للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفساد والصلاح الإداريان وأثرهما في ازدهار التنمية]

حامد محمد إدريس (أريتيري)

إن حركة التنمية في كل بلد تتوقف على الأخلاق الإيجابية التي يتحلى بها الراعي والرعية، ومتى اعوجت أخلاقهما فقد أثر ذلك الاعوجاج على التنمية الوطنية سلباً، وهذا الموضوع يعالج هذه القضية من الناحية الشرعية في زمن كثر فيه الفساد الإداري في كثير من البلدان في التعامل بين الطرفين (السلطة والشعب) .

\ أولاً: الفساد الإداري وأثره السلبي في التنمية:

\ تعريف الفساد الإداري:

كثيراً ما نسمع عن مصطلح الفساد الإداري، وهو وصف تتهم به المؤسسات الحاكمة كثيراً من البلدان، ويطلق على تركيبة من الصفات السيئة يتحلى بها كثير من الموظفين، تؤدي إلى نمو المصلحة الخاصة بطرق غير مشروعة وباستغلال المناصب الوظيفية على حساب المصلحة العامة للوطن.

فإذا اهتم موظفو الدولة بأنفسهم واستغلوا مناصبهم لتحقيق مصالحهم الخاصة فهذا مؤشر لوجود فساد إداري عام في أجهزة الدولة التي تبلى بهذا الفساد؛ مما ينذر بكارثة تنموية بسبب الكارثة الأخلاقية التي أصيب بها الجهاز الحاكم. والناس يراقبون سلطتهم السياسية أكثر مما تراقب هي الأمة؛ فإن وجدوها تعد بمشروعات ولا تفي بها، وتعلن عن إنجازات لم تحققها، ويرون موظفها لا يقبل معاملات الجمهور إلا بدفع الرُشا (جمع رشوة) ، ويعانون من ضياع حقوقهم لانتفاء العدل تحت ظل استشراء المحسوبية والجهوية والفئوية؛ فإنهم يقطعون بأن أخلاق نظامهم قد أوشكت على الانهيار، فتبدأ المسافة تتباعد بين الشعب والسلطة الحاكمة، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى الانحطاط التنموي؛ وذلك لعدم وجود تعاون بنَّاء بين السلطة والشعب وبين أجهزة الدولة نفسها، وإن هذا ناتج عن مجموعة من الأخلاق السيئة التي يتسم بها الإداريون في تلك الدولة.

الأصل أن من واجبات الدولة حماية أخلاق الناس من الانحراف، ليس فقط حماية أخلاق من يعمل تحت جهازها الإداري؛ وإنما من واجبها أن تطوف في الأسواق لمعرفة أخلاق الناس وحمايتها وإرشادها وتقويمها على النحو الذي وضحه الحديث الآتي:

مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على صُبْرة طعام، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟» فقال: أصابته السماء يا رسول الله! قال: «أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟! من غشنا فليس منا» رواه مسلم.

ومراقبة سلوك العاملين بالدولة مثل مراقبة أخلاق عامة الناس، حتى لا تنتشر العدوى الأخلاقية السلبية من أعلى السلطة إلى أدنى الأمة، وهي أضبط كذلك وأيسر؛ لمحدودية العدد، ولوجود إمكانية المراقبة الدائمة. وأفضل المراقبة أن يتلقى موظفو الدولة دورات تربوية مستمرة في الأخلاق السامية التي تتعلق بعملهم؛ من أجل أن تؤسس رقابة ذاتية داخلية للموظف كما أشار إلى ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان يتخول صحابته بالموعظة بين فترة وأخرى.

الغش خلق ذميم وجده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السوق فأخذ يوجه مرتكبه توجيهاً يحمل تعنيفاً شديداً «من غشنا فليس منا» أي إن صفة الغش إذا اتصلت بإنسان أصبح غير صالح ليكون عضواً في المجتمع المعافى؛ لأنه سيكون عامل هدم للتنمية الوطنية، وهو أمر غير مرضي عنه. ولهذا يلزم إبعاد الغاشين عن الوظيفة العامة؛ لأنهم عناصر غير منتجة وغير مؤدية لواجبها المطلوب منها.

