للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدولة المدنية صورة للصراع]

بين النظرية الغربية والمحكمات الإسلامية

(٢ـ٢)

محمد بن شاكر الشريف

تحدث الكاتب ـ وفقه الله تعالى ـ في الحلقة الماضية عن الدولة المدنية في التراث الإسلامي وفي التراث الغربي، وبيّن الاتجاهات الموجودة

٣ عناصر الدولة المدنية:

لو كان لنا أن نتجاوز ما تقدم كله، وندخل في التفاصيل بعيداً عن الوقوف عند حد التعريفات؛ فما عناصر الدولة المدنية؟ وما علاقة ذلك بالإسلام؟

يدور الحديث عن عناصر الدولة المدنية حول عدة محاور تقول: «فطبيعتها تتلخص في وجود دستور يعبر عن قيم ومعتقدات وأعراف المواطنين في الدولة، وفي الفصل بين السلطات الثلاث الآنفة الذكر (١) ، وفي اكتساب الحقوق على أساس المواطنة، وعدم التمييز بين المواطنين لا بسبب المذهب أو الطائفة أو الثقافة أو العرف، وفي كفالة حقوق الإنسان والحريات الأساسية، واحترام التعددية والتنوع» (٢) .

من خلال ما هو مطروح من المداخلات والمساجلات يتبين أن هناك عدة عناصر، منها:

وجود دستور مكتوب: والدستور هو أعلى وثيقة قانونية في الدولة وهو المرجعية النهائية لجميع القوانين والأنظمة؛ فكل ما خالفه من أفعال أو تصرفات فهي موصوفة بالبطلان المطلق، وكل قانون أو تنظيم يُسَن مخالفاً للدستور، هو باطل ولا تترتب عليه النتائج التي تغيَّاها القانون أو التنظيم، وكل ما خالف الدستور فيجب نقضه وإلغاؤه.

وقد يختلف الناس في شأن تدوين دستور، وهل هناك حاجة إلى ذلك لتحديد الحدود والالتزامات والحقوق والواجبات بين مختلف فئات المجتمع، وتحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أم يُكتفى بما هو موجود في النصوص الشرعية؛ وبما هو موجود في القضايا الاجماعية، والمعلوم من الدين بالضرورة؛ لوضوحه في الدلالة على ما يراد منه.

والخلاف في ذلك سائغ وهو خلاف في الفقهيات وليس في العقائد، يحكم عليه بالصواب أو الخطأ، ولا يحكم عليه بالحق أو الباطل، أو بالإيمان أو الكفر، ولا يمكن أن يُمنع الخلاف في ذلك بين الناس إلا في ظل القهر والاستبداد، وليس هذا هو جوهر القضية، وإنما جوهر القضية: ما الأساس الذي يُدَوَّن عليه الدستور إذا قيل بتدوينه؟ هل هو الكتاب والسنة وما دلاَّ عليه بوجوه الدلالات المعتبرة، وَفْق القواعد الشرعية المنضبطة، أو الأساس هو العقل والمصلحة، والخبرة والتجارب؟ لا شك أن الخلاف في هذا غير سائغ، وهو خلاف عقدي يحكم عليه بالحق أو الباطل أو بالإيمان أو الكفر، وليس خلافاً فقهياً يحكم عليه بالصواب أو الخطأ.

٣ إمكانية تداول السلطة:

المراد بالسلطة في هذا الكلام (الحكومة) بما لها من حقوق وما عليها من واجبات وتبعات، وهي بلا شك في كل الأنظمة سواء الإسلامية وغير الإسلامية لها شروط ومواصفات، ينبغي تحقيقها والتحلي بها، والمشكلة لا تكمن في تداول السلطة؛ فقد قال عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ الخليفة الثاني: «إِنِّي إنْ شاءَ اللَّهُ لَقائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي الناسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤلَاء الَّذِين يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ.. ثم قال عندما قدم المدينة: مَن بَايعَ رَجُلاً عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فلا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلا» (١) ؛ فعمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ يبين أن البيعة، أي تولية السلطة، لا تكون إلا بمشورة المسلمين، ويحذر الناس ممن يبايع من غير مشورة، ويبين أن هذا غصب لأمور الناس، ثم يبين أن من فعل ذلك فلا ينبغي مبايعته هو أو الذي بايعه، وقد قال ذلك في المدينة النبوية في خطبة الجمعة أمام الصحابة كلهم بمن فيهم من الفقهاء والعلماء، فلم يعترضه أو ينكر عليه أحد، فدل ذلك على أن هذا هو المعروف لديهم.

وعندنا من الواقع العملي أن السلطة تولاها بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر وهو من بني تيم، ثم تولاها عمر وهو من بني عدي، ثم تولاها عثمان وهو من بني العاص، ثم تولاها علي وهو من بني هاشم ـ رضي الله تعالى عن الجميع. فالسلطة انتقلت وتداولها المسلمون وَفْقَ الشروط والمواصفات التي دلت عليها الأحكام الشرعية، ولم يحتكرها أحد ويقصرها على نفسه. لكن ليس من معنى تداول السلطة أن يُحدَّد وقت معين لولي الأمر يفقد بها صلاحيته لولاية الأمر حتى يجدد اختياره من جديد.

