للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[هل نستفيد من أخطائنا..؟!]

تباينت مواقف الإسلاميين إزاء الأزمة اللبنانية تبايناً واضحاً، سواء أكان هذا التباين في توصيف وتكييف الواقع السياسي، أم في الموقف الشرعي منه. وقد بيّنا في مجلة البيان رؤيتنا في هذه القضية في افتتاحية العدد السابق (*) . لكن هذا التباين كشف عن عمق الشرخ الذي تعاني منه الصحوة الإسلامية؛ فالاختلاف في الآراء أدى في بعض المواقع إلى التهارش والبغي وتسفيه الآخرين، وظهر في هذه الفترة سيل من الحوارات والمقالات المتشنجة المتوترة التي تغلِّب جانب الهجوم والاتهام. وربما أثر ذلك على بعض الأصوات الهادئة المنصفة التي تزن الأمور بموضوعية وحكمة.

وعندما ترتفع الأصوات، وتتشنج النفوس، تصبح قدرة الإنسان على رؤية الحقيقة ضعيفة جداً؛ فلا المصيب يكون قادراً على إقناع إخوانه بوجه الصواب عنده، ولا المخطئ يكون قادراً على إدراك الخطأ والنظر فيه بعين البصيرة والإنصاف.

وفي ظل هذه الأجواء القلقة المشحونة قد يضطر بعض العلماء وأهل الرأي إلى مجاراة الجماهير والاستسلام لعاطفتهم المحدودة التي لا تقوى على رؤية الحدث بعين البصيرة، فضلاً عن قراءة جذوره وخلفياته واستشراف مستقبله، فيكون العالم صورة لرأي الجماهير والأتباع.

وفريق آخر من العلماء وأهل الرأي لما رأى اندفاع الجماهير وحماسهم، ورأى اضطراب الناس واختلافهم، آثر الانكفاء والانسحاب ظناً منه أن العزلة في مواطن الفتن هي الحل بإطلاق، ونسي أن بيان الحق بدليله والصبر على الأذى فيه من أوجب واجبات أهل العلم والدعوة. قال الله ـ تعالى ـ: {وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: ١٨٧] .

وبين هؤلاء وأولئك قلة قليلة من العلماء وأهل الرأي قائمة بالحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.

ومن المحزن حقاً أنه بعد كل نازلة تعصف بالأمة يزداد تفرقنا وتنازعنا، وبدلاً من أن تقودنا تلك العواصف للتآلف والتكاتف، أصبحت تدفعنا إلى البغي والتطاول.

إن الاختلاف في الاجتهادات منه ما هو سائغ لا حرج فيه، ومنه ما هو مذموم لا خير فيه، وفي كثير من الأحيان يختلط عند بعضنا السائغ بالمذموم، ولا نحسن تحرير محل النزاع، فتستحكم الأزمة، ويتجذر التعصب في صفوفنا.

أما وقد هدأت العاصفة الآن نسبياً، وسكنت النفوس، فيحسن بنا أن نذكِّر أنفسنا وإخواننا من جميع الاتجاهات الفكرية والحركية بمسألتين مهمتين:

\ المسألة الأولى: تعظيم ميزان الشرع:

فمن نافلة القول التأكيد على أن المعيار الذي توزن به الاجتهادات والآراء هو معيار الشرع المطهر؛ فكل شاردة أو نازلة تمر بها الأمة يجب أن يُحْتَكَم فيها إلى الكتاب والسنة. قال الله ـ تعالى ـ: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: ٥٩] . وما أجمل قول الإمام الشافعي: «ليس تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة، إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها» (١) .

ولا يجوز بحال أن يكون الموقف السياسي بمعزل عن النص الشرعي، وعندما يفقد الدعاة والمفكرون هذا الإطار المرجعي فإن حالة من الارتباك والاضطراب سوف تطغى على الواقع وتقفز إلى السطح، كما هو حاصل الآن. قال الإمام الشاطبي: «ولقد زلّ بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادّة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم؛ فضلوا عن سواء السبيل» (٢) .

وبالتأكيد لا نقصد في هذا السياق الغفلة عن دراسة الواقع السياسي بكل أبعاده وأطرافه الإقليمية والدولية؛ فهذا أمر ضروري، ولكننا نؤكد على أهمية التلازم بين معرفة حكم الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ومعرفة الواقع الذي يراد تطبيق حكم الله فيه (٣) .

