للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ضوء القمر]

طارق شديد

دخل حجرته الخاصة المكتظة بالكتب، أو (صومعته) كما يحلو له أن يسميها، متأبطاً حافظة أوراقه ومجموعة الصحف والكتب الجديدة التي ابتاعها وهو عائد من الجريدة، مسح كتبه ـ المتراصة في أناقة ونظام، والتي تغطي فراغات الحجرة ـ بنظرة إعجاب حانية، ألقى ما يتأبطه فوق مكتبه، أنار (كشاف القراءة) ، هَمَّ بتصفُّح المطبوعات الجديدة، وقعت عيناه على ساعة المكتب أمامه، كانت عقاربها متعانقة معلنة انتصاف الليل، ندَّت عنه شهقة مندهشة:

ـ «مرت ساعتان على خروجي من مكتبي، ولم أكتب بعد! بل ولم أستقر على فكرة الموضوع الذي سأسلمه غداً لرئيس التحرير كي ينشر في زاوية (الرأي الحر) لهذا الأسبوع» .

أزاح المطبوعات الجديدة جانباً، تلقف قلماً من المقلمة، استل أوراقاً بيضاء من حافظة أوراقه.. انكب عليها يريد أن يسودها حتى يثبت لرئيس التحرير أنه أهل للثقة التي خصه بها دون زملائه، أخذ يشجع نفسه على الكتابة:

ـ «هيا! لقد أُتيحت لك فرصة ذهبية، ستكتب زاوية (الرأي الحر) الموقوفة على كبار المفكرين، والتي ظل رئيس التحرير يرفض مساهمة أي عضو من أسرة التحرير فيها، حتى ولو كان في مرتبة رئيس قسم» .

لقد استدعاه اليوم رئيس التحرير وطلب منه الاتصال بالأساتذة المفكرين المتعاملين مع الجريدة، ورغم عكوفه على الهاتف أكثر من ساعة لم يفلح في انتزاع وعد من أحدهم بكتابة زاوية (الرأي الحر) لهذا الأسبوع، فهذا مشغول بإعداد بحث سيلقيه في مؤتمر سيعقد قريباً، وذاك يضع اللسمات الأخيرة على كتاب جديد، وثالث عازم على السفر غداً للمشاركة في أعمال ندوة، ورابع مرتبط بموعد الليلة ولا يستطيع كتابة سطر واحد!

حكى لرئيس التحرير محاولاته الفاشلة في استكتاب أحد المفكرين البارزين.. فاجأه رئيس التحرير بقوله: «تكتب أنت المساهمة؛ وأستلمها منك غداً..!» .

ظن في البدء أن رئيس التحرير يمزح معه، لكن سرعان ما انقشعت سحائب ظنه أمام جدية ملامح رئيس التحرير وتواصل حديثه: « ... ثقتي فيك كبيرة؛ فأنت مثال للصحفي المسلم الواعي المجتهد» .

خرج من مكتب رئيس التحرير ولسانه يلهج بعبارات الشكر والامتنان، وقلبه مثقل بالفرح الممزوج بعبء المسؤولية، ظل طوال طريقه إلى بيته يستعرض الأفكار التي جرت العادة على معالجتها في هذه الزاوية ليستبعدها تباعاً، استمر يتذكر ويستبعد، حتى لحظة جلوسه إلى مكتبه في (صومعته) ، كان لا يزال يجهل: أيَّ موضوع سيطرق في زاويته المرموقة!

مع أنه أمسك بقلمه وانحنى فوق أوراقه فارضاً على نفسه وضعية الكتابة، على أمل أن تترفق به الأفكار فتهبط عليه سخية، إلا أنه مكث لحظات طوالاً عاجزاً عن خط حرف واحد، نهر نفسه: «ماذا بك؟! ألم تعد قادراً على طرح فكرة ومعالجتها؟! هل استفحل العقم في عقلك وخيالك إلى حد شل يدك عن الكتابة؟!» .. لكن هذا التوبيخ لم يأتِ بالمردود المرتجى.

خطر بذهنه أن يصنع لنفسه (فنجاناً) من القهوة ينبهه ويشحذ ذاكرته، بعد أن احتسى قهوته في تؤدة ـ محاولاً بين رشفة وأخرى لملمة شوارد أفكاره ـ وجد قلمه ما يزال جامداً في يده، والأوراق أمامه تتحداه ببياضها الناصع.

حاول مرة أخرى، قبض على قلمه بعزم.. خط في أعلى ورقة بيضاء كلمتَي: (الرأي الحر) ، مع أنه ظل قابضاً على القلم، فقد تعذر عليه تسطير كلمة واحدة أخرى، نظر في حنق إلى (رأس) القلم، ضغط بأصابعه على (جسمه) وكأنه يحاول إرغام كلمة، قد انتصبت في (حلق) القلم، على الخروج؛ ولكن الكلمة في عنادها متشبثة!

شعر بصداع خفيف يغزو رأسه.. قام وابتلع قرصين لصد الغزو، عاد إلى أوراقه يشجع نفسه: «هيا! اعصر دماغك وفكر ملياً!» ولكن يبدو أن الفشل قد صار حليفه!

