للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بين سد الذرائع والعمل بالمصلحة]

عبد العزيز بن إبراهيم الشبل

ـ فضيلةَ الشيخ: شاع بين الناس في الآونة الأخيرة ما يعرف بـ ... ، ولا يخفى على فضيلتكم ما في ... من الأخطار؛ فما رأيكم في حكم هذه المسألة؟

ـ حرام.

ـ يتساءل البعض عن دليل التحريم، ويزعم البعض الآخر أن هذا من التشدد في الدين.

ـ لا يوجد دليل صريح في هذه المسألة، وكما تعلم فالنصوص الشرعية لا تحيط بجزئيات الأحكام، وإنما تدل على الأحكام بعمومها، والنص الشرعي له منطوق ومفهوم، و..، يقول ابن تيمية: «ولو تأملنا هذه المسألة لوجدناها ذريعة لإفساد المجتمع، فهي حرام لذلك» .

وفي الجانب الآخر:

ـ فضيلةَ الشيخ: ... فما الحكم الشرعي لهذه المسألة؟

ـ حلال.

ـ لكن بعض المفتين يقول: إن هذا العمل حرام، ويذكر قول النبي # ... ، فما رأي فضيلتكم؟

ـ صحيح أن الحديث المذكور ورد عن النبي #، ولكن لو نظرنا إلى المجتمع، وتغير حاجات الناس ومصالحهم، لرأيت أننا لا بد أن نقول بالجواز مراعاة لمصلحة المجتمع ...

ـ حتى لو ورد عن النبي # ما يفيد التحريم؟

ـ يا أخي! الحديث المذكور لا يدل صراحة على حكم هذه المسألة، صحيح أنه يدخل في عمومه، وهو ما يتبادر إلى الذهن من الحديث، لكن لا بد أن تكون لنا قراءة جديدة للنصوص الشرعية، ولا يمكن أن نقرأ النصوص الشرعية بعيداً عن المقاصد الشرعية لها، يقول الشاطبي: «وكما تعلم فالدين كله راجع إلى إعمال المصالح ودرء المفاسد» .

المشهد السابق مشهد متكرر في ساحة الفتوى، وكثيراً ما يعلل بعض المفتين فتاواهم بسد الذرائع، أو بإعمال المصالح، وبات بعضهم إذا أراد أن يحرِّم شيئاً ـ لا يجد دليلاً على تحريمه ـ يتكئ على سد الذرائع، ومن أراد أن يبيح شيئاً ـ ووقف الدليل الشرعي في وجهه صريحاً بالتحريم ـ يذهب إلى إعمال المصالح، حتى غدا عندنا منهجان واضحا المعالم في الفتوى ـ بالإضافة إلى المناهج الأخرى ـ: منهج: يوسِّع دائرة الذرائع فيضيق على الناس ما أباحه الله. ومنهج: يتمسك بالمصالح المزعومة مغفِلاً النظر فيما سواها.

وحدث نتيجة ذلك ردة فعل طبعية لهذين المنهجين: فتبرَّم بعضهم بسد الذرائع حتى عدّه أكبر سد في العالم، وعد آخرون المصالح طاغوتاً يضاف إلى الطواغيت الجاثمة على صدور المسلمين.

وهذا أدى ببعض الباحثين والمفتين إلى التحرُّز من تعليل الأحكام الشرعية بسد الذرائع، حتى لو كانت الذريعة واضحة كالشمس؛ فلو وُجدت معاملة مالية مستحدثة تؤدي إلى الربا وإلى ما حرمه الله ـ سبحانه وتعالى ـ وكانت الحيلة فيها أوضح من حيلة اليهود في صيدهم الحيتان يوم السبت ما تجرأ أن يقول بالتحريم؛ خوفاً من أن يوصم بأنه (صاحب أكبر سد في العالم) .

وعلى الطرف الآخر تجد مسألة من المسائل لا يوجد فيها دليل صريح، بل قد يوجد دليل يشير إلى الإباحة، ومع ذلك تجد بعض الباحثين والمفتين يتحرز من القول بالإباحة استناداً إلى المصلحة الشرعية، خوفاً من أن يوصم بأنه (قليل علم بالنصوص، ولَمَّا أعيته النصوص اتجه إلى المصالح) و (أنه مفتٍ عصراني) .

