للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[في فلسطين.. البلاء من هؤلاء]

د. عبد العزيز كامل

كنت قد كتبت مقالاً في أعقاب فوز حماس في الانتخابات النيابية الفلسطينية بعنوان (معركة حماس الأخطر.. هل هي مع الإسرائيليين، أم العلمانيين الفلسطينيين؟) ولكني ترددت كثيراً في نشره في ذلك الوقت؛ لأن الأجواء بفوز حماس حينها، كانت لا تزال متفائلة، على غير ما كان الشعور عندي، لاعتقادي وقتها أنه لا المعادلات الدولية، ولا الحسابات الإقليمية العربية، ولا الحساسيات الفلسطينية الداخلية في ظل هزيمة حركة فتح، ستسمح باستمرار نجاح حماس وبقائها في السلطة، بل كان ظني الغالب أن هذا النجاح سيُحاصر دولياً وإقليمياً وفلسطينياً ... وأن بقاء حماس في السلطة لن يطول في ظل إصرار المجرمين في العالم على إفشال أي نموذج إسلامي وبخاصة في المنطقة العربية، وبوجه أخص في فلسطين التي تستوطن معظم أراضيها عصابات يهودية مغتصبة، لا يمكن أن يدوم اغتصابها إذا وُجد نموذج إسلامي ناجح ومستقر في فلسطين؛ فكيف إذا كان هذا النموذج سُنياً في زمن العداء لأهل السُّنة، وجهادياً في زمن محاربة المجاهدين، ومهدداً لليهود في زمن العلو العالمي لليهود، ومعارضاً للأمريكان في حقبة حربهم العالمية المعلنة على الإسلام؟

لم أشأ أن أقطع على الناس تفاؤلهم، ولهذا أحجمت عن الكتابة في الشأن الفلسطيني الداخلي منذ ذلك الوقت.

كان يقيني ـ ولا يزال ـ أن اليهود في عصرنا، قد مُد لهم حبلان من الناس، بهما أُخرجا من الذلة والمسكنة إلى حين، كما قال الله ـ تعالى ـ: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} [آل عمران: ١١٢] أما حبل الناس الأول فمن بلاد الغرب، وبخاصة بريطانيا وأمريكا، وأما الحبل الثاني، فمن بلاد العرب؛ حيث انتدب أعراب منافقون منذ البدايات المبكرة للمشروع الصهيوني للتواطؤ معهم، والتولي لهم، والتخذيل عنهم، حتى تطور ذلك إلى الحراسة لحدودهم من الخارج، والتصدي لمقاوميهم ومجاهديهم من الداخل؛ في سلسلة ممتدة من الخيانة والخَوَر، والمداهنة والفشل الذي أنتج الواقع المر الذي تمر به القضية الفلسطينية اليوم، وقد اجتمعت آفات الخيانات العلمانية كلها مؤخراً لتتواطأ مع أعداء الأمة، لإلحاق هزيمة نهائية بالمشروع الإسلامي في فلسطين لحساب المشروع العلماني، وكان فوز حماس في الانتخابات النيابية فرصة لا تعوَّض عند هؤلاء، لإفقاد الناس حماسهم لحماس، وإذهاب تعاطفهم معهم في الداخل والخارج.

واليوم وبعد ما يقرب من ثمانية أشهر من التآمر المتواصل العالمي والعربي والفلسطيني العلماني على حركة حماس من أجل إفشال نموذجها كسلطة فلسطينية ذات مرجعية إسلامية؛ تتضح أكثر صورة مواقف العلمانيين عموماً؛ فالبرغم من تراكم تجاربهم الفاشلة في مواجهة العدو اليهودي سلماً أو حرباً خلال ما يقرب من ستين عاماً؛ فلا يزالون يصرُّون على احتكار واجهة الصراع، الذي صغَّروه وقزَّموه من إسلامي يهودي إلى (صراع عربي إسرائيلي) إلى «نزاع» فلسطيني إسرائيلي؛ فوَّضوا فيه (حزب المنافقين) فرع فلسطين، هؤلاء الذين يضغطون اليوم بإلحاح على كل الإسلاميين ليلحقوا بهم في مسلسل التنازلات المخزية: الاعتراف بحق دولة اليهود في الوجود على ثلثي أرض فلسطين، ونبذ مقاومتهم كعدو محتل، والاشتراك في معاهدات السلام معهم والاستسلام لهم.