\ من الأخلاق السالبة:

إن الفساد الإداري في أجهزة الحكم تعبير عن وجود مجموعة من الأخلاق السيئة التي يتحلى بها بعض الموظفين، وبموجبها قد انصرفت رسالتهم الأساسية من أداء الأمانة والقيام بواجب الوظيفة التي يتلقون الأجر مقابلها إلى مآرب أخرى خاصة بهم، وهي تنهك التنمية في أي بلد؛ لكنهم لا يبالون بمصلحة العامة ولا يهمهم تحقيق هدف رقي الوطن وتنميته.

يأتي على رأس الأخلاق السلبية التي تؤدي إلى الفساد الإداري الكذب والخيانة والغدر والفجور في الخصومة كما يوضحه الحديث النبوي الشريف:

«أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» متفق عليه.

إن الموظف الذي يتسم بهذه الأخلاق يعمل في إعاقة تنمية وطنه، فهو يكذب مع مسئوليه ومع الناس، ويخون الأمانة التي فرضت عليه إن لم يقمْ بواجبه الوظيفي حق القيام، وهو يغدر بالعهد الذي أُخذ عليه يوم تقلد الوظيفة، وربما يظهر منه الفجور في الخصومة مع مخالفيه مستغلاً موقعه الوظيفي. وأي تنمية تأتي على يد من تتجمع في أخلاقه صفات الشر والنفاق من الكذب والخيانة والغدر والفجور؟!

\ صور من الفساد الإداري:

إن الأخلاق الذميمة التي سبق ذكرها إذا سادت في الجهاز الحاكم فسوف تجد مظاهرها وصورها في كل مرافق الدولة؛ فتحت تأثير هذه الأخلاق السيئة سيكون كل موظف يبحث عن مصلحته الخاصة ولا يهتم بواجبه المطلوب فمثلاً: شرطي المرور يظل همه الأكبر إيقاف السيارات المخالفة ليس لتأديب أصحابها على مخالفة ارتكبوها؛ وإنما يتم إيقافها سروراً بما يرجى من رزق حرام يأخذه من سائقها، وقد يتعين مقداره باتفاق بين السائق وبين الشرطي؛ الذي يصبح موقعه الوظيفي عامل تهديد يزيد الضغط على السائق حتى يدفع، ويُفَضِّل الطرف الضعيف تسوية الأمر بتكلفة أخف مما لو مشى إلى مركز الشرطة لسداد الفاتورة لصالح خزينة الدولة.

وضابط الجوازات والجنسية قد يتخذ لنفسه مجموعة من الوسائط والسماسرة الذين يسعون بينه وبين المستفيدين لعقد صفقات تتيسر بموجبها المعاملة، ولولا هذه الصفقات لتعقدت الأمور؛ لأن المستفيد كلما وفّى بشرط ابتكروا له شرطاً آخر إلى ما لا نهاية.

وفي ظل سيادة الفساد الإداري يصبح موظفو المطارات والموانئ بوابة دخول وخروج المحظورات تحت مظلة (الظرف المغلق، أي الرشوة) التي تتم بينهم وبين الفئات التي تحيا في الأجواء الفاسدة ولا ترضى بالقانون ليضبط حركتها. وعبر هذه البوابات يمكن أن يخرج من البلد مجرمون ويأتي إليها مجرمون، ويمكن أن تباع الثروات العامة بثمن بخس، ويمكن كذلك أن تسرب إلى البلاد عبر بواباتها بضائع وسلع خارجية تحارب الاقتصاد العام وتعيق حركة النمو الاقتصادي.

وفي ظل الفساد الإداري أيضاً يصبح الحصول على الوظيفة في الدولة أو فقدانها مبنياً على المحسوبية، فيقال الموظف الصالح، ويعين الموظف الطالح، ويوسد الأمر إلى غير أهله. في كل ذلك لا يبالى بالمعيار الأخلاقي الذي وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتقليد الولايات والوظائف: «من استعمل في عصابة رجلاً، وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين» وقوله: «إنا لا نعطي هذا الأمر من طلبه، ولا من حرص عليه» .

ومن صور الفساد الإداري في بعض البلدان التلاعب بالأراضي، واستغلال المناصب لسلب حق الناس فيها. ولمواجهة هذا الخلق السلبي جاءت النصوص الشرعية تحرم الظلم:

«من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طوقه إلى سبع أراضين» متفق عليه.

