للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أحاديث القرآن والسنة عن القادة]

أنور قاسم الخضري

في المراحل الصعبة والأحوال القاسية والظروف المظلمة للأمة تنبثق القيادة الربانية الرشيدة؛ لأنّ من سنن الله ـ تعالى ـ أن يبعث عبر التاريخ عموماً، وفي هذه الأمة خصوصاً، قيادة ربانية راشدة تقوم بوظيفة الأنبياء المتعلقة بسياسة الناس وإخراجهم من ظلمات الشرك والظلم والجهل إلى نور الإسلام والعدل والمعرفة.

كتبت هذا الموضوع بعيداً عن الصياغة البحثية والأسلوب النمطي للمواضيع؛ فهي خواطر ثارت في ذهني أحببت أن أسجلها وأبثها للدعاة ليثروها بأفكارهم وآرائهم وتعليقاتهم وملاحظاتهم.

والقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة تُجَلِّي للناس عموماً والمؤمنين خصوصاً صفات تلك القيادة وخصائصها، وطبيعة تكوينها وملامح شخصيتها، كيف لا؛ والناس بحاجة إلى تجلية حقيقة الصحيح من الدعي؟ كيف لا؛ والمؤمنون مطالبون بالالتفاف حول هؤلاء المجددين ليقوموا بمهمتهم الشاقة؟ ألم يخبر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عنهم بالقول: «أناسٌ صالحون في أناسِ سوءٍ كثيرٍ، من يعصيهم أكثرُ ممّن يطيعهم» (١) وفي هذا إشارة إلى مكانة من يطيعهم.

الحديث عن القادة والاهتمام بهم همُّ الكبار من الرجال؛ بل همُّ العظماء من القادة؛ فالإداريون يحدثونك عن المشاريع الناجحة وعن المواقع الحساسة وعن السلع الرائجة ... هذا أكبر همهم للنجاح. أما القادة فيبحثون عن القادة لتستمر المسيرة ويتواصل العطاء. وصدق عمر (الملهَم) عندما قال: «لوددتُ أنَّ لي ملء هذا المسجد رجالاً من أمثال أبي عبيدة أستعملهم في الإسلام» (٢) رضي الله عنك يا عمر!

إن أحاديث القرآن الكريم والسنة المطهرة عن القيادة لا تأتي في سياق النظرية المجردة أبداً؛ بل هي مبثوثة في ثنايا الحديث عن القيادات البارزة في مسيرة البشرية، تجلِّي لنا بيئتهم، وظروف معيشتهم، وأسلوب تفكيرهم وسلوكهم، ومواقفهم الحية والمباشرة، ونظرة الناس لهم، والأدوار التي تُبرزهم، والمنعطفات التي تدفع بهم للمقدمة ... إلى غير ذلك من الدروس والعبر.

فالقيادة لا تتخرج من «المقاعد» المشلولة و «الأسوار» المقيدة و «المناهج» الرتيبة.. إنهم صنعة الحياة، ونتاج المجتمع، وبذور التاريخ، ومُخْرَجات الأزمات، ومنحة الله ـ قبل كل شيء ـ للناس. فليس لأحد بعد ذلك أن يتعلل بالقَدَر أو أن يركن للناس. إنهم جزء من البشرية، وعنصر في مجتمعهم، لكن شخصيتهم تفرض وجودها بقوة متسللة من خلال المواقف والأفكار والتأثير.

- التأثر والتأثير والاستجابة والتغيير:

من أهم خصائص هؤلاء القادة التأثر والتأثير والاستجابة والتغيير: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ * قَالَ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ * فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مَوَسَى إنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إن تُرِيدُ إلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: ١٥ - ١٩] .

إنهم يحملون قِيَماً، ويمتلكون إرادة، ويسجلون موقفاً؛ فهم ليسوا خواء من القيم العادلة والخيرة المعطاء، كما أن القيم لديهم ليست نظرية فكرية لا تمتلك وجوداً ولا يُسعى لتحقيقها ... كلاَّ!

