للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدعاة بين التحجيم والتأطير]

ماجدة محمد شحاته

مخطئٌ من يظن براءة أي منظومة دعوية من أي عيب، أو خلوها من أي خلل أو دخن، بدءاً من القيادة حتى قاعدة المثلث الهرمي الذي يمثل المنظومة بكل صفوفها؛ إذ إن ذلك يجافي الفطرة وطبائع الأشياء.

قد تتباين الأخطاء والعيوب في كمِّها وحجمها، ولكن تبقى هذه الحقيقة التي لا بد أن نعيها بصدر رحب يتسع لقلم ناقد، وعين ناقدة، ولسان آخذ، أولاً: على مستوى أفراد المنظومة، وثانياً: على مستوى الآخر. فليس هناك من هو مبرأ من العيب، ولا يوجد من هو مكتمل الأخلاق كامل العقل، فمن كلٍّ يُؤخذ ويُرد إلا المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. وليس معنى تكامل المنظومة الدعوية في أن قيادتها، أو صفوفها العليا والدنيا تتساند فيما بينها بحيث يسد كلٌ فراغاً في جانب من الجوانب، حتى تبدو في صورتها النهائية خِلْواً من الخلل والنقص، ليس معناها أن المنظومة تصبح عصيّة على النقد، أو يصبح أفرادها ـ اتكالاً على ذلك ـ فوق النقد والأخذ والرد.

إن المسيرة الدعوية ما لم يسلِّم أفرادها بحقهم جميعاً في التعبير عن رؤاهم الناقدة، وحق الآخر في مؤاخذات نافذة، فإنها بلا شك راكدة؛ وإن ظن الكثيرون أنها تسير بلا معوق ... وأنها ماضية إلى بر أمانها.

وما ركودها إلا لانغلاقها على وجوهٍ بعينها يُطَمِئن بعضهم بعضاً ألا مساس بالدعوة، وهي في مسيرتها إنما تلفظ فاعلية أخرى، ووقوداً فاعلاً لظنها خطر الرأي الجريء، والمبادرة الشجاعة تلفظ طاقات كان لا بد من توظيفها، وإن كان فيها جرأة على رأي، طاقات لا بد من استثمارها لتجري بها دماء جديدة؛ إذ في طموحها علو همة، وفي تصوراتها سمو فكرة، كان يمكن تأطيرها لا تحديدها؛ لتنطلق وفق إطار منظم نحو فكر مبدع وعقل محلق، ففرق كبير بين التحديد والتأطير، الأول: منطلقه العداء النفسي لطاقة متميزة يراد لها أن تخمد، فلا يكون لها وجود يفرض نفسه.

والثاني: يثق بنفسه، ولا يهمه إلا أن تتسع دائرة المشاركة، وأن يصبح الجنود جميعاً بخصال القواد وملكاتهم، لذا فهو يريد للطاقة أن تؤطر فلا تنحرف، يريد لها أن تنطلق بلا نزق أو تهور، يريدها أن تعلو في غير جنوح يُردي، أو طموح إلى فساد واستعلاء قد يُفضي إلى خسار.

٣ التحديد: إيقاف للمد؛ لأنه على غير الرغبة، والتأطير: إطلاق للمد على عين تبصر، ووعي يرقب ويوجه.

٣ التحديد: إعلان عن إفلاس فكري وعقلي وأخلاقي، والتأطير: بيان عن سمو نفسي يرجو الخير للناس جميعاً.

٣ التحديد: انغلاق على الفكرة من غير تجديد، والتأطير: انفتاح من غير تحديد.

٣ التحديد: يؤدي إلى التهميش، ورفض الآخر؛ وربما قتله واغتياله معنوياً، والتأطير: يؤدي إلى التفريخ، واستقطاب الآخر، وربما استعماله واستمالته.

٣ التحديد ركود بالمنظومة حتى تتوقف فلا تجد من يحركها، فإذا حُرّكت احتاجت إلى جهد كبير لا يملكه ساعتها ولو آحاد من أفرادها.

٣ التأطير سير بالمنظومة هادئ متزن، قد يكون بطيئاً؛ لكنه أكيد في فاعليته؛ إذ يضم كل يوم كل ذي طاقة متميز. وبينما يعالج الخلل ويرسخ قيم الاستعلاء على النفس والذات نجد التحديد لا يعترف أو يقر بخلل، فهو يعمق الغرور من خلال ثقة كاذبة بفكرة مبهرة لكنها حُملت على أكتافٍ ظنت أنها وحدها الجديرة بها، وما سواها إنما يريد بها شراً، وما تدري أنه في مرحلةٍ ما لن تجد أكتافاً أخرى فلا تندثر؛ لأنها بالفعل مبهرة؛ إذ يلتقطها مؤمن بها، فيبعث فيها الروح من جديد وفق ضوابط أخرى، ومنهجية أكثر سعة، وأكثر إيماناً بجدوى المشاركة وتفعيل الطاقات بعيداً عن الخصوصية وحب الاحتكار.