ولو أخذت فتوى لمن يستخدم (سد الذرائع) بكثرة، وأردت أن تستدل لكلامه بالمصالح لما أعجزك ذلك، وكذلك العكس، وخذ مثالاً لذلك: ما يسمى بالتورُّق المبارك، فإنك تستطيع أن تقول بالإباحة استناداً إلى المصالح؛ فالناس محتاجون إليه، ومصالحهم تتعلق به، وإن أردت التحريم قلت: إنه ذريعة واضحة إلى الربا، وتستطيع أن تعكس فتقول: إنه مباح، ولو لم نقل بذلك لانسدت وسائل التمويل في وجوه المسلمين مما يؤدي إلى تركهم للمصارف الإِسلامية واتجاههم إلى البنوك الربوية فنقول بالجواز سداً لذريعة اتجاه الناس إلى الربا، وتقول: إنه محرم؛ فمن مصلحة الاقتصاد الإسلامي أن نقول بذلك، ولو قلنا بهذه الوسيلة لألغينا (كل أو جل) وسائل التمويل الإسلامية الرائدة التي جعلت المصارف اِلإسلامية تنافس حضارياً البنوك التقليدية، وجعلت المسلمين يشاركون في تقديم حلول لمشاكل العالم المعاصر، وهذه الطريقة تلغي الفروق بين المصارف الإسلامية والربوية، مما يجعل المصارف الإسلامية عديمة الجدوى (١) .

وعاد الخلاف إلى التلاعب بالألفاظ، لا الاستدلال بالأصول الشرعية.

فهل المشكلة في العمل بسد الذرائع، أم المشكلة في العمل بالمصالح الشرعية؟

ü أين تكمن المشكلة؟

الحقيقة أن المشكلة ليست في (سد الذرائع) وليست كذلك في (إعمال المصالح) ، وكلاهما قاعدة شرعية قررتها أصول الشريعة، وعمل بها العلماء الراسخون.

ولكن المشكلة تكمن في تحديد المصطلح، ثم في التطبيق الخاطئ للقاعدة الشرعية، وأحياناً لا توجد مشكلة أصلاً؛ إذ المسألة لا تعدو أن تكون من الخلاف اللفظي، أو الخلاف السائغ.

وهذا الكلام ينطبق على أصول شرعية أخرى: كالعمل بالرأي والاستحسان واعتبار العرف.

فالعمل بالرأي نجد في كلام السلف ذمه ومدحه، ولكننا إذا حققنا كلامهم ـ كما فعل ابن القيم رحمه الله ـ (٢) نجد أن الذم والمدح لم يردا مورداً واحداً.

فمن ذمه قصد به الرأي الفاسد المصادم للنصوص أو القول في الدين بالخَرْص (٣) والظن مع التفريط في معرفة النصوص، ومن مدحه أراد به الرأي الصحيح الموافق للنصوص الشرعية، كآراء الصحابة، أو الآراء التي فيها تفسير النصوص، أو إعمال الرأي في المسألة عند عدم الدليل بعد بذل الجهد في البحث عنه.

وإذا تقرر ما سبق فإن من ذم الرأي كان مصيباً، ومن مدحه كان مصيباً، ولكن كلام هؤلاء وهؤلاء لم يرد مورداً واحداً، وعند تحرير المصطلح يتبين لنا أن الخلاف لفظي.

ومع اتفاقهم على هذا التأصيل إلا أنه وقع الخلاف بينهم في المسائل التي أعملوا فيها الرأي، إما لاشتراط أحدهم ما لم يشترطه الآخر، وإما لاختلاف أفهامهم أو اختلاف الظروف المحيطة بكل مسألة..، (٤) فلو أخذنا ـ على سبيل المثال ـ مسألة من مسائل الفرائض وهي مسألة الجد والإخوة لوجدنا أن المسألة ليس فيها دليل قاطع، والصحابة عملوا فيها بالرأي مع اتفاقهم على حدود الرأي الذي يُعمل به، ومع ذلك اختلفوا في هذه المسألة؛فمنهم من عدّ الجد أباً وحرم الإِخوة من الميراث، ومنهم من شرَّك بين الإخوة والجد.