والمشكلة الجوهرية مع أنصار الدولة المدنية في هذه المسألة تكمن في الشروط والمواصفات التي ينبغي توافرها فيمن يُولَّى الأمر، وليس في تداولها؛ فهل من شروط الحاكم عندهم أن يكون مسلماً، أم يجوز أن يكون كافراً شقياً ما دام أنه يتمتع بصفة المواطنة؟ وهل يشترط عندهم أن يكون صالحاً تقياً، أم يجوز أن يكون فاسقاً عصياً لرب العالمين؟ وهل يشترط عندهم أن يكون رجلاً أم يجوز أن تكون امرأة؟

لكن أهمية الحديث عن تداول السلطة عند كثيرين تنبع من أن السلطة في عرفهم صارت مغنماً من المغانم وليست مغرماً، لذلك يطالبون بنصيبهم من هذا المغنم، ورضي الله ـ تبارك وتعالى ـ عن عمر عندما رَفَضَ أن يعهد بالأمر من بعده لابنه عبد الله، وقال: لا أتحملها حياً وميتاً. والتداول لا يمثل قيمة جوهرية في الفقه السياسي الإسلامي، وإنما القيمة تكمن في قدرة ولي الأمر على القيام بمهامه على الوجه الأحسن؛ فإذا كان ولي الأمر قائماً بما يجب عليه، محققاً للمقصود من نَصْبِه من غير إخلال أو تقاعس عن القيام بمهامه وواجباته، فليس هناك معنى معقول لإخراجه عن السلطة بزعم تداولها. وفي الجهة المقابلة فإنه متى تقاعس ولي الأمر عن القيام بواجباته، ولم يكن نَصْبُه محققاً للغرض المقصود منه فإن الشريعة لا تأمر بالإبقاء عليه واستمراره في منصبه، بل يوعظ وينصح ويوجَّه؛ فإن استقام وإلا فالعزل طريقه.

٣ الاعتراف بالآخر:

ما المراد بالاعتراف به؟ الاعتراف بوجوده، أم الاعتراف بحقوقه التي كفلتها له الشريعة، أم الاعتراف بواجباته التي أناطتها به الشريعة، أم الاعتراف بأنه على دين يخالف دين الإسلام، أم الاعتراف بأن له الحق في أن يدعو بين المسلمين إلى دينه، وأنه يحق له إقناعهم بالتحول إليه؟

ونقول: الاعتراف بالموجود لا حاجة له؛ فنفس وجوده دليل عليه، وهذا من البدهيات لا يحتاج إلى اعتراف. وأما الاعتراف بحقوقه وواجباته وفق الشريعة فلم يعارض في ذلك أحد ممن يؤخذ عنه العلم، ولا ينبغي أن يعارض في ذلك أحد. وأما الاعتراف بأنه على غير دين الإسلام فهذا من أساسيات الإسلام؛ فكل من لم يشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو على غير دين الإسلام.

ما بقي إلا شيء واحد وهو أن يكون الاعتراف بالآخر يعني الاعتراف بحقه في أن يدعو المسلمين إلى دينه، أو أن يُمكَّنوا من بناء أماكن لعبادتهم (٢) في أمصار المسلمين التي لم يكونوا بها من قبل، بل مصَّرها المسلمون. لكن نحن نسألكم: هل هناك أدلة تدل على ذلك؟ وإذا لم تكن هناك أدلة تدل على ذلك، بل كانت الأدلة تدل على عكسه، كانت المطالبة به على أساس أنه من مواصفات الدولة المدنية، قدحاً في تلك الدولة؛ لأنها تقوم على مخالفة الشرع.

٣ قبول الديمقراطية:

وقد تقدم الحديث عنها في مقال سابق فلا مسوغ للإعادة (١) ، لكنا نقول: لقد أثبتت حوادث الأيام أن الديمقراطية في تلك الدول التي تزعم ريادتها في هذا المجال مجرد شعار أجوف؛ فلقد شنت أمريكا الدولة الديمقراطية ومعها بريطانيا الدولة الديمقراطية أيضاًً، وبالتحالف مع عدة دول ديمقراطية أيضاًً، حرباً ظالمة على العراق بزعم وجود أسلحة دمار شامل في ذلك البلد، ثم تبين بعد ذلك أن هذه الأخبار كانت ملفقة؛ حتى إن وزير الخارجية الأمريكي السابق (كولن باول) اعترف بذلك؛ فماذا كانت النتيجة: هل اعترفت أمريكا وبريطانيا وذيولهم بالخطأ، وندموا على ما فعلوا وقدموا تعويضات لهذا الشعب الذي قتل منه بسبب هذه الحرب الهمجية أكثر من مائتي ألف مواطن؟