ولأجل الوصول بحماس إلى ثلاثية الهزيمة هذه؛ جرت وتجري وستجري كل أحداث التآمر علىها، وعلى الشعب الفلسطيني كله، لكي يكفر بحماس وبمنهج حماس ولاءات حماس الثلاث الرافضة لتلك الضغوط الرهيبة عالمياً وعربياً وفلسطينياً.

إن من يتابع فصول المعركة الحالية بين الإسلاميين والعلمانيين في فلسطين، لا بد أن يخرج بنتيجة واحدة، كان من المفترض أن تكون بدهية منذ البداية، هذه النتيجة هي: أن هناك تحالفاً على إفشال النموذج الإسلامي، وقد اختيرت فلسطين ميداناً له، بعد الجزائر وأفغانستان والسودان والشيشان، ونحن نخشى أن تتحول جهود هذا التحالف الحاقد بعد فلسطين إلى الصومال.

هناك قوى (وطنية) داخل فلسطين تمارس الآن دوراً خيانياً، حتى بالمفهوم الوطني؛ فماذا يعني تسهيل مهمة الأعداء في تجويع وتركيع الشعب الفلسطيني من أجل إثبات (فشل حماس) في إدارة السلطة؟!.. وماذا يعني تهييج العسكر بسلاحهم في وجه إخوانهم من المجاهدين الفلسطينين بدعوى الاحتجاج على عدم دفع الرواتب التي صنعوا هم أزماتها؟ وماذا يعني تدبير عمليات الإضراب في المدارس والمعاهد والمستشفيات وغيرها لإحراج حكومة حماس وإظهارها بأنها أصبحت معادية للشعب؟!

وماذا تعني عمليات التخريب والإحراق والتهديد بالقتل والاغتيال والانتقام من رموز حماس وكوادرها؟

ستظل تفاعلات نجاح حماس في الانتخابات عام ٢٠٠٦، تتداعى بها الأحداث وتتنوع بها المواقف، ولكن مهما تداعت هذه أو تنوعت تلك، فإن لها أبعاداً ثلاثة ستظل ذات تأثير كبير على مستقبل الأوضاع المتعلقة بالقضية الفلسطينية ما دام الإسلاميون في السلطة:

البعد الأول: هو البعد الخارجي، ونعني به كل ما هو خارج عن إطار الفعل العربي والإسلامي، وتعبر عن مواقفه الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا و (إسرائيل) .

والبعد الثاني: هو البعد الإقليمي العربي والإسلامي بشكليه الرسمي والشعبي.

والبعد الثالث: هو البعد الفلسطيني بشقيه الإسلامي والعلماني.

فهذه الأبعاد الثلاثة ستظل لها خلفياتها المؤثرة على المواقف.