وكذلك إذا نظرنا إلى مسألة العمل بالاستحسان، فقد ردّه بعض الأئمة وشنَّع القول فيه، حتى قال الشافعي: من استحسن فقد شرَّع. ومع ذلك نجد أن بعض الأئمة الكبار كأبي حنيفة يقول به، بل نجد في كلام من رده العمل به، ووُجد في كلام الإمام الشافعي نفسه الأخذ به، فهل اختلافهم حقيقي؟

عند إمعان النظر في كلامهم نجد أن من ردّه فإن كلامه يدور حول معنى من المعاني، وهو: العمل بالتشهِّي والهوى من غير دليل، وهذا لم يقل به أحد ممن يعتد بقوله لا أبو حنيفة ولا غيره، والأئمة ـ رحمهم الله ـ أجلّ من أن يقولوا بذلك، وكذلك من فسر الاستحسان على أنه دليل ينقدح في ذهن المجتهد لا يستطيع التعبير عنه.

وأما من عمل به فقد أراد العدول عن الحكم أو الدليل إلى حكم أو دليل أوْلى منه، أو القول بأقوى الدليلين.

وهذا المعنى لا ينبغي أن يخالف فيه أحد، فعاد الخلاف إلى اللفظ لا إلى الحقيقة، وتبين أن الكلام لم يرد مورداً واحداً (٥) .

ولهذا قال أبو حامد الغزالي: «وردُّ الشيء قبل فهمه محال، فلا بد أولاً من فهم الاستحسان ... » (٦) .

وقال الشيرازي: (فإن كان مذهبهم على ما قال الكرخي «أي العدول بحكم المسألة عن حكم نظائرها لدليل يخصها» وعلى ما قال الآخر، وهو القول بأقوى الدليلين، فنحن نقول به، وارتفع الخلاف) (١) .

وقال ابن قدامة: (فلا فائدة في الاختلاف في الاصطلاحات مع الاتفاق في المعنى) (٢) .

وقال ابن السمعاني: (ذكر الأصحاب أن القول بالاستحسان في أحكام الدين فاسد.. وكذلك القول بالمصالح والذرائع والعادات من غير رجوع إلى دليل شرعي باطل.. ثم قال: واعلم أن مرجع الخلاف معهم في هذه المسألة إلى نفس التسمية، فإن الاستحسان على الوجه الذي ظنه بعض أصحابنا من مذهبهم لا يقولون به، والذي يقولونه لتفسير مذهبهم: أنه العدول في الحكم من دليل إلى دليل هو أقوى منه؛ فهذا لا ننكره..) (٣) .

وعلى ذلك فلا يجوز للمفتي أو الباحث أن يترك هذه الأصول الشرعية؛ لأن فلاناً قال بها، أو لأن القائل بهذه المسألة هم من أصحاب التوجه الفلاني، بل على المفتي أن يصدع بالحق أياً كان، إذا كان يرى أن هذا هو الحق، وأن هذا الحق يجب قوله الآن.

حتى لو كان الحق فيه تيسير على الناس؛ ففي عمل الناس آصار لم يأمر بها الله؛ فهل الشريعة جاءت بالحَرَج والأغلال والآصار حتى نمتنع عن قول الحق من أجل ذلك؟

وحتى ولو كان الحق مخالفاً لأهواء الناس وما أَلِفوه ولانت جلودهم له؛ إذ الشريعة لم تأتِ موافقة لأهواء الناس، {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [المؤمنون: ٧١] .

ولنتخيل لو جاء أحد المفتين فقال بجواز إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة، ودفع الزكاة للكفار دفعاً لأذاهم المتحقق عن المسلمين، وما موقف بعضهم لو سمع من يقول بعدم قتل بعض المنافقين والمرتدين لئلا يتحدث الناس أن (المسلمين) يقتلون أصحابهم، وما عمله لو عقد بعض الولاة صلحاً كصلح الحديبية، أو نهى عن سب آلهة المشركين لئلا يترتب على ذلك ضرر أكبر، أو امتنع عن إقامة حد السرقة لسبب شرعي مقبول ـ كما وقع عام الرمادة ـ أو أجاب دعوة لأحد قسس النصارى، أو سمح بإقامة بعض الأنشطة في المساجد ـ وإن كانت رياضية ـ كما فعل الحبشة في المسجد النبوي، أو اتبع الأعراف الدولية السائدة ـ التي لا تخالف أصول الشريعة ـ كما اتخذ النبي # خاتماً، وامتنع عن قتل الرسل، وأخبر أنه لو دُعي إلى الحلف الذي عُقد في بيت ابن جدعان ـ حلف لنصرة المظلوم ـ لأجاب، وخاطب هرقل بعظيم الروم، ألن يرمى هذا المفتي بالتساهل وتمييع الدين، والإعراض عن النصوص الشرعية؛ تمسكاً بالمصالح؟