«من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين» متفق عليه.

فإن كان الوعيد السابق يخص ما يتعلق من فساد إداري في الأراضي الذي بموجبه يُحرم من حقهم قوم لصالح قوم آخرين لا يستحقونه؛ فإن هناك نصوصاً أخرى تحرم على كل الإدارات الفاسدة أن تمتد يدها وبطشها إلى العباد فقد قال -صلى الله عليه وسلم-:

«من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة. فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال: وإنْ قضيباً من أراك» رواه مسلم. وردعاً لهؤلاء الذين يستغلون مناصبهم ويسعون في الأرض فساداً ويبنون مصالحهم بظلم الآخرين قال -صلى الله عليه وسلم- لصحابته:

«أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» رواه مسلم. فهذا الموظف الذي يستخدم سلطته لسلب أموال الناس والتعرض لأعراضهم والاعتداء على دمائهم البريئة جزء من منظومة إدارية فاسدة أخلاقياً، لا يستحقون ما هم عليه من مناصب، وذلك لأن المنصب أمانة، وهؤلاء خانوها، وإن هدف المنصب بناء ونماء الوطن، وهؤلاء لا ينمَّون إلا مصلحتهم الشخصية بمضرة الآخرين، ولا يشيِّدون إلا ما يخصهم على حساب نمو وتقدم الوطن. ولهذا فهم يستحقون ما قال في حقهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة» . رواه البخاري. وهذا يشمل كثيراً من الأجهزة الحكومية التي تشرف على المال العام وتشرف على الإدارة العامة ائتُمنت على خزينة الدولة صرفاً وإيراداً وكلفت بواجب تنمية الوطن، فبأخلاقها المنحرفة خانت الأمانة وأعاقت مسيرة الأمة وتقدم الوطن وتنميته.

فأي وطن هذا الذي ينمو وقد ذهبت إيراداته على يد جباتها من موظفي الشرطة ورجال الجمارك وموظفي مصادر ميزانية الدولة؟! وأي وطن هذا الذي ينمو وقد ذهب ما جمع في خزانته اختلاساً بيد حماتها؟!

ومما يدخل في الفساد الإداري غياب الموظف عن محل عمله بلا عذر شرعي، أو جلوس الموظفين متحلقين في أحاديث فراغ خلال ساعات الدوام، أو قعود الموظف على كرسيه نائماً مُعطَّلَ الفكر والذهن، مجمد العمل والإنتاج، يهتم فقط بتسجيل الحضور والانصراف حفاظاً على وظيفته، دون أن ينظر ما الذي أضافه لتنمية الوطن، ومقابل أي شيء يتلقى الراتب الشهري من خزينة الدولة، ولا يفكر في المراجعين من الأمة الذين يزورون مكتبه راغبين في إنجاز معاملاتهم، وهو يردهم خاسرين بترحيل أجل المعاملة من تاريخ إلى تاريخ وأحياناً كثيرة يغيب عن موقع عمله، فيظل المراجع مرابطاً أمام المكتب من بداية دوام إلى نهاية دوام ... وهكذا دواليك. إن مجمل هذه الخلطة السيئة من الأخلاق هي التي توصف بالفساد الإداري الذي يعمل في إعاقة مسيرة التنمية في أي بلد، ويضر بمصالح الأمة.

\ ثانياً: الصلاح الإداري وأثره الإيجابي في التنمية:

\ تعريف الصلاح الإداري:

إذا كان الفساد الإداري عامل هدم لتنمية أي بلد فإن الصلاح الإداري يأتي ليحل محله، فإذا تجمعت في الجهاز الموظف في خدمة الدولة بمختلف فروعها مجموعة من الأخلاق الحميدة من الصدق والوفاء والأمانة والعفو والإخلاص فإن العافية تسود، الأمر الذي يبشر بالنمو والتقدم والتطور. ويترتب على عدم الوفاء بالعقود ما دلت عليه كثير من النصوص الشرعية ومنها قول الله ـ تعالى ـ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء: ٣٤]

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: ١] .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٢ - ٣] .

هذه نصوص شرعية توجب على كل موظف مراعاة العقد المبرم بين الأمة وبينه، وبينه وبين ربه، ولهذا كان من المفروض عليه أن يتصف بكل خلق حميد يساعد في أداء واجبه المناط به.

