للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الانفتاح على مبادئ الحياة]

د. عبد الكريم بكار

فطر الله ـ تباركت أسماؤه ـ مخلوقاته على طبائع وصفات محددة، فلكل حدث ولكل شيء ولكل مجال ... طبيعته الخاصة به، والتي يجب التعرف عليها بعمق حتى نحسن التعامل معه ونحسن استثماره على أحسن وجه؛ بل ربما جاز لنا أن نقول: إن لكثير من الأشياء طبيعتين: طبيعة في حالة انفراده، وطبيعة في حالة اجتماعه مع غيره؛ وإدراك الطبيعة الثانية أدق وأصعب.

إن الانفتاح على المعلومات والمفردات والمعطيات الجزئية يثري الثقافة الشخصية للإنسان، لكن الانفتاح على المبادئ وفهم الطبائع يساعد على بلورة الرؤى المنهجية والأفكار الكبرى، ونحن في أَمَسِّ الحاجة إلى هذا النوع من الثراء الفكري؛ وقد قال أحد الحكماء: إن من يملك معلومة كمن يملك قطعة ذهبية، أما من يملك منهجاً فإنه وضع يده على مفتاح منجم ذهب!

وأنا لا أستطيع أن أتناول كل مبادئ الحياة في مقالة أو في كتاب، وإذاً فلأَتحدث عن نماذج مما أعنيه؛ لعلي أحرك الهمم نحو السعي إلى اكتشاف المزيد من المبادئ والطبائع.

١ ـ إذا كان المرء قوياً، ذا نفوذ أو ذا مال أو ذا ميزات خاصة جداً، فعليه أن يخشى على نفسه من الكِبْر والغرور والبغي والطغيان؛ القوة تجذب التجاوز وعبور الحدود، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى حيث قال ـ عزَّ وجلَّ ـ: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: ٢٧] ، وقال ـ سبحانه ـ: {كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: ٦ - ٧] ، ولما كان فرعون ملكاً جباراً خاف موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ من طغيانه عليهما وبطشه بهما، فقالا: { ... رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى} [طه: ٤٥] . إن القوة بكل أشكالها تغري صاحبها بالعدوان؛ لأنها توفر له شعوراً بالأمن من الإفلات من العقاب، كما أن المرء كلما كان أقوى كثر المحتاجون إليه، وكثرت مصالح الناس عنده، وهذا يوفر له فرصة التحكم بهم وظلمهم؛ وهذا يعني أن على جميع الناجحين والمميزين وذوي المكنة والنفوذ أن يمارسوا نوعاً من الرقابة على أنفسهم حتى لا يقعوا في شكل من أشكال البغي والطغيان. وفي المقابل فإن الضعيف والفقير والعاطل عن العمل وكل من يعيش في ظروف قاسية وصعبة، يكونون على حافة المذلة والإهانة والقبول بالظلم، وما ذاك إلا لشعورهم بالحاجة إلى الآخرين، وشعورهم بالعجز عن القيام بشؤونهم ومتطلباتهم الشخصية على نحو مقبول. وعلى هؤلاء أن يتعلموا كيف يتخلصون من أوضاعهم أولاً، كما أن عليهم أن يتعلموا كيف يحمون أنفسهم من المهانة ثانياً، وذلك من خلال الصبر والتعفف ومقاومة التسلط، والنظر إلى الكرامة الشخصية على أنها شيء لا يقبل المساومة.

٢ ـ الكم لا يكون إلا على حساب الكيف؛ وذلك لأننا نحن البشر محدودون في أعمارنا وإمكاناتنا ورؤانا وطاقاتنا الروحية، ولهذا فإننا لا نستطيع أن ننفق من رأس مالنا المحدود على ما نعالجه ونعانيه بشكل غير محدود، ولذا فلا بد أن نختار بين التركيز على الكم أو التركيز على الكيف؛ حيث إن من الواضح أن المعلم ـ مثلاً ـ لا يستطيع أن يعتني بأربعين طالباً، تم حشدهم في فصل دراسي، عناية تماثل عنايته بطلابه العشرة أو الخمسة عشر. والمؤلف الذي أخرج كتاباً في خمس مجلدات خلال ثلاثة أعوام، لا يستطيع خدمة مسائله على مستوى عالٍ من التدقيق والتحقيق والنقد على النحو الذي يقوم به طالب الدراسات العليا حين يسلخ من عمره ثلاث سنوات في كتابة ثلاثمائة صفحة. وقد ورد في حديث (القصعة) ما يدل على أن المشكلة الحضارية للأمة ستكون مع الكيف، وليس مع الكم: « ... أنتم يومئذ كثيرون، ولكنكم غثاء كغثاء السيل» . ومن الواضح أن الأمم التي تحقق الغلبة على غيرها ليست كثيرة العدد، لكن عنايتها بتعليم أبنائها وتدريبهم عالية جداً. التجربة الحضارية لأمتنا تدل على أن الاهتمام بالكيف يجب أن يستولي على اهتماماتنا وخططنا المستقبلية.

٣ ـ كلما اتجهنا نحو الأصول والكليات وجدنا أنفسنا أقرب للاتفاق ووحدة الرأي، وكلما اتجهنا نحو الفروع والجزئيات صار الاتفاق أمراً عسيراً، وصار التعاذر أمراً لا مناص منه، والأمثلة تفوق الحصر. وعلى سبيل المثال: فإن البشرية مجمعة على أهمية (بر الوالدين) بوصفه قيمة من القيم الإنسانية الكبرى؛ لكن حين نصير إلى التفاصيل والجزئيات والتطبيقات العملية، فإننا سنجد الاختلاف في بعض مفاهيم (البِر) داخل الأسرة الواحدة: الأسرة المسلمة والأسرة غير المسلمة. إذا أخطأ والد أحدنا؛ فهل نصحُه من البر أو من العقوق؟ بعض الشعوب تعد نصيحة الآباء نوعاً من العقوق، وشعوب أخرى ترى في ذلك مطلباً شرعياً. وقد ذكر لنا القرآن الكريم أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ كان ينصح أباه ويعظه، ثم تبرأ منه؛ بسبب إصراره على الكفر. والبشرية متفقة على فضيلة (الصدق) وضرورة الالتزام به؛ لكن إذا كان الصدق سيؤدي إلى قتل نفس بريئة ظلماً وعدواناً؛ فهل نقول الصدق، أم يكون الكذب هو المطلوب؟ وإذا كان الكذب لن يؤدي إلى قتل بريء؛ لكنه سيؤدي إلى تفويت مصلحة مشروعة، فهل يكون الكذب جائزاً؟

وهكذا ... إذا فهمنا هذا المبدأ من مبادئ الحياة، فربما نعمل على عدم طلب الإجماع في أمور فرعية، كما نعمل على مقاومة الاختلاف في الأمور الكلية.

... للحديث صلة.