وعلى النقيض لو قال أحد العلماء بتحريم بعض الألفاظ لئلا يتوهم منها معنى آخر (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) ولو هدم مسجد ضرار كما هدم النبي # مسجد الضرار، أو أمر امرأة ـ حتى وإن كانت موثوقة ـ بعدم إلانة القول لئلا يطمع الذي في قلبه مرض، أو قطع شجرة أو هدم حجراً خوفاً من تبرك الناس به كما فعل عمر بشجرة الرضوان، أو منع من الحيل الربوية، ألن يوصف بالتشدد، واتخاذه لأكبر سد في العالم؟

بل لو تغير اجتهاده من وقت لآخر؛ لأنه أمعن النظر في المسألة مرة أخرى، كما تغير اجتهاد عمر بن الخطاب في مسألة الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم (المسألة اليَمِّيَّة أو الحمارية) ، أو تغير اجتهاده بناء على تغير العلة التي بني عليها الحكم، كما منع عمر المسلمين عن القتال في البحر، لعدم خبرتهم به، ثم أقدموا عليه لما وُجِد في المسلمين ـ بعد عمر ـ من يستطيع القيام بذلك، لو تغير اجتهاده من أجل ذلك ألن يوصم بالتناقض؟

ومع ذلك فكل ما سبق وسائل شرعية لا يجوز لنا تركها؛ لأنه يوجد في الناس من يعيب ذلك، أو لأنه يوجد من يستخدمها استخداماً خاطئاً، أو يتخذها وسيلة لهواه؛ فقد يوجد من يريد تعطيل الحدود استناداً إلى عدم قتل النبي # للمنافقين، وترك عمر لحدِّ السرقة عام الرمادة، لكن ذلك لا يعني أن ننطلق إلى الجانب الآخر، فنحرم الاقتداء بالنبي # في هذا الأمر، وقد يوجد من يهدم المسجد؛ لأنه لا يوافق توجهه السياسي؛ ولأن المسجد لم يعد بوقاً له، لكن لا يعني ذلك عدم هدم مساجد الضرار، وقد يوجد من يريد إلغاء الولاء والبراء استناداً إلى ما سبق، لكن ذلك لا يعني أن نترك سُنَّة النبي # أو نظلم الكفار لكي لا نقع فيما وقع فيه.

وكذلك يوجد من يمنع المرأة من الحقوق المشروعة ظناً منه أن في ذلك صوناً للمجتمع من الفساد، ولكن ذلك لا يعني أن نجعل المرأة تعمل في كل مجال، وأن نترك الحبل على الغارب، لئلا نوصف بأننا متحجرون، وكذلك لا يمنعنا ذلك من أن ندعو إلى إنصاف المرأة وإعطائها حقوقها لئلا نوصف بأننا عصرانيون.

ü سد الذرائع:

المراد بسد الذرائع: أن يكون الفعل غير محرَّم، ولكنه يوصِل إلى المحرَّم. يقول القرافي مبيناً معنى سد الذرائع: «حسمُ مادة وسائل الفساد دفعاً لها؛ فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة منع مالك من ذلك الفعل في كثير من الصور ... » (٤) .

الاستدلال لمسألة سد الذرائع (٥) :

من الأدلة على العمل بسد الذرائع قوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}

[الأنعام: ١٠٨] .

فسبُّ آلهة المشركين ليس محرماً في ذاته، وإنما هو محرم لما يفضي إليه.

وما روته عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي # قال في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت: فلولا ذاك أبرز قبره؛ غير أنه خشي أن يُتَّخَذَ مسجداً (١) .