أما البعد الأول؛ فإنا إذا نظرنا فيه وجدنا ظرفاً دولياً استثنائياً، يقوم على تحكم القطب الواحد (أمريكا) في معظم مفاتيح المعادلات الدولية، وهي تسخرها منذ مدة لخدمة أهدافها ومشروعها الإمبراطوري وحربها العالمية التي أعلنتها ضد ما تسميه بالإرهاب، وهي تسعى بكل جهد لإبقاء مفهوم الإرهاب مرناً مطاطاً، حتى تُدخِل فيه كل حين من تريد، لتعمل ضده هي وحلفاؤها. وقد كانت حركة حماس إحدى ضحايا هذا التمطيط لمفهوم الإرهاب؛ حيث أُدرجت على قوائمه في أمريكا وأوروبا، بسبب عدم اعترافها بدولة اليهود، وعدم التزامها بالاتفاقيات المبرمة معها من قِبَل السلطة الفلسطينية، وعدم تخليها عن نهج مقاومتها ومجاهدتها كعدو غاصب محتل. وهنا لا بد أن يتذكر المهتمون بالشأن الفلسطيني أن الولايات المتحدة التي كان لها دائماً مواقفها النظرية والعملية التي تلتزم فيها بتأمين وحماية دولة اليهود من أي خطر، لن تسمح بأي ظروف يمكن أن توصل إلى هذا الخطر، فهذا تاريخها معها، حيث تعهدت بحمايتها من عهد (ترومان) الذي اعترف بدولتها بعد عشر دقائق من إعلانها رسمياً إلى عهد (ريجان) الذي تحالف معها استراتيجياً، إلى عهد (بوش الأب) الذي خاص بالنيابة عنها حرب الخليج الثانية، وصولاً إلى عهد (بوش الابن) الذي فجَّر لأجلها حرب الخليج الثالثة وربما يفجر الرابعة، لهذا نقول: لا ينبغي أن تسبح بالبعض الأوهام أكثر من هذا، فيتخيلوا أن أمريكا ستغض الطرف عن قيام كيان يُخشى منه على (إسرائيل) فهي عندما خافت عليها من قوة العراق؛ ساعدت في ضرب مفاعله النووي عام ١٩٨١، وتدمير جيشه عام ١٩٩١، ثم غزت أرضه عام ٢٠٠٣، وعندما خافت على إسرائيل من إيران؛ أقحمتها في حرب الثمانية أعوام مع صدام، ثم ها هي تدخلها في معمعة الأزمات الدولية، بذريعة طموحاتها النووية، هذا كان ديدن الأمريكان مع كل من يمثل خطراً واقعاً أو متوقعاً ضد دولة اليهود.

والموقف الأوروبي لا يختلف كثيراً، بل إن الاتحاد الأوروبي هو الضاغط الأكبر على السلطة التي تسلمتها حماس، بمنعه الدعم المالي الذي كان مربوطاً بوجود السلطة في يد حكومة علمانية موالية له.

وفي كل الأحوال فإن أي كيان إسلامي مستقل ذي مرجعية إسلامية مهما كان ضعيفاً أو معزولاً، فإنه يمثل شبحاً مرعباً عند أمريكا وحلفائها وأوليائها، ولهذا لم يصبروا على دولة الطالبان، ولن يصبروا على السودان أو الصومال أو غيرها من البلدان التي تحاول الاستقلال على أرضية إسلامية. ولا يعني هذا أن تتوقف كل المشروعات الإسلامية خوفاً من هذا العدو المتربص، ولكن المقصود أن لممانعة المجرمين ومقاومتهم زمناً، وللتمكين زمن، وليس هذا وقت تصرُّف الفلسطينيين ولا غير الفلسطينيين على أنهم قوم مُمَكَّنون.

لا يختلف الكلام بشأن أمريكا وأوروبا هنا، عن الكلام بشأن روسيا وغيرها من القوى الدولية المناوئة للمسلمين فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية؛ فخلاصة مواقفهم جميعاً تنتهي إلى أنه إذا كان لا بد من دولة فلسطينية، فلا بد أن تكون علمانية وملتزمة بالاستسلام ومنزوعة السلاح بل منزوعة الإسلام.

أما دولة اليهود نفسها، فلو كانت صبرت على عرفات مع كل ما قدمه لها، لكان يمكن لنا أن نتصور منها صبراً ـ ولو قليلاً ـ على حكومة حماس، ولكن الأيام القلائل التي أعقبت انعقاد أول جلسة للمجلس التشريعي الفلسطيني، أثبت اليهود فيها أنهم سيضعون أمام حكومة حماس ما لا يحتمل من المعوقات والإحراجات، وكان أول ذلك إعلان (إيهود ألمرت) وقتها ـ وكان لا يزال رئيساً للوزراء بالوكالة ـ عن نيته ترسيم حدود «نهائية» لدولة اليهود، في حاله فوزه بمنصب رئيس الوزراء، وهي بالطبع حدود تبلع القدس، وتبلغ ما هو داخل أسوار الفصل من الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧م. وهو ما يعني عملياً إلغاء مشروع الدولة الفلسطينية من أساسه، وهذا ما جعل (خالد مشعل) يقول وقتها: إن تصريح ألمرت هو بمثابة إعلان حرب على الفلسطينيين.