لقد اعترضت طوائف كثيرة من شعوبهم على تلك الحرب غير الأخلاقية فما أصغوا إليهم، ثم أين سيادة القانون التي يدعونها، وهم قد خالفوا القانون الدولي الذي يلزمون به الدول الأخرى، وذلك بالتدخل في شؤون دولة مستقلة من غير تفويض من (المجتمع الدولي) بذلك؟ والأغرب من ذلك أن الأمم المتحدة نفسها قامت على أساس غير ديمقراطي؛ حيث هناك خمسة دول كل دولة منها تملك تعطيل أي قانون أو مشروع حتى لو وافقت عليه دول العالم كلها؛ فأين الديمقراطية في ذلك؟ أم أنها احتكار للقرار الدولي؟ فلو وضع صوت دولة من هذه الدول في كفة وبقية العالم في كفة لرجحت كفة هذه الدولة؛ فما أشد هذا الظلم وأقساه على النفوس الأبية! وكم ذقنا من مرارته كثيراً! فها هم اليهود يعتدون على إخواننا الفلسطينيين ويقتلون منهم في سيناريو شبه يومي؛ فلو قدر أن ضمير العالم صحا لهذا الظلم الشنيع، وأخذ قراراً بالإدانة، مجرد قرار، لا يترتب عليه شيء في الواقع، لوجدنا أمريكا تعترض عليه، بما لها من هذا الحق غير (الديمقراطي) فيصبح كأنه لا شيء.

٣ الحفاظ على حقوق الإنسان:

الناس لهم حقوق كثيرة كفلتها لهم الشريعة ينبغي أن يُمَكَّنوا منها، ولا يجوز لأحد أن يحول بينهم وبين حقوقهم التي منحها الله لهم، ولا يفعل ذلك إلا جبار عنيد؛ فالحقوق ممنوحة من الله ـ تعالى ـ لم تمنحها الطبيعة ولم يمنحها الحاكم، وفي هذا أعظم صيانة لهذه الحقوق، ومن هذه الحقوق أن الكافر لا يُكْرَه على الدخول في دين الإسلام، بل يُعرَض عليه الإسلام؛ فإن قَبِلَه ونطق الشهادتين دخل في الإسلام، وإن أبى وأصر على البقاء على دينه فلا يُكرَه ولا يجبر على تغييره، وكل ما يُطلب منه في هذه الحالة أن يفي بعقد الذمة الذي بينه وبين الدولة المسلمة ولا ينقضه، وهذا أمر مقرر، وكل ذلك لا خلاف عليه بيننا وبين من يقبل به سواء كان من أدعياء الدولة المدنية أم من غيرها.

لكن هل من الحقوق أنه يجوز للمسلم أن يغير دينه إلى اليهودية أو النصرانية أو إلى لا دين؟ هذا محل خلاف بيننا وبين دعاة الدولة المدنية، هم يرون ذلك حقاً له، وأنه لا حد في الردة، وأن المرتد هو الشخص الخارج على النظام؛ فهذا الذي يجب قتله. ومن غير كبير خوض في التفاصيل فإن كل مسألة من تلك المسائل قد يستغرق الكلام فيها حيزاً كبيراً، فنقول: أنتم لستم أول المسلمين، ولا أنتم صحبتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفقهتم عنه، كما أن الإسلام لم يكن معطلاً قبلكم حتى جئتم أنتم تطبقونه، فخبِّرونا مَن مِن أهل العلم الذين يُرجَع إلى أقوالهم عند الخلاف قال بهذا القول؟ فإذا لم تستطيعوا ـ ولن تستطيعوا ـ أن تثبتوا أن أحداً من أهل العلم بدين الله ـ تعالى ـ قد سبقكم بما تقولون، فقد أحدثتم في دين الله ـ تعالى ـ وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وهو حديث متفق عليه أخرجه الإمامان البخاري ومسلم وغيرهما من أهل الحديث، وفي رواية: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً ليس عليْه أَمْرُنَا فهو رَدٌّ» .

على أن هناك حادثتين تتعلقان بهذا الموضوع يحسن بنا إيرادهما تُبينان أن الكلام على حقوق الإنسان والدندنة حولها ليس في حقيقته أكثر من تمكين فئات الأقلية من التحكم في الأكثرية، تحت ضغط الدول المدنية الكبيرة وتأثيرها على متخذي القرارات في الدول الضعيفة؛ فقد حدث أن امرأة نصرانية في مصر اهتدت إلى أن الإسلام هو دين الحق فأسلمت، لكن الذين يتكلمون عن حقوق المواطنة هاجوا وماجوا ومن ورائهم ضغط الدول المدنية الكبيرة حتى سَلَّمت الدولة المصرية المرأة المسلمة إلى الكنيسة لتعتقلها داخل الدير، وقد يضغطون عليها هناك تحت ظروف الاعتقال فيردونها إلى الكفر مرة أخرى، فجعلت منها دولة داخل الدولة، ولم نسمع أي نكير من أي دولة مدنية كبيرة أو صغيرة على هذا الاعتداء الصارخ على حقوق الإنسان، ولو قارنت هذا بما حدث من رجل أفغاني ارتد عن دين الإسلام حينما قُدِّم للمحاكمة، كيف قام العالم النصراني كله يدافع عن حقه في اختيار الدين الذي يريده، وأن محاكمته على اختياره هو اعتداء على حقوق الإنسان، وضغطوا على حكومة ذلك البلد حتى خرج في أقل من ثمانية وأربعين ساعة من أمام المحكمة التي يحاكم بها، ليسافر معززاً مكرماً لاجئاً إلى بلد نصراني.