- خصائص جسدية وعقلية ووجدانية ونفسية:

إن القرآن يخبرنا أن هؤلاء القادة يمتلكون خصائص جسدية وعقلية ووجدانية ونفسية تميزهم عن غيرهم: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: ٢٤٧] .

{فَهَزَمُوهُم بِإذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: ٢٥١] .

{قَالَ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: ١٦] .

{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} . [يوسف: ٥٥]

إنهم يتمتعون بكمال أجسامهم وقوتها، وهذا لا يخص عالم البشر فحسب، بل هو قانون إلهي في سائر المخلوقات، أن يتميز القياديون بملامح القوة.. لكي يستطيعوا دعم الحق الذي يحملونه، والعدل الذي يفرضونه، والخير الذي ينشرونه. وفي جميع العوالم ترتكز القيادة في العناصر الأقوى جسداً، فجبريل أقوى الملائكة، وإبليس ومردة العفاريت أقوى الجن، وهكذا الحال في عالم الحيوانات.

وضعف الجسد يتبعه غالباً ضعف في الشجاعة الأدبية، والعزيمة الفاعلة، والإرادة الصلبة، والنَفَس الطويل لدى المشاق. لكن البعض يقف عند هذا الحد من خصائص القيادة، ويختزل القيادة في ملمح واحد من ملامح الشخصية وتجلياتها ... وهذا خطأ؛ فليست القوة المادية كل شيء؛ فمن خصائص القيادة أيضاً قوة العقل في جميع مكوناته ووظائفه، وهو ما يعبر عنه القرآن بـ «بسطة في العلم» . ولا شك في أن البسطة في العلم لا تكون إلا مع ما يمنحه الله للعبد من ذاكرة نشطة، وفهم دقيق، وإدراك سريع، وذكاء وقَّاد.. فكلما اتسع الوعاء اتسع مضمونه.

إن من اللفتات الجميلة للسؤال الرباني لموسى ـ عليه السلام ـ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: ١٧] ؟ إظهارُ المدارك العقلية في توظيف الوسائل لأكثر من مهمة وعمل لمن اختير لمهمة ضخمة: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: ١٨] ، فلم يتوقف موسى في الإخبار عن عصاه بوظيفتين، بل ترك المجال خصباً للخيال: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} ! وقد وقفت على بعض هذه المآرب فعددت أربعين منها.

- تقدير الذات ومتطلبات المهمة وتكاملها مع الغير:

ومن خصائص القيادة تقديرها للذات ولمتطلبات المهمة وتكاملها مع الغير وتوظيف الطاقات من حولها دون أن تجد في النفس مضاضة من ذلك: {قَالَ رَبِّ إنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: ٣٣ - ٣٥] . {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَرُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه: ٢٥ - ٣٥] .

إنها تمتلك الشجاعة الأدبية مع الذات قبل أن تمتلكها مع الغير، لذلك فليس بينها وبين النظر للحق ستار كاذب أو سراب خادع، ولا مانع لديها أن تتراجع ذاتياً لتكون في موطن «المَقُود» لا «القائد» إذا شعرت بتخلفها: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: ٦٥ - ٦٦] .

إنها لا تلغي تجارب الآخرين وتحتفظ بها في «الأرشيف» كما أنها تسجل تجاربها للآخرين وتستخلص لهم التجارب والعبر. وما أغرب أن تقف بين محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ في حوار بشأن فريضة من أعظم الفرائض.. ألا وهي الصلاة، وتستمع للحديث (١) الذي دار بين قيادتين: إحداهما: تمتلك الرصيد من الخبرة، والأخرى: تمتلك التزكية «المطلقة» !

إن الشخصية القيادية شخصية غير مغرورة، تؤمن بأن مِنَحَ الله موزعة بين العباد حتى البهائم منها، فلا غضاضة لديها أن تخاطَب بالقول: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: ٢٢] ! وهي تملك «ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدها» .

وهي تتطلع إلى أن تُعطى من فضل الله الشيء الكثير: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأَبِي إنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: ٨٣ - ٨٧] . {وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: ١٢٤] .

فهي متطلعة إلى ما عند الله ـ تعالى ـ تبذل ما في مقدورها أن تبذل له، وتأمل فضل الله فيما لا تطيقه، دأبها: {رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: ٢٤] !