\ صور من الصلاح الإداري:

وإذا أردنا أن نضرب أمثلة للصلاح الإداري الذي يعمل على ازدهار التنمية نجد أنه لا بد أن يكون الفرد الموظف في الدولة صالحاً، والمراد بصلاح الموظف اتصافه بالأخلاق الحميدة التي تثمر مراعاته حق الدولة في عمله وحق الأمة، فهذان ميدانان تظهر فيهما صلاح أخلاق الموظف، ومن صلاح الأفراد الموظفين يتكون الجهاز الإداري الصالح، ومنه يأتي الأداء الإداري الصالح.

يدخل العمل الوظيفي في الدولة في باب الأمانات العامة التي يلزم أن يؤديها موظفوها، فمنذ أن يتم تعيين الموظف وجب عليه القيام بأداء عمله وفاءً بالأمانة التي أمر الله بأدائها. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} [النساء: ٥٨] . ولأن الوظيفة العامة خدمة للأمة؛ فإن شاغلها يلزمه أن ينظر إليها بهذا المعنى، فمن اتخذها مطيةً لخدمة فئة دون فئة دون عموم الأمة فقد خان ولم يقم بواجبه المطلوب منه.

الحرص على جودة العمل وإتقانه:

ومما يدخل في الأخلاق الحميدة أن يجتهد الموظف في جودة عمله وإتقانه. وهذه درجة زائدة على الأداء العادي للواجب الوظيفي، وقد جاء الحديث الشريف مرشداً على مثل هذه الدرجة من العمل: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» ، وحديث: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» ، وحديث: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .

التعامل الطيب مع الناس:

ومما يأتي ضمن الأخلاق الحميدة أن يتعامل الموظف مع الناس رؤساء ومرؤوسين بالأخلاق الطبية معاملة وتخاطباً فـ «الكلمة الطيبة صدقة» «وتبسمك في وجه أخيك صدقة» «ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ... » ، وأن يتحلى بالسماحة امتثالاً لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى» . وبعد أن يتحلى موظف الدولة بكل الصفات الحميدة من الإخلاص والسماحة والطيبة وحسن التعامل وإجادة العمل يلزمه من خلال الوظيفة القيام بمراعاة حقين اثنين: حق الدولة، وحق المواطن، حتى يكون لبنة في بناء الجهاز الإداري الصالح، فهو يتحرك أحياناً في ميدانين متقابلين: قوي مسلط (الحكومة) ، وضعيف مسلط عليه (المواطن) ، وعليه أن يعطي كل ذي حق حقه.

أ - مراعاة الحق العام (حق الدولة) :

مع ضرورة الامتثال بالخلق الطيب في تعامله تقع على عاتق الموظف مراعاة حق الدولة، فلا يجوز أن يفرط فيه إرضاءً لأهله وعشيرته أو معارفه وأصدقائه أو مصالحه ومنافعه. فإنَّ صَرْفَ حق الدولة، من وقت ومال وأمانة، إلى غير الدولة خيانة كبيرة تستحق المؤاخذة الدنيوية والمؤاخذة الأخروية، وقد جاءت عدد من النصوص الشرعية تعد خيانة الدولة ضمن الجرائم الكبيرة، حتى وإن كانت الخيانة صغيرة في نظر مرتكبها أو بالنظر إلى حجمها، مصداق ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- في حق عامله (ابن اللتبية) : «أما بعد: فإني استعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت إلي. أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً؟! والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله ـ تعالى ـ يحمله يوم القيامة» متفق عليه. وفي حديث آخر: «كان على ثَقَل (أي العيال، وما يثقل حمله من الأمتعة) النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل يقال له: كِركِرة فمات؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هو في النار. فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها» رواه البخاري. والأصل في الغلول السرقة من الغنيمة قبل قسمتها، ولأن حرمة الغنيمة أتت من كونها مالاً للدولة - وليس من كونها أخذت في حرب -؛ جاز القياس عليها لتضم كل مال تابع للدولة سواء دخل في خزينتها، أو تمت إعاقة وصوله إلى الخزينة العامة بواسطة الجباة الخونة، فيصدق الغلول المحرم - إذاً - في أي قدر من المال العام يوجه إلى المصلحة الخاصة دون إجازة من السلطة بل ودون علمها. ومن صلاح الجهاز الإداري في الدولة أن يقوم موظفوها العاملون في الموارد المالية بتوريد ما يتحصلون عليه من مال إلى الخزينة العامة دون أن يخفوا منه شيئاً ولو كان صغيراً ويسيراً في نظرهم؛ كما دل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من استعملناه منكم على عمل فكَتَمَنَا مِخْيَطاً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة» . رواه مسلم. وبمثل هذه الأخلاق يقاس صلاح الجهاز الإداري في الدولة ويعد قائماً بواجبه.