أما البعد الثاني: وهو البعد الإقليمي والإسلامي؛ فالجانب الرسمي فيه كان واضحاً منذ البداية أنه لن يخرج في أكثره عن حدود المسموح به أمريكياً وحدود المصالح الضيقة إقليمياً ومحلياً، وهو ما كان يعني ألا أمل كبيراً في الاتكاء والاعتماد الطويل على دعم ممنوح من الأنظمة الرسمية، التي يطبخ لكل منها أيضاً ما يشغلها ويذهلها عن غيرها.

أما الجانب الشعبي فإن قلب الأمة الإسلامية والعربية وعقلها وروحها كانت دائماً في انحياز دائم إلى فلسطين وأهلها، والإسلاميون على وجه الخصوص وعلى اختلاف فصائلهم كانوا وسيظلون متعاطفين مع حماس، ومشفقين عليها من ثقل التبعة وجسامة المسؤولية وصعوبة المهام.

والبعد الثالث: هو البعد الداخلي الفلسطيني بشقيه الإسلامي والعلماني:

إن كل ما يقال ويعرف عن مواقف الأطراف الخارجية الأجنبية، منتظر ومتوقع؛ فماذا يُنتظر من الأعداء أو الضعفاء؟ أما ما أثار الغرابة وبعث على العجب، فهو مواقف الجهات التي يفترض أنها شريكة الواجب، وقرينة المصير في الداخل الفلسطيني، ونعني بهم الشرائح الفلسطينية التي تصف نفسها بالوطنية، فهذه الشرائح ظهر منذ البداية أن منها من يريد أن يكون رأس حربة في صدر الإسلاميين في المرحلة المقبلة، ليجهضوا مشروعهم، ويشوهوا صورتهم، ويعطوا الفرصة لأعداء الخارج كي يُمعنوا في الحرب ضدهم على أنهم إرهابيون ومتطرفون!! وقد تعجَّب البعض حينما حذر المشفقون من ذلك، ولكن الحقيقة هي كذلك. صحيح أن التعميم في الحكم غير صواب ولكن التعامي أيضاً غير مقبول؛ فكل المراقبين للشأن الفلسطيني، يعلمون أن تاريخ فلسطين المعاصر شهد ظاهرة علمانية فلسطينية؛ تزامنت مع الظاهرة العلمانية العربية التي استشرت في الأمة بعد إسقاط الخلافة، وهذه الظاهرة العلمانية الفلسطينية، قد شاركت الظاهرة العلمانية العربية في صنع كل الهزائم أمام اليهود على مدى ما يقارب ستة عقود، بإصرارها على التزام أركان العقيدة العلمانية القائمة على هجر مرجعية الشريعة، ونبذ عقيدة الولاء والبراء، واستبعاد الراية الإسلامية في أي مواجهة عسكرية، وإحلال الراية القومية والوطنية مكانها.

المواقف المبكرة في مسيرة حماس في العمل السياسي، أظهرت أن خصومهم من العلمانيين وعلى رأسهم المتنفذون في حركة فتح، يستعملون حيلاً شيطانية، للإيقاع بها في أتون مشاكل لا تنتهي، وقد ظهرت إرهاصات ذلك منذ الجلسة الأولى للمجلس النيابي الفلسطيني برئاسة حماس، حيث شهدت حملة تشويش وتشويه منظمة، كان نواب فتح فيها يمثلون أدوار الطلبة الفاشلين في مدرسة المشاغبين، في مشاهد تثير الاستهجان والغرابة من ذلك السلوك الحسود الحقود غير المسؤول، الذي يصر على إظهار الأغلبية الإسلامية بمظهر العجز والجهل والتعصب وضيق الأفق، لدرجة أن منهم من سخر من رفع الأذان وقت الصلاة، مما اضطر رئيس المجلس وقتها أن يحذر من السخرية من شعائر الإسلام تحت سقف البرلمان. وقد أعطى هذا السلوك العلماني انطباعاً عاماً لما ستكون عليه تصرفات فتح في المراحل المقبلة.