٣ السماح بالحريات:

الحرية مطلب تحرص عليه النفوس الأبية التي تأنف أن تكون ذليلة أو تابعة لبشر مثلها، ولا ينبغي أن يُحْجَر على الإنسان ويمنع من حريته التي كفلتها له الشريعة. لقد كان الاختلاف المذهبي أحد أبرز مظاهر حرية الرأي عند المسلمين؛ فرغم أنه خلاف في فهم الدين والعمل، فإنه لا جبر ولا إكراه على القبول برأي لا يرضاه الإنسان، ولكل إنسان الحق في الاحتفاظ برأيه والعمل به ما دام رأيه لا يصادم النصوص الشرعية ولا يخالف القواعد المرعية، ويحق للمسلم التمسك برأيه ولو كان في مواجهة رأي الخليفة، وهناك نماذج وأمثلة كثيرة حدثت في تاريخ المسلمين.

فالخلاف في الرأي والتصورات ظاهرة إنسانية لا يمكن نفيها ولا القضاء عليها، والخلاف ليس مقصوراً على المسلمين؛ فكل أصحاب المذاهب الأخرى يختلفون، ولكن بفارق مهم جداً وهو أن المسلمين لهم مرجع يرجعون إليه جميعاً، يكون لهم ضابطاً يعصمهم من تحول الخلاف في الرأي إلى افتراق وتشتت بين أفراد الأمة وانقسامها إلى طوائف وشيع وأحزاب؛ بعكس المذاهب الأخرى؛ فليس لهم مرجع يرجعون إليه غير ما تهديهم إليه عقولهم وغير ما يظنون منفعته وفائدته، وهذا من شأنه أن يجعل الإنسان متقلباً لا يستقر على رأي أمداً طويلاً، بسبب قصور علم الإنسان وجهله؛ فما كان حقاً وصواباً عندهم اليوم قد يرونه غداً خطأً وضلالاً (١) ، لكن: هل من حرية الرأي أن يعيب المسلم أو غير المسلم الدين ويقدح في الشريعة؟ فالمسلم مطالب بأن يعظِّم شعائر الله، وأن يعظم حرمات الله؛ فمخالفة ذلك ليس من حرية الرأي، بل من الخروج على الدين الذي ينبغي أن يحاسب عليه مَنْ فَعَلَه، وهل من الممكن تحت زعم عدم التضييق على الإبداع والمبدعين أن يترك لهم الحبل على الغارب فيعيثوا في أخلاق الأمة وعقيدتها وشعائرها فساداً؟ وأما غير المسلم فلا يطالب بذلك مثل المسلم؛ فإن عدم إسلامه يعني طعنه في دين الإسلام، لكن لا يُقبل منه إظهار ذلك بين المسلمين، والإعلان به، أو الدعوة إليه.

وهكذا لو ذهبنا نعدد كثيراً من تلك الأمور التي يعدونها من عناصر الدولة المدنية؛ فقد لا نجد اختلافاً عند الكلام المجمل، ولكن المحك الحقيقي عند ذكر التفصيلات حيث يظهر الاختلاف؛ فمثلاً مَنْ مِنَ الناس لا يريد العدل ولا يطالب به؟ لكن ما هو العدل؟ هذا يختلف باختلاف كل أمة؛ فما يكون عدلاً عندك قد يكون ظلماً عند الآخرين؛ فأمريكا اليوم مثلاً ترى من العدل والحق أن يقوم اليهود بضرب الفلسطينيين في غزة بالطائرات والمدافع من أجل فك أسر جندي يهودي مأسور، بينما ترى أن محاولة الفلسطينيين فك أسراهم من الظلم الذي ينبغي أن يعاقبوا عليه.

وبكلام مجمل: نقول لدعاة الدولة المدنية والمبشرين بها:

ـ هل ما تذكرونه عن الدولة المدنية من حيث معناها وعناصرها، دل عليه ديننا وشريعتنا بأي نوع من الدلالات المعتبرة عند أهل العلم؟ فإن قلتم: نعم دل على ذلك! قلنا: أين هي النصوص التي تتحدث عن ذلك وما وجه دلالتها؟ وإن قلتم: لم تدل على ذلك النصوص وإنما دلت على خلافه، قلنا: لا حاجة لنا فيما يخالف شرعنا. وإن قلتم: إن النصوص لم تدل على اعتباره كما أنها لم تدل على إلغائه، فاجتهدنا نحن في ذلك من باب المصالح المرسَلة، قلنا: لستم أنتم من أهل الاجتهاد؛ فليست لكم أية دراسات مقدرة في الشريعة، وكل علم له رجاله المتخصصون فيه، وهذه بدهية من بدهيات العلوم، ومن تكلم في غير فنه أتى بالأعاجيب. وإن قلتم: نحن لا يعنينا الاتفاق أو الاختلاف مع الأحكام الشرعية، والذي يهمنا هو ما نرى فيه المصلحة، قلنا: إذن؛ فقد خلعتم بذلك ربقة الإسلام من أعناقكم.