ومما يستوقفنا عند تأمُّل الشخصيات القيادية في القرآن والسنة حدتها وشدتها؛ يتجلى ذلك في مَثَلين هما: موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعمر بن الخطاب، رضي الله عنه.

ولا أقصد بالشدة هنا الغلظة التي نفاها الله ـ تعالى ـ عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: ١٥٩] ، بل الشدة المحمودة في الحق التي أثنى الله بها على رسوله وأتباعه: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: ٢٩] ، فكان لعمر منها أوفر الحظ والنصيب؛ عمر الذي أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه: لو كان بعده نبي لكان هو (٢) .

فالشدة، بين الضعف المفرط والغلظة المفرطة، ضرورة في أَطْرِ الناس على الحق والدفاع عنه، والقيام بالعدل والقصاص من الظالم ورد العدوان، وكل هذه الأمور متعدية النفع بخلاف اللين.

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بينَا أنا نائم رأيتُني على قَلِيب عليها دلوٌ، فنزعتُ منها ما شاء الله، ثم أخذها ابنُ أبي قُحافة فنزع بها ذَنُوباً أو ذَنوبين، وفي نزعه ضعفٌ، واللهُ يغفرُ له ضعفه، ثم استحالت غرباً فأخذها ابن الخطاب فلم أرَ عبقرياً من الناس ينزع نزع عُمر حتى ضرب الناس بعطن» رواه البخاري. وفي رواية لمسلم: «بينا أنا نائمٌ أُرِيتُ أني أنزعُ على حوضي أسقي الناس، فجاءني أبو بكر، فأخذ الدلْوَ من يدي؛ ليروِّحني، فنزع دلوين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، فجاء ابن الخطاب فأخذ منه، فلم أرَ نزع رجلٍ قطُّ أقوى منه حتى تولى الناس والحوض ملآن يتفجَّر» .

وعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قلت: يا رسول الله! ألا تستعملني؟ قال: فضربَ بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذرٍّ! إنك ضعيف وإنها أمانةٌ، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامةٌ إلا من أخذها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها» رواه مسلم.

- الإلهام:

ومن خصائص القيادة الإلهام الذي يقوم على ثلاثة أمور:

أولها: الرؤيا الصادقة التي أخبر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بها. فعن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الرؤيا الصالحة جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة» رواه البخاري. وعند أبي داوود عن أبي هريرة أن رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول: هل رأى أحدٌ منكم الليلة رؤيا؟ ويقول: إنه ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة» .

وثانيها: الفِراسة والتوسُّم في الأمور: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: ٧٥] قال مجاهد في تفسير المتوسمين: أي: «المتفرِّسين» ، كما أورده ابن كثير، وأورد عن ابن أبي حاتم حديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا فِرَاسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله» ، ثم قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} (والحديث عند الترمذي) .

وثالثها: الحَدْس: والفارق بين التفرس والحدس أن الأول: استنتاج من المعطيات الملموسة والواقع المشاهد، أما الحَدْس: فهو شيء ينبثق في النفس، وشعور لا دليل على صدقه، كونه يسبق الحدث وينطق بذاته، فيوافق الحق ويطابق الحقيقة.

جاء عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: «إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم مُحَدَّثون؛ وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب» رواه البخاري. وفي مسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أن رسول الله كان يقول: «قد كان يكون في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي منهم أحدٌ فإن عمر بن الخطاب منهم» .