لقد رأى فريق من العلمانيين منذ البداية، أنه يتعين أن تُترك (حماس) لتلقى مصيرها تحت أنقاض الفشل الذي ستمنى به في مواجهة المشكلات الداخلية والخارجية، تلك المشكلات التي يعلم أولئك العلمانيون قبل غيرهم أنها لم تكن من صنع حماس. وإنما كانت من جنايات وخطيئات الإدارة العلمانية للسلطة الفلسطينية، وقد رأى فريق آخر أنه ينبغي إدماج حماس في المنظومة الوطنية التي تغلب عليها الصبغة العلمانية، لعلها تخفف من تمسكها في النهاية وتليِّن من مواقفها.

وقد كان المقلق منذ البداية، أن العلمانيين ظلوا ممسكين بمفاتيح الكثير من عناصر القوة التي لوَّحوا بها في وجه حماس، مثل السيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية التي يعدونها للآن (الممثل الشرعي والوحيد) للشعب الفلسطيني، وظلوا يرونها صاحبة الصلاحية والمصلحة في الإبقاء على كل الاتفاقات والالتزامات مع العدو اليهودي؛ لأنها هي الموقعة عليها، وهي القادرة على الاحتفاظ بها وأنه لا يمكن إلغاؤها إلا بموافقة الثلثين في كل المؤسسات الفلسطينية، وهي النسبة التي يجب تحققها أيضاً لتغيير أي بند في القانون الأساسي الفلسطيني (الدستور) . كما أن رئاسة السلطة التي يمثلها محمود عباس، تجعله بحسب القانون الأساسي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو المسؤول عن تعيين أو إعفاء أصحاب المناصب، وهو المسؤول المباشر عن جهاز الاستخبارات والأمن الوطني المكون من خمسين ألف عنصر، إضافة إلى عشرين ألف عنصر من أجهزة أمنية أخرى، بما يوصل العناصر المسلحة إلى ٧٠ ألف مسلح تحت إمرة عباس، يمثلون في عددهم عدة جيش كامل في دولة عربية كبيرة. ولكنه جيش لم يجهز لمقاومة اليهود، وإنما لمقاومة من يقاومهم.

العلمانيون كانوا يقبضون أيديهم منذ البداية، عن تقديم أي مساعدة لحماس في مهامها الشاقة مع قدرتهم الكاملة على ذلك؛ ولهذا رفضوا الانضمام للحكومة التي شكلتها منذ البداية إلا بشرط التزامها بالاتفاقات المبرمة مع دولة اليهود. وقد قذفوا وجه حكومة حماس منذ المراحل الأوائل بورقة إثارة القلاقل عن طريق الميليشيات التابعة لحركة فتح؛ حيث جعلوها بمثابة قنبلة موقوتة تهدد الأوضاع بالانفجار في حالة تأخر حماس عن دفع رواتبها التي تبلغ نحو عشرين مليون دولار، وهو ما حصل بالفعل، إذ أحرقت تلك العناصر مقر المجلس النيابي ومبنى رئاسة الوزراء! وهو تطور خطير قد يؤذن بما هو أخطر، وحتى كتابة هذه السطور فإنه يترجَّح أن يُقْدِم محمود عباس على حل السلطة بعد أن صرح بأن مقترح إنشاء حكومة وحدة وطنية قد وصل إلى طريق مسدود، بسبب عدم تنازل حماس عن لاءاتها الثلاث، وقد ينشئ حكومة طوارئ، أو يدعو إلى انتخابات مبكرة، وسواء بكّر بهذا أو تأخر، فإن الأمور قد وصلت مع العلمانيين إلى طريق اللاعودة.