ـ أنتم في ظاهركم تقرون وتعترفون أن الله ـ تعالى ـ هو خالق هذا الكون العجيب بسماواته العظام وأراضيه الشاسعة، وخالق الحياة كلها، والذي أحكم هذا الكون إحكاماً يحار فيه أولو الألباب، مقرين بعلم الله ـ تعالى ـ وحكمته وعظمته، أفتستكثرون على الله ـ تعالى ـ أن ينزِّل على عباده ما يهديهم في شؤون حياتهم، أم تظنون أن الله ـ تعالى ـ خلق الخلق ورزقهم من المال والبنين، ثم تركهم يديرون حياتهم بغير هداية منه ورشاد؟ ألم يقل الله ـ تعالى ـ منكراً على من يريد أن يستقل ويضع بنفسه ما يحكم به مجتمعه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: ٥٠] .

ـ ما الذي يدعوكم للمطالبة بالدولة المدنية، وما الذي يحملكم على التضحية بدين الأمة، وما المكاسب التي ترونها في التمسك بالدولة المدنية، وهي ليست في الدين؟ وهل هناك ما يدعو إلى استخدام هذا الاسم المشتمل على قضايا مقبولة، وقضايا تتعارض مع الدين؟ ولماذا العدول عن اسم الدولة الإسلامية أو الشرعية أو الدينية؟ ما الذي تنقمونه من هذه التسمية، هل تشتمل على قضايا غير مقبولة؟ إن كانت هناك ممارسات غير مقبولة وقعت من بعض المسلمين أو حكامهم؛ فهل هي مقبولة إسلامياً؟ بمعنى آخر: هل هي من نواتج التمسك بالإسلام أو من نواتج البعد عنه والخروج عليه؟ وإذا كانت من نواتج البعد عنه والخروج عليه؛ فلماذا تلصقونها به، وتحمِّلونه ما هو منه بريء؟

ـ هناك من يحاول أن يبين أن الدولة المدنية هي دولة المؤسسات، وأنها لا تعارض الدين ولا تعاديه ... إذا قلتم هذا؛ فلماذا تأبون وصفها بدولة إسلامية أو شرعية أو دينية، ولماذا التركيز على أنها دولة مدنية، وهل كانت الدولة التي أقامها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دولة مدنية أم دولة إسلامية؟ وكذلك الدولة التي أقامها خلفاؤه من بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهلم جراً.

ـ هناك من يقول: نريد دولة مدنية بمرجعية إسلامية، إن هذا القيد في حد ذاته يمثل اتهاماً حقيقيا للدولة المدنية من قِبَل دعاتها؛ فإن هذا الكلام يبين أن المرجعية الدينية ليست من صفات الدولة المدنية ولا من خصائصها وأركانها، وإلا لما احتاج هذا المتكلم إلى إضافة ذلك القيد.

ـ والدولة المدنية لم تمنع السلطة من تفسير القانون حسب ما تهوى، واعتبر ذلك بما حدث من احتجاز أمريكا الدولة المدنية الكبرى لأكثر من أربعمائة مسلم في معتقل بخليج جوانتنامو مخالفة بذلك القانون الأمريكي والقانون الدولي واتفاقيات الأسرى بجنيف، بل وصل الأمر إلى أكثر من ذلك حيث التنصت على مكالمات الأمريكيين أنفسهم دون سند قانوني، وكل ما قدمته الإدارة من تفسير في ذلك أن الوضع خطير، وأنه لا يمكن محاربة الإرهاب إلا بتلك الطريقة؛ وهذه دعاوى لا يعجز أحد عن تقديمها؛ فماذا فعلت الدولة المدنية إزاء ذلك؟

وأخيراً: إن المشكلة الحقيقية التي تحياها مجتمعاتنا لا تحل بمجرد إقرار لفظ أو نفيه؛ فهناك كثير من الدول العربية التي تقول عن نفسها إنها دولة مدنية ولم يخرجها ذلك عن حالة التخلف التي هي سمة لكثير من مثل هذه المجتمعات. إن المشكلة الحقيقية تكمن في انفصال العمل عن القول، وإن كثيراً من النخب الحاكمة تتعامل مع الحكم وكأنه تركة من حقها أن تفعل به ما تشاء، في ظل غياب رقابة شعبية ورسمية حقيقية قادرة على الفعل، ولو ولت النخب الحاكمة وجهها شطر شرع الله ـ تعالى ـ لأفلحت ونجحت، ولقادت مجتمعاتها من حالات التخلف الراهنة في أغلب الميادين، إلى مدارج العُلا. ائتوني على مدار التاريخ الإسلامي كله في البلاد التي حكمها الإسلام، بدولة تمسكت بالإسلام حقاً، ثم لم تكن متقدمة على نظرائها في أغلب المجالات؟!