تلصصت عيناه بقلق على ساعة المكتب أمامه، «أووه!!» .. زفر بها في حدة وغضب؛ طارت على أثرها عصافير اليأس واخترقت رأسه.. تسللت رويداً رويداً عبر شرايينه إلى جميع خلايا جسده، لقد صار الليل شيخاً هرماً ولم تبزغ بعد فكرة جديدة، ولم يطلق هو سراح قلمه، شعر بخدر عميق يسري في عروقه! تسارعت نبضات قلبه، تفصد جبينه عرقاً بارداً، أحس باختناق شديد، اندفع نحو شرفة (صومعته) يتلمس نسمات تسعفه، صافحت وجهه نفحات ربيعية ناعمة، أحس شيئاً من الانفراج، سبح ببصره في أرجاء القبة السماوية المرقطة بقطع الألماس اللامعة، أعمل عدسته التدبرية، فاستدعت هذه اللقطة الباهرة ـ في مخيلته ـ لوحة السماء نهاراً، وتعجب كيف أن رسول النور ـ منذ إشراقه ـ يحجب عن بصره العالم الأكبر كله، فيصبح أعمى لا يراه، وعندما يغيب رسول النور ويحل الظلام، يصبح أهدى، ويكون للعالم الأكبر أبصر!

اتسعت عدسته التدبرية حين تمركز نظره على القمر شبه المكتمل والمائل نحو المغيب: «هذا الوجه الوضاء الذي ألهب خيال الشعراء، وأجج عاطفة المحبين على مر العصور، ثبت أنه قناع زائف يرتديه الوجه الذي هو ظلام، وتراب، وصخر، وخلاء، وصمت، ووحشة رهيبة مديدة» .. ثم تساءل: «هل هذا الوجه الساكن المتجهم يعبر عن حقيقة الذات القمرية؟!» .

تلاشى إحساسه بالاختناق، شعر بالدماء تتدفق في شرايين التواصل الكوني داخله، خُيِّل إليه كأن خيوطاً نسجت بين ذاته والقمر كذات عابدة ساجدة: «قاموس هذه الذات القمرية اللغوية يستوعب جميع مفردات (التسبيح والقنوت) التي نعرفها والتي لا نعرفها، ولكننا نحن الجهابذة المغرورين بقطرات علمنا المحدود لا نفهم كيفية تسبيحها المتفرد (!) هذا القمر العابد يستبشر بنا حين ننسجم معه تسبيحياً، ويكاد يتفطر كلما سمعت أذنه المرهفة أحاديثنا الجاحدة، وكلما بصرت عينه النافذة تصرفاتنا الآثمة. إنها الغيرة التي تسكن قلبه الساجد الأواب، كم حزن هذا القلب حينما رأى أول أقدام بشرية تطأه هي أقدام الجحود والضلال، وأول عَلَم يُزرع فوقه هو عَلَم الشرك والطاغوت! فكم تمناها أقدام العرفان والطهارة، وعَلَم التوحيد والهداية!» .

هذا التواصل مع إيقاعات القمر القانت الأواب جعله يتذكر فجأة أنه لم يؤدِّ صلاة العشاء؛ فقد ترك مكتبه في الجريدة دون أن يصليها في جماعة مع بعض زملائه كما تعوّد، انسل من الشرفة عازماً الوضوء، أحس بعد إسباغه الوضوء بارتياح طرح عن كاحله أحمالاً ثقيلة، افترش سجادة الصلاة.. وقف بين يدي ربه تغمره بحار الخشوع.. سجدت جميع خلاياه تسبيحاً وقنوتاً.. رفرفت روحه محلقة عبر أجوائها النورانية، شعر بانسجام الأنغام النابعة من ذاته المعزوفة الكبرى للكون الأواب من حوله.

ما إن فرغ من صلاته، وشرع في العودة إلى مكتبه لتحرير الزاوية العصيَّة؛ حتى انهمرت عليه الأفكار المنتظرة: (أزمة النخبة الثقافية السياسية في عالمنا الإسلامي) ، (خطر الاستغراب والمستغربين) ، (محنة المسلم مع حضارة العصر) ، (أمة اقرأ؛ متى تقرأ؟) ، (المسلمون والخروج من دائرة رد الفعل إلى دائرة الفعل الحضاري) .

أوقف سيل الأفكار المتدفق عليه، مندهشاً من الجدب الذي حل بذهنه طويلاً، وفشله المرير في قنص فكرة واحدة، ثم انثيال الأفكار عليه بمجرد عودته إلى ذاته العابدة، وتجاوبها مع إيقاعات الكون القانت! تناسى الأفكار الجديدة.. مكث يتأمل تجربته ويبلور أفكارها: «إذن! الإنسان السوي المتفوق المتسامي يتحقق في مرونة، تثير الدهشة والإعجاب، حينما يلتزم بمنهج الخالق، ووجود هذا الإنسان سيحل جميع مشاكلنا المزمنة تلقائياً. ما أمسَّ حاجتنا إلى ذلك الإنسان الذي ينشده الإسلام!» .

في الحال، وقبل أن يرحل الليل وهو مستغرق في توصيف الإنسان المنشود، قبض على قلمه، بدأ بتسطير عنوان مقالته: «الإنسان الرباني.. أولاً وأخيراً» .. وفي أقل من ساعة، وقبيل أن تتناغم ذاته مع الكون الساجد تلبية لنداء الفجر؛ كان قد سود الأوراق، وأنجز الصياغة.