السلطة في حد ذاتها ليست غاية حماس، كما كرر قادتها ذلك صادقين، غير أن المشكلة هنا ليست في ذهاب السلطة، ولكن في آثار المكر الكُبَّار الذي سعى فيه خبثاء العلمانيين، الذين لم يستطيعوا تشويه صورة المقاومة بالتنازلات السياسية، فلطخوها بالإخفاقات الاقتصادية والمعيشية التي تمس حاجات بل ضرورات الناس الحياتية، وهذا سلاح فتاك قاتلوا به حماس، وللأسف فإنهم نجحوا في إلحاق كثير من الأذى بالوجه الوضيء لها في انظار العامة.

والناس معذورون؛ فالحماس وحده لا يُطعم الجوعى، ولا يشفي المرضى، ولا يسد حاجة المحتاجين.

كنا نتمنى لو احتفظت حماس بموقعها كقوة معارضة مؤثرة في البرلمان واحتفظت فقط ببعض الوزارات البنائية التي تخدم المشروع الإسلامي، مع البقاء في موقعها الطليعي على أخطر وأكبر ثغور الأمة، في بيت المقدس وأكناف بين المقدس؛ فهذه المهمة هي أعظم وأكرم المهمات على أرض فلسطين، وهي تحتاج ـ كما كانت دائماً ـ إلى أن يظل رموزها نائين بأنفسهم عن مهاترات العلمانيين وسفاهات المنافقين على الصفحات وأمام الفضائيات ... فكم كان لافتاً الفارق الشاسع بين حديث هؤلاء المفتونين عن مجرمي اليهود ـ حيث اللباقة واللياقة والكلمات المهذبة المشذبة، وبين حديثهم عن قادة حماس ... حيث الجلافة والسخافة والفجور في الخصومة!!

أحسب أن (أوسلو) بنتائجها وآثارها ورموزها، كبنيان متهالك على شفا جرف هارٍ، ما كان يصلح أن تُضيَّع الجهود وتنفق الأعمار من أجل ترميمه وتجديده، فضلاً عن الارتفاع به إلى طوابق جديدة ... وأحسب أيضاً أن ما جرى قد استفاد منه أصحاب أوسلو أكثر من حماس.

نحن نعلم أن مشروع حماس، كان ولا يزال مشروع تحرير وتعمير، لكن الذين تصدوا لهم في مهمة التحرير وأنشؤوا من أجل ذلك ما سُمي بـ (جهاز الأمن الوقائي) لوقاية اليهود من ضرباتهم، هم الذين يتصدون لهم اليوم في مهمة التعمير، لإفساد المشروع الإسلامي برمته، تحريراً كان أو تعميراً بالتعاون مع الأعداء الظاهرين والمستترين ... وهل يكون هذا إلا من منافقين معادين للأمة؟!

لكنا نقول لهم ولمن يقف وراءهم: إن المشروع الإسلامي سينجح في بيت المقدس في يوم من الأيام، وهو آتٍ عما قريب بإذن الله، ونجاحه لن يتمثل في إقامة دولة إسلامية قوية فحسب، بل سيكون بداية لعودة الكيان الإسلامي العالمي المرتقب انطلاقاً من الأرض المقدسة؛ فقد قال النبي #: «إذا نزلت الخلافة الأرض المقدسة، فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام» (١) وقال: «بينما أنا نائم رأيت عمود الكتاب احتُمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري، فعُمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام» (٢) .

إن هذا سيكون خاتمة جهاد طويل على أرض الشام، نرجو أن يكون للفصائل المجاهدة على أرض فلسطين ـ وفي مقدمتهم حماس ـ شرف البدء في مسيرته المظفرة. قال #: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأواء، كالإناء بين الأكلة، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا: يا رسول الله! وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس» (٣) .