٣ شبهات والجواب عنها:

من الشبهات التي يعترض بها البعض أن القول بإسلامية الدولة يعني عدم إمكانية سؤال الحاكم أو محاسبته: فيقولون: كون الدولة إسلاميةً أو شرعيةً أو دينيةً يمنع من نقد الحكام عند وقوعهم في الخطأ، ويجعلهم في مكانة عالية لا يقدر أحد على حسابهم؛ إذ كل ما يقولونه فهو تعبير عن الإرادة الإلهية. ونحن نقول لهم: أنتم تتحدثون عن دين غير دين الإسلام، وإلا فائتوا لنا بآية أو حديث يدل على هذا الزعم، أو يمكن أن يستفاد منه هذا الزعم، ثم هذا تاريخ المسلمين: مَنْ مِنَ الحكام ادعى هذه المنزلة؟ ومَنْ مِن أهل العلم قال بشيء مثل ذلك؟ وأمامكم سِيَرُ الخلفاء؛ حيث كانت رعيتهم تنصحهم وتنتقد عليهم ما يرونه خطأ من تصرفاتهم، والأمثلة كثيرة وهي معلومة لكثير من الناس ومعلومة لكم أيضاًً، بل حتى في أشد المواقف حُلكة كان الناس يراجعون ولاة أمورهم أو يعترضون عليهم. فهذا أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ عندما أراد قتال مانعي الزكاة، بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عارضه عمر، وقال: كيف تقاتل الناس.. الحديث (١) ، فلم يمنعه أبو بكر من ذلك، ولم يقل له ـ كقول البطالين ـ: نحن في زمن حرب، ولا صوت يعلو على صوت المعركة، بل بَيَّن له بالدليل صواب موقفه، حتى اقتنع عمر ـ رضي الله عنهما ـ بذلك. وهذا عبد الله بن عمر يختلف مع خالد بن الوليد ـ رضي الله عن الجميع ـ وهو أميره في غزاة غزاها معه، ويمتنع من تنفيذ ما أمر به، لمخالفة خالد باجتهاده للسنة الصحيحة؛ فلما بلغ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- الأمرُ لم يعنِّف عبد الله على عدم طاعته لخالد، بل قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ـ مرتين (٢) . ولو قُدِّر أن هناك أحداً من الولاة منع من ذلك لعُدَّ عند الناس ظالماً؛ مما يعني أن الثقافة الشعبية لا تقبل مثل هذا الادعاء.

ومن الشبهات: أن الدولة الإسلامية أو الشرعية أو الدينية يترتب عليها ظلم المخالفين في الدين: وهذا مجرد ادعاء عارٍ عن الدليل؛ كما أن التاريخ والسيرة العملية التي درج عليها المسلمون في تعاملهم مع المقيمين بينهم من أهل الديانات المغايرة لدين الإسلام تدحض ذلك. أما إذا كانت هناك حالات فردية يقع فيها بعض الناس في ذلك، فلا يسلم من ذلك أحد سواء في معاملته مع من هو من أهل دينه أو مع من يختلف معه، وإنما الشأن أن يكون النظام العام هو الذي يشرع ذلك أو يقبله.

ومن الشبهات: أن يقال: إن الدولة الإسلامية أو الدينية تحمل المخالفين على تغيير دينهم: وهذا أيضاًً ادعاء لا تعضده نصوص شرعية أو واقع تاريخي. والغريب أن هؤلاء الذين أهمهم هذا الأمر، لم يهمهم أمر الأمة كلها؛ فهم من أجل ألا يُحَمَل المخالفون على تغيير دينهم بزعمهم، يطالبون الأمة بأن تتخلى عن التمسك بدينها في السياسة والاقتصاد والقضاء والمعاملات، والرجوع في ذلك كله إلى عقول الناس وخبرتهم، وهذا من أغرب أنواع الظلم؛ إذ بزعم العدل مع المقيمين من غير المسلمين في بلاد المسلمين، يُظلم المسلمون أنفسهم في بلادهم، وهل هناك ظلم أشد من أن يُحمل المسلمون على ترك الكثير من أمور دينهم؟