تحرير محل النزاع:

الذريعة تنقسم إلى أقسام:

١ ـ الذريعة التي توصل إلى المحرَّم قطعاً؛ فهذه محرَّمة قطعاً، كحفر بئر أو حفرة في الطريق العام، أو وضع المواد السامة في مياه المسلمين.

٢ ـ الذريعة التي لا تفضي إلى المحرَّم إلا نادراً، كزراعة العنب؛ فمع أنه قد يُتَّخذ خمراً، لكن ليس هذا الغالب في استعماله، وعلى ذلك فلا يقال بحرمته، وكذلك لا يمنع من المجاورة في البيوت خوف الوقوع في الزنا، وهذه غير محرَّمة بالإجماع.

٣ ـ الذريعة التي بين القسمين، كالحِيَل الربوية في البيوع، وهذه محل النزاع؛ فمالك ـ رحمه الله ـ كثر عنده المنع منها، حتى اشتُهِر بسد الذرائع.

ولهذا يقول القرافي بعد أن قسَّم الذرائع إلى مُجْمَع على سده ومُجْمَع على عدم سده ومُخْتَلَف فيه: (وليس سد الذرائع خاصاً بمالك - رحمه الله - بل قال بها هو أكثر من غيره، وأصل سدها مجمع عليه) (٢) .

ü آراء العلماء في مسألة سد الذرائع:

اشتهر العمل بقاعدة سد الذرائع عن الإمام مالك (٣) والإمام أحمد (٤) ، وعمل بها أصحابهما.

وكذلك اشتهر عن الإمام الشافعي أنه لا يعمل بسد الذرائع، وكذلك الحنفية اشتهر عنهم العمل بالحِيَل، وظاهر ذلك أنهم لا يقولون بسد الذرائع؛ فهل الحنفية والشافعية لا يعملون بسد الذارئع؟

الحقيقة أننا نجد عند الحنفية في فروع عدة تعليل بعض الأحكام بسد الذرائع، منها: البدء بقتال البغاة؛ فالبغاة مسلمون؛ والأصل ألا يقاتل المسلم ابتداء بل لا يقاتل إلا دفعاً، لكن المذهب عند الحنفية البدء بقتالهم إذا تحيَّزوا وتهيؤوا للقتال؛ وذلك لئلا يكون عدم قتالهم ذريعة لتقويتهم، ولعلهم إذا قووا لا يمكن دفعهم (٥) .

وعندهم يُكرَه لمن خاف الحَيْف أن يتولى القضاء لئلا يكون ذلك ذريعة إلى الظلم (٦) .

ومرادهم بالكراهة هنا كراهة التحريم؛ لأن الغالب الوقوع في المحظور (٧) .

وعللوا تركَ المعتدَّةِ الطيبَ والزينةَ والكحل والدهن المطيب وغير المطيب بأن هذه الأشياء دواعي الرغبة فيها وهي ممنوعة من النكاح فتجتنبها كي لا تصير ذريعة على الوقوع في المحرم (٨) .

وفي مسألة مصادرة السلطان لأرباب الأموال ذكروا أن ذلك محرم، ولا يجوز إلا لعمال بيت المال، والمراد بعمال بيت المال خَدَمَتُه الذين يجبون أمواله، ومن ذلك كَتَبَتُه إذا توسعوا في الأموال؛ لأن ذلك دليل على خيانتهم، وألحقوا بهم كَتَبَة الأوقاف ونُظَّارها إذا توسعوا وتعاطوا أنواع اللهو وبناء الأماكن..، لكن مع ذلك قال بعض الحنفية: «هذا مما يُعْلَم ويُكْتَم، ولا تجوز الفتوى به؛ لأنه يكون ذريعة إلى ما لا يجوز؛ وذلك لأن حكام زماننا لو أُفتوا بهذا وصادروا مَنّ ذُكِرَ لا يردون الأموال إلى الأوقاف ... » (٩) .

وأما الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ فهو الذي اشتهر عنه عدم العمل بسد الذرائع، ولكن عند النظر في بعض المسائل التي ذكرها نجد أنه يعمل بسد الذرائع، مثل ما ذكره في مسألة منع فضل الماء؛ حيث قال ـ رحمه الله ـ: (منعُ الماء ليمنع به الكلأ الذي هو من رحمة الله (١٠) عامٌّ يحتمل معنيين: أحدهما: أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله تعالى ...

