للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قصة قصيرة

[العقوق]

خولة درويش

يا لفرحة (أم نديم) وهي ترى عروس ابنها الجميلة (سها) تزف له، إنها

فرحة طالما انتظرتها لتجبر قلبها الكسير، ولتأسو جراح نفسها المكلومة، ويا

لسرورها وهنائها! ها هو ابنها تكتمل رجولته إذ يعمر بيت والده (المرحوم خالد)

فتسعد بذلك كما سعدت يوم تخرج من كلية الهندسة وعين في إحدى الشركات

الكبرى، فتركت مهنة الخياطة التي ما كانت لتعمل بها لولا الحاجة، كانت تمضي

سحابة يومها في استقبال زبائنها من الراغبات في الأناقة، وتسهر جل ليلها خلف

ماكينة الخياطة لتؤمن لعيالها الحياة الهانئة الكريمة بعيداً عن الحاجة، تتطلع إلى

أملها الكبير (نديم) ليحمل عنها أعباء أضحت تنوء بحملها، وهي على أبواب

شيخوخة مبكرة جلبها كدح النهار وهمِّ الليالي لإعالة أيتام، وتأمين الحياة الكريمة

لهم بعيداً عن العوز والفاقة.

لكن صاحباتها ممن يعرفن (سها) المعرفة الحقة كان يحدوهن تفاؤل حذر إلى

تحفظ في الفرح والسرور، وما منعهن الإقدام على نصيحتها إلا الخوف من أن

يتهمن بالغيرة ذلك أن جمال (سها) البارع قد ملك على (أم نديم) قلبها بل وعقلها

أيضاً، ولم تدر أن هذا الجمال لم يورث (سها) إلا غطرسة وكبراً بل وتسلطاً في

الرأي يلمسه كل من يعاشرها..

ومنذ أن اقترنت بـ (الأستاذ نديم) أضافت إلى سلطانها وجبروتها عش

الزوجية الجديد. فأضحت رغباتها أوامر عند أفراد الأسرة جميعاً وأصبح زوجها لا

يتوانى عن تنفيذ ما تحب أياً كان ذلك... وإن حدث التواني أو التأجيل.. فلا اعتذار

يقبل، بل ينطلق السخط من فمها فيحول المنزل إلى جحيم لا يطاق.

وكان الجميع يطلب لنفسه السلامة برضاها، وعمل ما يروق لها، فهل

ترضى؟ ! لا زلت أذكر يوم كانت (سها) تشكو حب ابنتها (سلوى) لجدتها وعماتها

وبرها لهم وتعلقها بهم.

وعندما قلت لها سائلة ومقربة بين وجهات النظر:

- وماذا في برها بجدتها وقربها من عماتها؟ ! أوليس ذلك مما يفرح الأم؟

إن من يبر جدته ويحسن إلى عمته قادر أن يكون أكثر إحساناً إلى أمه ... ولكن

هيهات أن تقتنع (سها) أو ترضى بهذه الأقوال..

لقد حجب هواها الجامح جمال الحقيقة، فما وجدت منه إلا النفور، لقد امتقع

وجهها وهي تقول:

- لا ليس كل الناس سواء، هؤلاء كالثعابين التي تقذف بالسم، إنهم أعداء

بثياب الأهل والأقارب.

ويجمح بها الانفعال فتتابع الكلمات تتدفق من فمها:

- يكفي المرارة التي جرعوني إياها عن طريق ابنهم ووساوسهم له، أيريدون

أن يذيقوني الويل من أولادي أيضاً؟ !

وأرادت أن تختصر الحديث فهبت واقفة وهي تتوعد بأمر لا ترعوي عن

إظهاره.

- والله لن أدع لهم مكاناً في بيتي... فإما أنا أو هم، وليعمل ابنهم ما يشاء،

فمنزل أهلي يسعني ...

ويأتي الزوج.. ويحتدم النقاش، ويخونه بيانه ومنطقه، ولم تسعفه أية حجة

حتى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم) .

لامس حسها الغليظ فما وجد منها غير التبلد واللامبالاة والإصرار على موقفها

المشين. فما كان من الزوج الذي اعتاد الانصياع لزوجته المتسلطة إلا أن رضخ

لرغبتها، ورأى أن والدته برحابة صدرها، أكثر تقديراً للأمور من زوجته.

فقرر مفاتحة الأم الرءوم، وقال لها بصوت كسير حزين:

- عزيز علي أن أقول لك يا خير أم، أنني ابنك البار بك، والذي يفديك

بالغالي والرخيص ... ويسود صمت ثقيل، فالموقف الجلل يمنع الكلمات المتعثرة

من أن تظهر، فتغوص في أعماق حنجرته.

ونظرات الأم الحائرة ترمقه في دهشة وتساؤل.