ومن الشبهات: أن يقال: إن تعبير الدولة الدينية قد أسيء استخدامه في العصور المظلمة من تاريخ الغرب مع كنيسته، ولا نريد استخدام لفظ مُحمَّل بمثل هذه الدلالات، حتى لا نحمل أوزار أمور لسنا المسؤولين عنها، ويقال: إن ما يذكر هنا ليس راجعاً إلى اللفظ نفسه، وإنما هو راجع إلى سوء استغلاله، ولو ترك استعمال لفظ صحيح لا يحتمل أموراً خاطئة من أجل أن هناك من استعمله بطريقة خاطئة لم يكد يسلم لنا شيء، وهذا بعكس ما إذا كان الخطأ راجعاً لاحتمال اللفظ نفسه أو لصلاحيته للدلالة على أكثر من معنى بعضها صواب وبعضها خطأ؛ فهذا الذي يمكن أن يقال فيه ذلك؛ على أنكم إذ أنكرتم هذا فقد وقعتم فيما تفرون منه؛ إذ إن لفظ الدولة المدنية لم يسلم من هذا الذي تذكرون؛ فإن أغلب حديث الناس عن الدولة المدنية أنها الدولة العلمانية، ومن ثم لا يصلح الانتقال إليه حتى لو قلتم لا نريد منه هذا المعنى. ولماذا لم تقولوا بالدولة الدينية، وتقولون: لا نريد منها المعنى الذي استقر في أذهان الغرب، أليس هذا أوْلى؟ ولماذا لم تبحثوا عن مصطلح آخر يحقق ما تأملونه من خير من غير أن يكون حاملاً لتلك الدلالات الفاسدة؛ فقد كان بإمكانكم أن تختاروا مثلاً مصطلح الدولة الإسلامية، أو مصطلح الدولة الشرعية أو الدولة الراشدة، أو الصالحة، أو أي مصطلح لا يحمل البذور الفاسدة.

ومن الشبهات: أن حقوق المواطنة لا يمكن الحفاظ عليها إلا في ظل دولة لا تتخذ من الدين مرجعية لها، أي أن الدولة ينبغي أن تكون علمانية لا دينية وهي الدولة المدنية. أما المواطنة بمعنى الاعتراف لكل قاطن في الدولة الإسلامية سواء كان من المسلمين أو كان من غيرهم بأنه مواطن؛ فهذا لا ينازع فيه أحد، وكل واحد من مواطني الدولة الإسلامية له حقوق وعليه واجبات؛ فكل إنسان له حق في العيش الكريم، وله حرمة سكنه وماله وعرضه، وله حق التكسب سواء عن طريق التجارة أو الصناعة أو الزراعة، وله الحق في أن يلقى معاملة عادلة لا ظلم فيها، وله حق التنقل والسكن في أي مكان يشاء، وله الحق في سرية مراسلاته، وله الحق في أن يبقى على دينه ولا يُكرَه على تغييره، وله الحق في العبادة، وله الحق في أن يتناول ما يبيحه له دينه وإن كان محرماً في شريعة الإسلام، وهذه الحقوق التي يعطاها المواطن غير المسلم في الدولة الإسلامية لا يعطاها كثير من المسلمين الصادقين في بلادهم التي يزعم قادتها أن دولتهم دولة مدنية. لكن هناك بعض الأمور التي يختلف فيها غير المسلم عن المسلم؛ وهذا أمر لا غرابة فيه، ما دام أن هذا الاختلاف مقرر بالشرع الذي يؤمن به المسلمون. لكن الذي لا يمكن قبوله أن تختلف بعض أحكامهم انطلاقاً من الهوى لا من الشرع، ومن أراد أن لا تختلف بعض أحكامهم المقرر اختلافها بالشرع، فهو شهادة منه على أن الالتزام بالدولة المدنية معناه مخالفة الشرع والخروج على أوامره.

وعندنا من النصوص الشرعية ما يحفظ حق هؤلاء بل يصير إيصال الحقوق لهم وعدم الانتقاص منها من الدين الذي ينبغي اتباعه. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المبلِّغُ عن ربه وحيَه وأمرَه فيمن قتل ذمياً بغير جرم: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَاماً» (١) . وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ـ رضي الله تعالى عنها ـ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: الصَّلاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى مَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ» (٢) ، وقد قال المسلمون لعمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ: «أَوْصِنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ: أُوصِيكُمْ بِذِمَّةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّها ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ» (٣) . وهذا عمر بعدما طُعِنَ وفي هذه الشدة وذلك الموقف العصيب، لكن هذا لم يَحُلْ بينه وبين الوصاة بأهل الذمة، فقال يوصي الخليفة من بعده «.. وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَأَنْ لَا يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ» (٤) ومر عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بباب قوم وعليه سائل يسأل: وهو شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، وقال: مِن أيِّ أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزيةَ، والحاجةُ والسنُّ، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضُرَباءه؛ فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: ٦٠] والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه» (٥) . وفي عقد الذمة الذي عقده خالد لنصارى الحيرة: «وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعِيل من بيت مال المسلمين هو وعياله» .