(ثم قال) : فإن كان هذا هكذا؛ ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام، ويحتمل أن يكون منع الماء إنما يُحَرَّم؛ لأنه في معنى تلف على ما لا غنى به لذوي الأرواح والآدميين وغيرهم، فإذا منعوا فضل الماء منعوا فضل الكلأ، والمعنى الأول أشبه. والله أعلم) (١١) .

فهل الشافعي لا يراعي الذريعة إلى المحرم مطلقاً، وهل مراعاته للذريعة في بعض المسائل يعدّ تناقضاً منه؟

قال تقي الدين السبكي بعد أن قرر مذهب الشافعي في مسألة العِينة، وبعد أن ذكر كلام الشافعي السابق في مسألة منع فضل الماء: (قد تأملته (أي النص السابق) فلم أجد فيه متعلقاً قوياً لإثبات قول سد الذرائع، بل لأن الذريعة تعطى حكم الشيء المتوصَّل بها إليه، وذلك إذا كانت مستلزمة له كمنع الماء؛ فإنه مستلزم لمنع الكلأ، ومنع الكلأ حرام، ووسيلة الحرام حرام.

والذريعة هي الوسيلة، فهذا القسم وهو ما كان من الوسائل مستلزماً لا نزاع فيه، والعقد الأول (أي في بيع العِينة) ليس مستلزماً للعقد الثاني؛ لأنه قد لا يسمح له المشتري بالبيع أو ببذلهما، أو يمنع مانع آخر؛ فكل عقد منفصل عن الآخر لا تلازم بينهما؛ فسدُّ الذرائع الذي هو محل الخلاف بيننا وبين المالكية ـ أمرٌ زائد على مطلق الذرائع وليس في لفظ الشافعي تعرُّض لهما، والذرائع التي تضمنها كلام لفظه لا نزاع في اعتبارها. (ثم ذكر كلام القرافي السابق ثم قال) :

فالذرائع هي الوسائل وهي مضطربة اضطراباً شديداً: قد تكون واجبة، وقد تكون حراماً، وقد تكون مكروهة ومندوبة ومباحة. وتختلف أيضاً مع مقاصدها، بحسب قوة المصالح والمفاسد وضعفها، وانغمار الوسيلة فيها وظهورها، فلا يمكن دعوى كلية باعتبارها ولا بإلغائها، ومن تتبع فروعها الفقهية ظهر له هذا، ويكفي الإجماع على المراتب الثلاث المذكورة في كلام القرافي ... ) (١) .

إذن الشافعي يوافق الإمام مالك والإمام أحمد في المنع من الذرائع المستلزمة للمحرم.

وإذا تقرر ما سبق فإن الذرائع المستلزِمة للمحرَّم محرَّمة إجماعاً، والذرائع التي لا توصِل إلى المحرم إلا نادراً مجمَع على عدم المنع منها، وما بين هاتين المرتبتين وقع الخلاف فيه بين أهل العلم.

لكن إذا كان يغلب على الظن إفضاء الذريعة إلى المحرَّم؛ فهل نقول بأن المنع منها محل إجماع بين أهل العلم؛ لأنه كثيراً ما يلحق العلماء الظن الغالب بالقطع في الأحكام؟

لا أستطيع القطع بذلك، لكن المظنون بأهل العلم القول بالمنع منها، وقد قال العز بن عبد السلام الشافعي: (ما يغلب ترتُّب مسبَّبُه عليه وقد ينفك عنه نادراً فهذا أيضاً لا يجوز الإقدام عليه؛ لأن الشرع أقام الظن مقام العلم في أكثر الأحوال) (٢) .

فإذا كان هذا هو رأي إمام من أئمة الشافعية في كتاب ألفه في مصالح الأنام فغيره من باب أوْلى أن يقول به.