إن ثمة حقيقة جديرة بالتأمل والتدارس وهي أن الرؤية السياسية الشرعية المنطلقة من مُحْكَمات الكتاب والسنة أصبحت غريبة، نعم! غريبة؛ فكم رأينا من بعض إخواننا من الإسلاميين من يستهين أحياناً بالنص الشرعي ـ بلسان الحال ـ ولا يجعله معياراً لقراءة الواقع، ولا حَكَماً يستسلم لحدوده، ولا نقصد ها هنا ما حدث في الأزمة اللبنانية من اختلاف فحسب، بل نراه في مشروعنا السياسي برمته.

والعجيب أن بعض الإسلاميين ظنَّ أن النصوص الشرعية في الجانب السياسي قليلة جداً، ثم جعل الأصل في المعاملات السياسية هو الاعتماد على تقدير المصالح والمفاسد فحسب، وبنى ذلك في معزل عن الضوابط والقواعد العلمية التي حررها علماء أصول الفقه!

\ المسألة الثانية: الوحدة الإسلامية المنشودة:

إن الوحدة الإسلامية مطلب مهم تتعلق به أفئدة جميع المسلمين، خاصة عندما يظهر تنازعهم واختلافهم من جهة، وتكالب الأعداء عليهم من جهة أخرى.

وما كانت الأمة في وقت من الأوقات بحاجة إلى الوحدة كما هي الآن، ولهذا يجب على العلماء والدعاة والمربين أن يؤكدوا على أهمية الوحدة الإسلامية، ويرسموا الرؤية العلمية والعملية التي تبني ذلك في جميع أقطار المسلمين، ليتحول الخطاب العاطفي إلى خطاب عملي يتجسد في واقع الحال.

ولن يتحقق هذا المطلب إلا بإقامة الدين والاعتصام بحبله المتين، كما تواترت بذلك النصوص. قال الله ـ تعالى ـ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}

[الشورى: ١٣] .

وقال ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: ١٠٣] .

والعجيب أن بعضنا عندما طرح هذه القضية وقع في مشكلتين:

المشكلة الأولى:

التهوين الشديد من شأن الخلاف بين السُّنَّة والشيعة، لدرجة أن بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة زعم أن ذلك خلاف تاريخي عفَّى عليه الزمان، وحصل لظروف وصراعات سياسية، ثم سعى المتعصبون من الطرفين إلى إلباسها لباس الخلافات العقدية والمنهجية، وهؤلاء يطالبون بتجاوز الماضي ونسيانه..!

وعلى الرغم من الخطأ العلمي الفادح في هذا الرأي، إلا أننا ـ جدلاً ـ لو تناسينا الماضي السياسي أو الانحراف العقدي لقدماء الشيعة؛ فماذا نقول فيما يحدث الآن على أرض الواقع، بعيداً عن عقيدة التقية أو المزايدة السياسية؟!

إن المتابع البصير للقنوات الفضائية الشيعية في العراق خصوصاً، وللمجلات والجرائد ومواقع الشبكة العالمية، وخطابات المراجع العلمية الشيعية، يصاب بالذهول والحيرة للكمِّ الهائل من العقائد المنحرفة في الأصول والفروع على حد سواء، ويدرك حجم الاختلاف معهم في مصادر وطرق الاستدلال والتلقي والاستنباط، ويعجب المرء أشد العجب من جرأتهم على كتاب الله ـ تعالى ـ وفحشهم في تجريج وذم الصحابة الكرام ـ رضي الله عنهم ـ فكيف يمكن أن نتجاوز ذلك؟! وهل يصح أن يقال: إن خلافنا معهم خلاف تاريخي ذهب وقته؟!

وقد أحسن فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حينما بيَّن هذا الانحراف في عقيدة الشيعة في محاضرته الأخيرة في نقابة الصحفيين بمصر.

أما العداء السياسي فقد أضحى الآن حقيقة مدوية لا يتجاهلها إلا مكابر؛ فها نحن نرى دماء أبناء السُّنَّة وأعراضهم في العراق تُنتهك جهاراً، ونرى العلماء والدعاة وخطباء الجوامع من أهل السنة يُسْحَقون بدم بارد، ويهجَّرون من ديارهم وقراهم بكل صلف وجبروت!

فواعجباً! هل يظن ظانٌ بعد ذلك أن خلافنا معهم خلاف تاريخي..؟! أو أن الشيعة قد تغيروا؟!