إن من امتثل بهذه الأخلاق الحميدة هو الجهاز الإداري المعافى الذي يعمل في تنمية الوطن، ومن دلائل عافيته أن كل موظف يزيد خزينة الدولة وارداً من المال خاصاً دون اختلاس أو خيانة، ودون غش أو خداع أو كذب. ومن درهم إلى درهم يأتي به الجباة المخلصون الأمناء في مختلف وزارات الدولة ومصالحها وأجهزتها تُملأُ خزينة المال العام، وبه تؤسس المشروعات التنموية التي يقوم برعايتها الأمناء المخلصون، المجتهدون، الحريصون على تنمية الوطن، المجيدون لعملهم، المتقنون له والمبتكرون فيه.

ب - مراعاة حق المواطن:

سبق أن ذكرنا إجمالاً أن موظف الدولة عليه واجبان يقوم بهما؛ أحدهما تجاه الدولة كما سبق بيانه، والآخر تجاه المواطن. وإن أي تقصير في أحد هذين الواجبين يعد خيانة للأمانة. وإذا كانت الدولة تطالب الموظف أن يستوفي حقها من المواطن سواء تعلق هذا الحق بضريبة لازمة، أو غرامة على مخالفة، أو زكاة واجبة، أو رسوم معاملة، أو فواتير خدمة، أو تعلقت بتحصيل مالي خاص مقرر بوجه شرعي لمصلحة عامة؛ فإن من حق هذا المواطن، بعد أن يقوم بما عليه من واجب، أن يَسلَمَ من أذى الموظف الحكومي في دمه وماله وعرضه كما يدل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، وفي بلدكم هذا» متفق عليه. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله» رواه مسلم.

فإذا تعدى الموظف على حقوق المواطن وحرماته بعد استيفاء حق الدولة منه فقد ظلمه. وهذا مؤشر سلبي خطير ينذر بحلول عقاب على فاعله عاجلاً أو آجلاً كما يفيده قوله -صلى الله عليه وسلم-: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» رواه مسلم.

ولا يجوز للموظف الحكومي أن يضيف شيئاًً من عنده على ما تقرره الحكومة وتلزم المواطن به مصداقاً للحديث الشريف:

قال -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ حين وجهه والياً إلى اليمن: «إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعِلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم! واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» متفق عليه. والإضافة السليبة من الموظف قد تكون صريحة؛ كأن يطالب لنفسه قدراً من المصلحة معيناً، مادية كانت أو معنوية، وقد يجبِرُ - بسوء أخلاقه - المتعاملين معه من الشعب على الدفع الظالم، وذلك حل يلجأ إليه المواطن اتقاء لشر الموظف أو تخليصاً للمعاملة المحبوسة بالمماطلة. فإن هذا الخلق من صاحبه يدخل ضمن قائمة الفساد الإداري، وقد دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على كل إنسان سبب مشقة للناس حيث قال: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم؛ فاشقق عليه، ومن ولي من أمرهم شيئاً فرفق بهم؛ فارفق به» .

إن صلاح الموظف معناه تحلِّيه بالأخلاق الحميدة التي بموجبها يقوم بحق الدولة على وجهه ويراعي حق الأمة على وجهه كذلك، موفقاً بين واجبيه، أداءً للأمانة ووفاءً بالعهد، ويفعل ذلك بكل إخلاص وحرص واجتهاد وإجادة وإتقان. ومن بين مجموعة موظفي الدولة المتحلين بهذه الأخلاق الحميدة يتكون الجهاز الإداري الصالح الذي يثمر الصلاح الإداري، وبه تتم التنمية الوطنية.


(*) دكتوراه في الدراسات الإسلامية (قيد التحضير في جامعة النيلين - السودان) .