والخلاف الذي يقع بين أهل العلم في بعض المسائل التي مردّها إلى مسألة سد الذرائع، إما أنه خلاف راجع إلى خلافهم في بعض شروط العمل بسد الذرائع، وإما أنه خلاف راجع إلى اختلاف نظرهم وفهمهم للمسألة أو للأمور المُحْتَفَّة بها، كما نجد الخلاف عند علماء أهل السنة الذين يوجبون العمل بما صح من الأحاديث في الأحكام الشرعية؛ ومع ذلك نجد الخلاف عندهم في بعض المسائل التي اطَّلعوا كلهم على دليلها؛ وذلك لاختلافهم في بعض شروط الحديث الصحيح؛ فمنهم من يقبل زيادة الثقة إذا لم تخالف رواية من هو أوثق، ومنهم من لا يرى ذلك بل له تقعيد آخر في مسألة زيادة الثقة، أو أن خلافهم راجع إلى فهمهم أو طريقة استنباطهم الحكم من الحديث، مع أن الحديث واحد، والحديث قد اطلع عليه كلا الطرفين.

تنبيه ذكره القرافي: (اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح؛ فإن الذريعة هي الوسيلة؛ فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة) (٣) .

ü إعمال المصالح (٤) :

والمصالح عموماً تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

١ ـ قسم شهد الشرع باعتباره، وهذا لا شك في إعماله؛ لأنه القياس.

٢ ـ قسم شهد الشرع بإبطاله، كالمصلحة الموجودة في الخمر والميسر من متاجرةٍ بها وإنعاشٍ لاقتصاد البلد وجلبٍ للسياح، {قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: ٢١٩] فهذا القسم لا شك في إبطاله.

٣ ـ ما لم يشهد نص معيَّن من الشارع باعتباره ولا بإهماله، وهو ما يسمى بـ (المصالح المرسلة) ككتابة المصحف بعد وفاة النبي #، وعهدِ أبي بكر إلى عمر بالخلافة، وحرقِ عثمان المصاحفَ سوى المصاحف التي كتبها، وتدوين الدواوين، واتخاذ السكة (٥) ، قلت: ومثلها في الوقت الحاضر الأنظمة التي تصدرها بعض الدول محققة لمصلحة الناس غير مصادمة للشرع.

وهذا القسم هو الذي وقع فيه الخلاف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به؛ فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعُبَّاد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع.. وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعاً بناء على أن الشرع لم يَرِدْ بها، ففَّوت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه) (٦) .

وهذا القسم ـ إن قلنا بإثباته (١) ـ نجد أن العمل به موجود في المذاهب كلها، ولكن الإشكال كالإشكال السابق؛ فإنه يوجد من توسع فيه، وأكثرُ من توسع فيه مالك ثم أحمد، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتبار هذا الأصل في الجملة (٢) .

والفقهاء الذين يمنعون العمل بالمصالح المرسلة سيضطرون إلى القول بموجبها عند التطبيق الفقهي وإن سموا عملهم هذا قياساً أو استحساناً أو غير ذلك؛ فالمؤدى واحد، وخذ مثلاً على ذلك إمام الحرمين فقد كاد يوافق الإمام مالك مع مناداته عليه بالنكير (٣) .

وقال القرافي: (المصلحة المرسلة في جميع المذاهب عند التحقيق؛ لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهداً بالاعتبار، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك، ومما يؤكد العمل بالمصلحة المرسلة: أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ عملوا أموراً لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد الاعتبار نحو كتابة المصحف ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير (ثم ساق أمثلة من فعل الصحابة، ثم قال) : وذلك كثير جداً لمطلق المصلحة، وإمام الحرمين قد عمل في كتابه المسمى بالغياثي أموراً وجوَّزها وأفتى بها والمالكية بعيدون عنها، وجسر عليها وقالها للمصلحة المطلقة، وكذلك الغزالي في شفاء الغليل مع أن الاثنين شديدا الإنكار علينا في المصلحة المرسلة) (٤) .

وفي الشروط التي وضعها بعض الفقهاء ـ كاشتراط الغزالي (٥) أن تكون المصلحة كلية قطعية ضرورية ـ تضييق لنطاق العمل بالمصالح قد يؤدي إلى إغلاق باب العمل بها، وعند التطبيق سيكون أوَل التاركين لتلك الشروط مَنْ وضعها.

وعند التأمل في التطبيق الفقهي للمصالح سنرى أن الصحابة والتابعين وأئمة الفقه عملوا بالمصالح وإن اختلفت ألفاظهم في الاستدلال لهذه المصالح، وسبب الخلاف الموجود في كتب الأصوليين يعود ـ كما ذكر بعض الباحثين (٦) ـ إلى عدم تحديد المراد باعتبار الاستصلاح أو عدم اعتباره عند نقلهم للخلاف، وكذلك إلى عدم التثبت في نقل الآراء.