ولهذا نقول بكل وضوح وصراحة: إنَّ التحذير من الشيعة ليس دعوة عصبية أو طائفية، وليس مناقضاً للأصل الشرعي في الدعوة لوحدة الأمة الإسلامية؛ بل نعتقد أن بيان ذلك من مقتضيات الوحدة الواجبة، خاصة أننا نشهد الآن اختراقاً شيعياً ملحوظاً لمناطق السُّنَّة تجاوز دول الأطراف الإسلامية في أفريقيا وأندونيسيا ونحوها، إلى دول العمق الإسلامي في مصر والسودان وسورية وغيرها.

فهل يعي العلماء والدعاة تبعات هذه المرحلة..؟!

المشكلة الثانية:

هي الحماس الزائد في الكلام عن الوحدة والتقارب من الشيعة مع التجاهل الواضح للوحدة أو التقارب مع بقية فصائل أهل السنة، مع أن الخلاف بين فصائل السنة أهون بكثير من الخلاف مع الشيعة؛ فالتفرق واضح في صفوف أهل السنة، وهم أوْلى بنداء الوحدة في وقت النوازل، ونحسب أن تفرقهم من أعظم ما ابتلي به المسلمون اليوم.

والرزية كل الرزية أن يصاب الدعاة والمصلحون وأبناء الصحوة الإسلامية بهذا الداء العضال، ويتجذر في صفوفهم، ثم لا نجد دعوات ومبادرات عملية جادة لرأب الصدع، ولمِّ الشعث، وتقريب وجهات النظر..!

وليس من الشرع، بل ولا من العقل، أن نرى الحزبية البغيضة والتنازع الدعوي يضربان بجذورهما في أعماقنا التربوية والحركية، ثم نقف مكتوفي الأيدي لا نحرك ساكناً، بل ربما يسهم بعضنا في زيادة الشقة بين الدعاة، ويثير كوامن التعصب والتنازع.

من السهل جداً أن ندعو إلى الوحدة الإسلامية، لكن المهم هو أن يكون ذلك بفقه وبصيرة، وأن نزرع في نفس المسلم ولاءه ومحبته لإخوانه المسلمين، ويكون ذلك جزءاً من تكويننا التربوي والعلمي.

والأخلاق ليست صوراً وعظية باردة تُستخرَج من بين صفحات الكتب، بل هي ممارسة عملية حية تظهر في سلوك العلماء والدعاة وأهل الرأي ممَّن يُقتدَى بهم. وإذا كان أبناء الصحوة الإسلامية ـ الذين هم صفوة الأمة ـ لم يحسنوا بعدُ بناء صفوفهم؛ فكيف نتطلع إلى وحدة شاملة للأمة بما فيها من أمراض ومشكلات..؟!

ونحسب أن من أهم الدعائم الأساسية لرأب الصدع وتقليل هوَّة الاختلاف والنزاع: إحياء ثقافة التناصح بين الدعاة والعاملين في الحقل الإسلامي، تحقيقاً لقول الله ـ عزَّ وجلَّ ـ: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: ٣] .

والنصيحة الصادقة ليست باباً من أبواب التشهير أو التشفي أو الاعتداء على حرمات الآخرين.

النصيحة المخلصة ليست لوناً من ألوان الاستعلاء أو التعالُم على المخالفين.

النصيحة الصادقة المخلصة لا تكون إلا بالرحمة والإحسان، وتجريد القصد لله ـ تعالى ـ وحده لا شريك له؛ إنها آية من آيات المحبة يُسَدُّ بها النقص، وتصحَّح بها المسيرة، وتأتلف بها القلوب، وتتوحد عليها الصفوف.

وإذا كانت كذلك؛ فلن يستنكف طلاب الآخرة عن قبولها، بل يفرحون بها، وما أروع كلام الحسن البصري ـ رحمه الله ـ عندما قال: «قد كان من كان قبلكم عن السلف الصالح يلقى الرجلُ الرجلَ فيقول: يا أخي! ما كلَّ ذنوبي أُبْصِرُ، ولا كلَّ عيوبي أَعرفُ؛ فإن رأيتَ خيراً فمُرْني، وإذا رأيتَ شراً فانهَني» (١) .

اللهم وحِّد صفوفنا على السُّنَّة، واجمع قلوبنا على الطاعة!

وصلى الله على محمد وآله وسلم.


(*) والتي كانت تحت عنوان (عندما تذهب السكرة وتجيء الفكرة) ، العدد ٢٢٨.