ومن الشبهات أيضاًً حيادية الدولة: حيث يرون أن الدولة المدنية دولة حيادية تجاه جميع الأديان في المجتمع، بينما الدولة الإسلامية لا تتمتع بهذا الحياد «إن مفهوم الدولة المدنية هو باختصار يعني حيادية الدولة التام تجاه الأديان، وهو ينهل أساساً من مفهوم حرية العقيدة الذي جاء به الإسلام أولاً» (٦) ، «علمانية الدولة ببساطة شديدة هي أن تقف الدولة موقف الحياد من العقائد والمذاهب التي تدين بها مكونات شعبها؛ بمعنى ألا تكون في قراراتها وسياساتها وخططها وتعييناتها ـ بما في ذلك مناهجها التعليمية وسياساتها الإعلامية والثقافية ـ منطلقة من مذهب أو عقيدة أو مرجعية دينية معينة، وإن كانت عقيدة ومرجعية الأغلبية، لما في ذلك من تهميش لعقائد الآخرين وتمييز ضدهم وإخلال بمبادئ المساواة والعدالة والمواطنة، ومن هنا حرصت البلاد التي انتهجت الديمقراطية الليبرالية الحقة وأقامت الدولة المدنية الحديثة على عدم تضمين دساتيرها ما يفيد بديانة الدولة» (٧) .

والحيادية تجاه الأديان تعني عدم ميل الدولة تجاه دين معين، وأنها تتعامل مع الجميع على قدم المساواة، فلا تمدح ديناً أو تدعو إليه، ولا تذم ديناً أو تهاجمه، وهذه الحيادية التي يتكلمون عنها غير موجودة في واقع الأمر في الحقيقية في أي بلد من البلدان؛ فها هي فرنسا التي تعد على رأس الدول المدنية لننظر كيف منعت النساء المسلمات في فرنسا من ارتداء الحجاب، وهذه دولة الدانمارك وهي دولة مدنية كيف سخر رساموها من خير البرية -صلى الله عليه وسلم-، ثم هي من منظور آخر تناقض الإسلام مناقضة تامة؛ حيث سوَّت بينه وبين الأديان المحرفة كالنصرانية واليهودية وغيرها، ومن أغرب الغرائب أن يعمد هؤلاء الكتاب إلى المطالبة بتهميش عقيدة الأغلبية حرصاً على عدم تهميش عقيدة الآخرين، فأيُّ عقل منكوس هذا الذي يقرر مثل هذا الكلام؟ ثم هذه الحيادية المزعومة ليست حيادية؛ لأنها فقط أقصت الدين، وانحازت إلى العقل والخبرة والتجارب، والإسلام وإن كان لا ينكر دور العقل الذي هو مناط التكليف وكذلك دور الخبرة والتجارب، لكن ذلك لا يمكن أن يكون عوضاً عن الإسلام نفسه، أو يعارَض به.

وأما أن الإسلام لا يُكرِه أحداً على الدخول فيه فهذا حق، لكن هذا لا يعني أبداً حيادية الدولة الإسلامية تجاه الإسلام؛ فإن من أهم واجبات ولي الأمر المسلم التي نص عليها أهل العلم باتفاق هي إقامة دين الله ـ تعالى ـ وتحكيم الشريعة، وسياسة الدنيا بالدين.


(١) يقصد بالسلطات الثلاث: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية.
(٢) عبد الله فراج الشريف: ملحق الرسالة بجريدة المدينة ـ السبت ٦ محرم ١٤٢٤هـ وهو منشور على موقع الشيخ سعد البريك.
(١) أخرجه البخاري رقم (٦٣٢٨) .
(٢) الكتابي الموجود في دار الإسلام التي مصَّرها المسلمون وإن كان لا يجوز له بناء أماكن ظاهرة لعبادتهم، لكنهم لا يُمنعون من أداء عبادتهم في بيوتهم، ولا يعاقبون على ذلك، ولا يتعرض لهم، ومن فعل ذلك فهو ظالم لهم.
(١) وقد بينا في دراسة سابقة أن الديمقراطية بما فيها من سيادة القانون والانتخابات الدورية وتكوين الأحزاب السياسية تمثل اتجاهاً فلسفياً في النظرة إلى أسس النظام السياسي، وفي العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وليس مجرد آليات لتداول السلطة.
(١) ولا يحتج أحد بوجود خلافات في داخل الصف الإسلامي، كما هو الشأن في وجود الفرق المعروفة؛ فلولا هذا الذي ذكرته من وجود المرجع الضابط الذي يرجع إليه المسلمون لم تكن تلك الفرق فرقاً، والخلاف في هذه الحالة من قبيل الخلاف المذموم الذي ينبغي تركه والسعي في إزالته.
(١) البخاري: (٦٤١٣) .
(٢) أخرجه البخاري، رقم: (٣٩٩٤) .
(١) أخرجه البخاري رقم (٦٤٠٣) .
(٢) ابن ماجه ١٦١٤ وصححه الألباني.
(٣) أخرجه البخاري رقم (٢٩٢٧) .
(٤) أخرجه البخاري، رقم (١٣٠٥) .
(٥) سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين د. عبد الله بن إبراهيم اللحيدان، وعزاه إلى الخراج لأبي يوسف، ص (١٢٦) .
(٦) يوسف أبا الخيل جريدة الرياض الأربعاء ١١ جمادى الأولى ١٤٢٧هـ ـ ٧ يونيو ٢٠٠٦م ـ العدد (١٣٨٦٢) .
(٧) د. عبد الله المدني، موقع جريدة المؤتمر http://www.inciraq.com/Al-Mutamar