ولا يعني ذلك اعتبار المصالح مطلقاً من دون ضابط، بل لا بد للعمل بالمصالح من شروط:

١ ـ فلا بد أن تكون موافقة لمقاصد الشارع محافظة على الضرورات الخمس (الدين والنفس والعقل والعرض والمال) .

٢ ـ ويُشترَط لها ألا تعارِض دليلاً شرعياً.

٣ ـ وألا تفوِّت مصلحة أعلى منها (٧) .

٤ ـ كما يُشترَط للمصلحة أن تكون حقيقية ـ تجلب نفعاً وتدفع ضراً ـ لا موهومة، فلا بد لها من إطالة النظر والتأمل في جميع الأوجه قبل الحكم بالمصلحة.

٥ ـ ويُشترَط لها أن تكون عامة للناس أو لأكثر الناس، لا مصلحة لفئة معينة من الناس كمصلحة السادة أو التجار على حساب غيرهم (٨) .

ولكن ـ ومع ما سبق ذكره ـ فسيبقى هناك إشكال في تحرير بعض الشروط وفي مجال تطبيق المصلحة. ومن المجالات التي ستكون سبباً للخلاف في بعض المسائل:

ـ التدرج في تطبيق أحكام الشريعة في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية؛ فهل التدرج في الشريعة يعدّ مصادماً للنصوص الشرعية التي أمرت بالعمل بالشريعة جملة وتفصيلاً، فلا بد من الأخذ بالشريعة جملة وتفصيلاً دون الانتقاء منها، والتدرج انتقاء؛ فهو أخذ لبعض الكتاب دون بعض، أم أنه موافق للشريعة التي جاءت أحكام عديدة منها بالتدرج كتحريم الخمر ومشروعية الجهاد؟ وهل الأحكام التي نزلت قبل الهجرة ونزل بعد الهجرة خلافها منسوخة؟ أم أنه يمكن للمسلمين إذا كانت حالتهم قريبة من المرحلة المكية أن يأخذوا ببعض أحكامها؟

ـ ترك بعض الأحكام الشرعية تركاً مؤقتاً مراعاة لمصلحة أعظم: هل يُعَدُّ ذلك مصادماً للنصوص الشرعية، أم يكون هذا الترك كترك قتل المنافقين، وترك حد السرقة عام الرمادة، فيكون مستنداً إلى دليل آخر ولا يعدّ مصادماً للدليل؟ وهذا ما يسميه كثير من الأصوليين بالاستحسان، ولكن حتى مع القول بمشروعية ذلك، ما ضوابطه؟

ـ الضرورة والحاجة العامة وتأليف القلوب ومراعاة الأوليات أمور يُعلل بها كثيراً ترك ظواهر النصوص، ولهذه الأمور ما يشهد لها شرعاً، لكن ـ أيضاً ـ هذه الأمور تحتاج إلى ضبط.

ـ أفعال الرسول # منها ما فعله بحكم العادة والجِبِلَّة، ومنها ما فعله من أجل التشريع، والذي فعله من أجل التشريع منه ما فعله لكونه مفتياً، ومنه ما فعله لكونه قاضياً، ومنه ما فعله لكونه إماماً اتبع فيه المصلحة الحالية. وعلى ذلك سيقع خلاف في تفسير بعض الأفعال: هل فعله لكونه مفتياً أم لكونه إماماً؟ ولعل من أوائل القضايا التي وقع فيها الخلاف قسمة الأرض المفتوحة؛ فقد كان النبي # يقسمها، ومع ذلك عمر لم يقسم أرض السواد، وخالفه في ذلك بعض الصحابة.

هذه لمحة عامة عن سد الذرائع والعمل بالمصالح، لم أرد منها الاستقصاء، ولكني أردت أن أبيِّن أن هذين الأصلين أصلان مهمان لا بد أن يفهمها المفتي جيداً ويعمل بهما وفق الضوابط الشرعية دون الالتفات إلى ما يقوله الناس، ومن دون ذلك سيضيع المستفتي بين سد الذرائع والعمل بالمصلحة.

والله أعلم، وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.