تركيا بعد اضطهادهم وطردهم على أيدي محاكم التفتيش الأسبانية.. ومعنى الكلمة: (إظهار خلاف الباطن) وقد اختارها الأتراك، وأطلقوا على هؤلاء اليهود الذين تظاهروا بالإسلام وأضمروا اليهودية وعاشوا بوجهين وكأنهم يعنون بها النفاق والزندقة.

ومن أجل العمل لإسقاط الخلافة اتبعوا في ذلك خطة ذات شعبتين:

الأولى: إبراز السلطان عبد الحميد ووصفه بالحاكم المستبد، وأن نظام الخلافة الإسلامية هو السبب في تخلف المسلمين، وفي الوقت ذاته عملوا على تمجيد الغرب مستغلين تيار التغريب الذي يدعو لإصلاح الحال على منهج الغرب، وراح هذا التيار التغريبي يدعو إلى تقليد أوروبا في كل شيء، فانزلقت قدمه في الفساد قبل أن يحاول تثبيتها بالتقدم العلمي والتقدم المادي.

أما الثانية: فكانت بيع الخلافة الإسلامية ... والذين قاموا بإجراء تلك الصفقة هم جماعة الاتحاد والترقي، وقد ظهر ذلك جلياً في مؤتمر الصلح الذي انعقد في مدينة لوزان، وقد مثَّل تركيا في لوزان (الحاخام ناحوم قره صو) رئيس الوفد، وهو الذي قدم للسلطان عبد الحميد قرار عزله، وكل من (رضا نور) و (عصمت إينونو) ويعترف (رضا نور) بأنه هو الذي أعلن علمانية تركيا في مؤتمر الصلح، ثم يقول: « ... كانت هذه أهم نقاط الارتكاز التي اعتمدنا عليها في لوزان ... أن صفقة بيع وشراء الخلافة والتنازل عن الموصل قد تم بين لندن وأنقرة، وما حضور وفد تركي إلى لوزان إلا للتمويه والتوقيع» (١) .

وما كادت تستقر الأمور للاتحاديين والكماليين تحت زعامة مصطفى كمال؛ حتى قام بإلغاء الخلافة العثمانية وإعلان الجمهورية وطرد الخليفة من البلاد، وتنكَّر لكل القيم الإسلامية، فتخلى عن القرآن الكريم للقانون المدني السويسري، وأباح زواج المسلمات من غير المسلمين، ومنع السفر للحج، وجعل يوم الأحد العطلة الرسمية، ووضع على صدر دستوره كلمة «القرآن دستور البداوة» .

وبناء على ما سبق يمكن القول: إن من أهم الآثار السياسية في الخبرة العثمانية:

ـ أن مفهوم الأقلية السياسية عرفته الدولة العثمانية عندما عنّ للقائمين على شؤونها (الاتحاد والترقي) أن يعملوا على تتريك كافة عناصرها، فكان ذلك بمثابة الضوء الأخضر لعديد من القوى الاستعمارية التي كانت تتحين الفرصة لتقويض الإمبراطورية وإقامة العديد من الدول والكيانات على أنقاضها. وكانت سياسة التتريك ضمن خطة لبعث القوميات في الخلافة العثمانية، مما أدى في نهاية المطاف إلى انقسامها إلى أكثر من ثلاثين دولة تواجه كل منها مصيراً محفوفاً بالمخاطر والمطامع الاستعمارية إلى اليوم.

ـ بروز الخطر اليهودي عقب كل مواجهة مع القوى الخارجية، بحيث كان المجتمع يتعرض لمواجهة خطر خارجي يعقبها مواجهة داخلية للتخلص من الأقلية التي نبذت ولاءها للدولة في أثناء الخطر الخارجي.

وهذا يعني شيئين: أحدهما: أن خطر الأقلية يميل للتعاظم حين مواجهة خطر خارجي. ثانيهما: أن الاستجابة لإغراء استغلال الخطر الخارجي من جانب الأقلية ضد الدولة التي تعيش فيها الأقلية سيجعلها تدفع ثمن ذلك غالياً وهو وجودها في كثير من الحالات.

ـ في الحالة العثمانية أطاحت الأقلية بالدولة وقامت بتفتيتها إلى دول كثيرة، ومهدت كذلك إلى إقامة دولة للجماعات اليهودية في فلسطين. وتلعب هذه الدولة الدور نفسه الذي لعبه «يهود الدونمة» في الدولة العثمانية؛ فاستغلال مسألة الأقليات بالنسبة للعدو الصهيوني في الوطن العربي، عبارة عن وسيلة وغاية ومبدأ؛ فإلى جانب الإضعاف والاستنزاف والتفتيت للأقطار العربية المعنية فإن العدو الصهيوني باستغلاله لهذه المسألة حدد مبدأً أيديولوجياً في صلب العقيدة الصهيونية، هذا المبدأ هو إرساء القاعدة الإثنية كأساس مشروع لقيام «الدولة الشرق أوسطية» .

فقد تلقفت الدولة العبرية بعض الاجتهادات الاستشرافية وصاغت منها ما يعرف بـ (نظرية المجتمعات الفسيفسائية) أو (مجتمعات الموزاييك) وتذهب هذه النظرية إلى أن الشرق الأوسط هو عبارة عن مجموعات دينية وطائفية وعرقية ولغوية تتعايش معاً بحكم التاريخ والضرورة، ولا يربط بينها جميعاً أي رابط وطني أو قومي.

وهذا هو (مشروع الشرق الأوسط الكبير) عينه؛ فهل نعي الخطر المحدق بنا إن لم نكن أمة واحدة كما أمرنا ربنا؟

مصادر المقال:

١ ـ الأقليات والممارسة السياسية في الخبرة الإسلامية، دراسة حالة الدولة العثمانية (رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الاقتصاد والسياسية بجامعة القاهرة (١٩٩٥م) للأستاذ: كمال السيد حبيب.

٢ ـ مواطنون لا ذميون، للأستاذ فهمي هويدي، دار الشرق ١٩٩٠م.

٣ ـ من العثمانية إلى المصرية، د. وليم سليمان قلادة، مركز البحث والدراسات السياسية (جامعة القاهرة) ١٩٩٩م.

٤ ـ الأقليات والاستقرار السياسي في الوطن العربي (مركز الدراسات والبحوث السياسية ـ جامعة القاهرة) ١٩٨٨، د. نيفين عبد المنعم مسعد.

٥ ـ دور يهود الدونمة في إسقاط الخلافة العثمانية، د. محمد زغروت (دار التوزيع والنشر الإسلامية) ١٩٩١م.

٦ ـ تأملات في مسألة الأقليات، د. سعد الدين إبراهيم (مركز ابن خلدون) بالقاهرة ١٩٩٣.


(*) باحث سياسي.
(١) من المفيد الاطلاع على مذكرات (رضا نور) التي نشرتها مجلة (المجتمع) في عدة حلقات توضح دوره المشبوه ضد الخلافة العثمانية. ^.