ثم يكمل وقد غلبت عليه الأثرة قائلاً:

- إن (سها) قد أتعبتني، وتجد أن لا حق لأحد في زوجها وبيتها، فماذا أعمل؟! وبين دهشة الأم وحسرتها، سالت دمعة أسيفة من عينيها، وفي بساطة تعسة

قالت بتسليم حزين:

- اعمل ما تريد، أما أنا وأخواتك فنفوض أمرنا إلى الله..

ثم خرجت وبناتها من البيت ... وفي نفسها تعتلج المشاعر الأليمة، والضيق

المكتوم و (سها) تشيعها بابتسامة تحكي قسوتها وفظاعتها، وتخلو من كل معاني

الإنسانية.

.. وعاشت الأم حياة بائسة قد لا تصل إلى حد الكفاف ... وهي التي لا تفتأ

تسمع عن حفلات ابنها وولائمه، ونفسها تتوق إلى لقمة طعام من كده وسعيه، فلا

تلقى إلا صدقات بعض المحسنين الذي يرجون ثواب الله في إعطاء الصدقة

للمتعففين من ذوي الحاجات، أمثالها!

فما أشق ذلك على النفس التي ما اعتادت الاستخذاء، لكنه السن والحاجة! !

وأما (سها) فهل وجدت السعادة التي كانت تنشدها؟ !

أم هل أصبحت التطلعات المبتذلة هي مقياس السعادة؟ !

ها هو البيت قد فرغ لها، ففرحت وفرح أهلها، إذ خلا المنزل فما ينغصهم

أحد، كما سول لهم عقلهم القاصر، وما دروا أن البر وصلة الرحم توسع الرزق

وتسعد العيش! !

ويتحامل (نديم) على نفسه ويرحب بهم فيزيد ذلك من غبطتهم.. ثم لا يلبث

أن ينقلب الترحيب إلى تجهم وكدر، ويبلغ الأمر حدة عندما أعلن موقفه بوضوح،

وقد شعر أنه الذليل في بيته، الجريح في رجولته، وأصر على عودة أهله (والدته

وأخواته) الذين لا معيل لهم غيره، ليشاركوه النعم التي أنعم الله بها عليه.

ولكن أنى توافق (سها) على ذلك؟ ! وهي التي ترفض حتى الكلمة الطيبة من

ابنتها لهم... إن الغيرة قد أكلت قلبها. والهواجس الخبيثة قد أفسدت عيشها، فما

تطيق أن ترى زوجها يسر لهم بحديث، أو يبادلهم الابتسام أو حتى الهموم، وتصر

على الرفض... وتضحي بأهلها عندما أعلنتها بعنجهية بعد جدل طويل:

-إن كان يروق لك بعدي عن أهلي فمن الآن فصاعداً لن أجعل أحد منهم يأتي

لبيتك، فلا أهلي ولا أهلك، هل أعجبك ذلك؟ !

فيرد وقد تخاذل أمامها كعادته:

- نعم أعجبني.

ويوصد بيت العقوق أبوابه أمام أهل كل من الزوجين، ويكتفيان بأنفسهما

وقرنائهما ...

وتمر الأيام والسنون ... ويحين موعد زفاف ابنتهم (سلوى) ويجد الأستاذ

(نديم) أن هذه فرصته كي يشعر بحقه الطبيعي في القوامة على المنزل ورئاسة

الأسرة. وأن يظهر أمام أصهاره بالمظهر اللائق كرجل يحترم نفسه.

ودون استشارة حرمه (سها) دعا أهله لحضور الفرح كما دعا أهل زوجته

أيضاً.. وهكذا.. أصبح عرس (سلوى) الفرح الذي وارى جراح أقاربها ولمَّ شعث

أهلها..

وسادت الحياة طبيعية، لولا نذر الانتكاس التي كانت تظهر بين الحين

والآخر فيعالجها نديم بصبره الدءوب وإصراره العنيد على عدم التفريط بوشائج

القربى وصلة الأرحام.

وأنا اليوم وبعد سنوات قليلة من هذا الزواج، أرى (سها) - ولأول مرة - في

انهيار مريع تبكي بمرارة وحرقة ما أسبغته على ابنتها (سلوى) من رفاه وما تلقى

منها من الجحود.

فيبلغ بها الانهيار مداه وقد أسقط في يدها فتغطي وجهها بكلتا يديها وتنشج

كالطفلة الصغيرة وهي تكوم جسدها الكليل على إحدى الأرائك، تنتحب من أعماق

فؤادها المكلوم، وكلمات لا تكاد تبين تخرج من بين شهقاتها:

- آه من سلوى! قد صار لزوجها بيت ولا يأذن لي بدخوله! !

يا لها من عاقة، عاقة لا خير فيها، جحودة منكرة للجميل! ويزداد تشنجها،

عندما يمر أمام مخيلتها، شريط جحودها هي لفضل أهلها وحقوق زوجها وأهله ...

وكأنها تقول: ألا ما أشبه الليلة بالبارحة، ومن جرع غيره كأس العلقم احتساه بما

قدمت يداه.