للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[منظور لغوي للواقع السياسي]

د. جمال الحسيني أبو فرحة

لا شك أن اللغة مرآة للفكر، فنحن بمجرد سماعنا لشخص يتكلم يمكننا أن نحدد ـ بدرجة كبيرة ـ بلده، ونتعرف على خلفيته الثقافية والعقدية؛ بل وأحواله الصحية والنفسية إلى حدٍّ كبير، ومن هنا قال سقراط قولته الشهيرة: «يا هذا! تكلم حتى أرى مَنْ أنت» .

وإذا كان هذا الأمر مشاهداً منا جميعاً، ولا يمكننا إنكاره؛ فإني أزعم أن الأمر لا يقف عند هذا الحدِّ، بل يتعدَّاه إلى أن كل لغة إنما تعبِّر عن خلفيات كثيرة لكل أبنائها، خلفيات اجتماعية وثقافية ودينية.. إلخ، أي: أنها تعبِّر عن العقل الجمعي لأربابها.

وعليه؛ فإذا أردنا أن نفهم الغرب جيداً، وخاصة في هذه المرحلة ـ التي كُشف لنا فيها عن وجهه القبيح ـ فلا بدّ أن نتوقف أمام لغته؛ لنكتشف حقيقة ما يقبع تحت هذا الستار اللفظي من أفكار وتصورات وخصائص لا بدّ لنا من معرفتها.

وأكتفي في هذا المقام بالتمثيل لما قصدتُ بكلمتين وبقاعدة لغوية في الإنجليزية. أما الكلمتان فهما: كلمة (يهودي jew) ، وكلمة (فلسطيني Philistine) . وأما القاعدة فهي: تقديم الصفة على الموصوف.

وأول ما نلاحظه على هذه الكلمة (jew) أنها لا تدل في اللغة الإنجليزية على اليهودي وحسب، بل لها معانٍ أخرى.

يقول معجم (إلياس) :jew: يهودي، إسرائيلي، غشَّ، ضحك على.

ويجعل معجم (OXFORD) من معاني كلمة: (jew) : offensive، cheat، grasping person.. إلخ.

وكلمة (offensive) تعني: مهاجم، مزعج، مسيء، مؤذٍ للشعور، نابٍ، منفر، خبيث، كريه، سمج، يحدث اشمئزازاً.

وكلمة (grasping) تعني: جشع، طماع.

وكلمة (cheat) تعني: مخادع، غشاش، محتال.

وهذا الربط اللغوي بين كلمة (يهودي) وهذه المعاني لا شك يعبِّر عن صورة ذهنية لليهودي في الفكر الإنجليزي مرتبطة بهذه المعاني، وهي صورة لا شك سيئة، وهي لا تعبِّر عن رأي فرد بل رأي أمة، ولا تعبِّر عن رأي عصر محدود، بل تاريخ طويل لا بدّ منه لتكتسب الكلمات معانيها المعجمية الجديدة.

على أن هذا الذي تضع اللغة يدنا عليه في دقيقة يؤكده تاريخ الأدب الإنجليزي: شعر، مسرح، رواية.. إلخ، وليس أشهر في الدلالة على هذه المعاني من مسرحية (تاجر البندقية) لشكسبير، ومسرحية (يهودي مالطة) لكريستوفر مارلو.. إلخ.

ولكن لنا أن نتساءل: إذا كانت هذه هي صورة اليهودي في الفكر الإنجليزي؛ فبماذا نفسِّر مساعدات أمريكا وإنكلترا على وجه الخصوص للدولة اليهودية؟!

وهنا نجد الإجابة من تأمّلنا لبعض التراكيب اللغوية في الإنجليزية، وأكتفي في ذلك بمثال واحد لضيق المقام، وهو تقدُّم الصفة على الموصوف، وهذا التقديم في رأيي يعبِّر عن خلفية فكرية مهمة لأرباب هذه اللغة، فهو يعبِّر عن أن نظر أصحاب هذه اللغة إلى الصفات يسبق نظرها إلى الذات المتجردة عن الصفات.

وذلك ـ في تصوّري ـ يعني أن أهمية المرء تُقدّر بالنظر إلى صفاته لا بالنظر إلى ذاته كآدمي وكإنسان بصرف النظر عن أيِّ صفة له ككونه ذا عرق، وذا دين، وذا لغة، وذا ثقافة وحضارة، وذا مال وقوة.. إلخ.

بمعنى: أن صورة اليهودي في الفكر الإنجليزي ـ كما توضحها دلالات كلمة (jew) ـ وإن كانت مدعاة لكراهيته، إلا أنها في الوقت نفسه بالنظر إلى القاعدة اللغوية (تقديم الصفة على الموصوف) مدعاةٌ لمساعدته في إٍقامة وطن قومي في فلسطين؛ تخلّصاً منه ومن صفاته القبيحة بإبعاده عن الغرب، واستغلالاً لصفاته القبيحة في تحقيق أطماع الغرب الاستعمارية، حتى وإن كان ذلك على حساب إنسانية الإنسان الفلسطيني وسلبه كل حقوقه الإنسانية.

وخاصة بعد أن نجح الإعلام اليهودي في تشويه صورة الفلسطيني أمام الفكر الإنجليزي، حتى غدا من معاني كلمة (فلسطيني Philistine) في اللغة الإنجليزية كما يقول معجم (WEBSTER) :

an individual guided by material rather than intellectual or artistic values.

أي: شخص تتحكم فيه المادة أكثر من العقل أو القيم الأدبية.

أو كما يقول معجم (OXFORD) : «Unecultured person» أي: شخص غير مثقف.

فتعامل الغرب مع القضية الفلسطينية من منطلق نظرته إلى صفات اليهودي القبيحة، وصفات الفلسطيني المزعومة، لا من منطلق إنسانية كل منهما وحقوقه الإنسانية التي منها محاولة الأخذ بيده لا التخلّص منه ولا سحقه.

أما اللغة العربية (لغة القرآن) ، فتنظر إلى إنسانية الإنسان قبل أن تنظر إلى صفاته، فتقدم الموصوف على الصفة، فتراعي إنسانية الإنسان قبل أن تراعي أي صفة أخرى لهذا الإنسان؛ من انتمائه إلى عرق أو ثقافة أو دين مغاير، وهو ما يؤكده تاريخ العرب وواقعهم.

قد يقال: إن دلالة التركيب اللغوي على سِمَات خلقية معينة لأرباب اللغة التي تستخدمه ليست قطعية في دلالتها على هذه السِّمات، فقد نجد أرباب لغات تقدمت الصفة على الموصوف في لغتهم ولم تتقدم في نظرتهم ومعاملاتهم مع غيرهم.

وهذا في رأيي أمر صحيح، ولكنه لا يعني بحال الغضّ من شأن هذه الدلالة رغم أنها قد تختلف في بعض اللغات؛ لأنها ـ أيضاً ـ قد تتأكد في لغات أخرى إذا انضمت إليها قرائن من تاريخ طويل، وفلسفات معلنة، وأحداث معاصرة مشاهدة صباح مساء. نعم؛ إن القرينة لا تدل بمفردها وقد تتخلف أحياناً، إلا أنها أيضاً تتقوى إذا اجتمعت مع قرائن أخرى، حتى إنها قد توصلنا إلى علم يقيني ـ ما أحوجنا إليه ـ إذا كثرت واستفاضت.

وختاماً أقول: صدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: ١٤] .


(*) أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد في جامعة طيبة ـ المدينة المنورة.