قال ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ في (فتح الباري) : (قوله: مُحَدَّثون، بفتح الدَّال جمع محدَّث، واختُلِف في تأويله فقيل: مُلْهَم، قَالَهُ الأكثر. قالوا: الْمُحَدَّث بِالْفتح هو الرَّجُل الصَّادِق الظَّنّ، وهو من أُلْقِيَ فِي رُوعه شيء من قِبَل الملأ الأعْلَى فيكون كالذي حدَّثَه غيره به، وبهذا جزم (أبو أحمد العسكري) . وقيل: من يجرِي الصواب على لسانه من غير قصد، وقيل: مُكَلَّم، أي: تكلمه الملائكة بغير نُبُوَّة، وهذا ورد من حدِيث أبي سعيد الخدري مرفوعاً ولفظه: «قِيل: يا رسول الله! وكيف يُحَدَّث؟ قال: تتكلم الملائكة على لِسانه» . رويناه في «فوائد الجوهري» ، وحكاه القابِسِي وآخرون، ويؤيده ما ثبت في الرواية المعلَّقة. ويحتمل رَدّه إلى المعنى الأول أي: تُكلِّمهُ فِي نَفْسه، وإِن لم يَرَ مُكَلِّماً فِي الحقيقة فيرجِع إلى الإلهام، وفسره (ابن التِّين) بِالتَّفَرُّس، ووقع فِي مسند (الحُمَيْدِيّ) عَقِب حدِيث عَائِشة «المحدَّث: الْمُلْهَم بالصواب الذي يُلْقَى على فِيهِ» وعند مسلم من رواية (ابن وهب) : «مُلْهَمونَ، وهي الإصابة بِغيرِ نُبوَّة» ، وفي رواية التِّرْمذيّ عن بعض أصحاب ابن عُيينةَ: «مُحَدَّثُونَ، يعني: مُفَهَّمُونَ» وفي رواية الإسماعيليّ: «قال إبراهيم ـ يعني ابن سعد ـ: قوله: مُحَدَّث أي: يُلقى في رُوعه» انتهى، ويؤيده حديث: «إِنَّ الله جعل الحقّ عَلَى لِسان عمر وقلبه» أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، وأحمد من حَدِيث أبي هريرة، والطَّبراني من حدِيث بلال، وَأَخْرَجَهُ فِي «الأوْسَط» من حديث معاوِية، وفِي حديث أبِي ذَرّ عند أحمد وأبي داود «يقول به» بدل قَوْله: «وقلبه» وصححه الحاكم، وكذا أخرجه الطَّبراني فِي «الأوسط» من حديث عمر نفسه) .

ثم قال ابن حجر: «والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الموافقات التي نزل القرآن مطابقاً لها، ووقع له بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة إصابات» .

- الشخصيات القيادية ميالة لإبداء آرائها:

إن الشخصيات القيادية ميالة لإبداء آرائها؛ وآراؤها لا تأتي من فراغ، بل هي حصيلة موهبة إلهية وكسب ذاتي، وكذلك طرح اجتهاداتها للآخرين؛ فهي معطاءة في فكرها، كما أنها معطاءة في أدائها ووجدانها، فاعتراضات موسى ـ عليه السلام ـ على الخضر لم تأتِ من فراغ وخواء؛ بل هي من طبيعة موسى وتكوينه الشخصي الذي لا يرتضي أن يغلق باب التعبير عن الرأي على نفسه.

إن الشخصية القيادية بطبيعتها متمردة على الاستسلام للآخرين ما لم تقتنع وتتيقن من الآراء والأفكار المطروحة عليها، لكنها في المقابل إذا اقتنعت تنطلق غير مولية على شيء.

وجاء عند (ابن إسحق) عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر قال: أيُّ قريش أَنْقَلُ للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي. فغدا عليه، قال: وغدوت أتبع أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت. حتى جاءه، فقال له: أعلِمتَ يا جميل! أني أسلمت، ودخلت في دين محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فواللهِ ما راجعه حتى قام يجر رداءه، واتَّبعه عمر واتبعته أنا، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش ـ وهم في أنديتهم حول الكعبة ـ: ألا إن ابن الخطاب قد صبأ.

ويروى أن عبد الله بن مسعود كان يقول: كان إسلام عمر فتحاً، وهجرته نصراً، وإمارته رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر؛ فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة، وصلينا معه.

عمر بن الخطاب هذا هو نفسه الذي قال عنه عامر بن ربيعة ـ وقد ذكرت له زوجته رقة عمر في هجرتهم إلى الحبشة ـ: أَطَمِعتِ في إسلامه؟ فقالت: نعم! فقال لها: «فلا يُسْلِمُ الذي رأيتِ حتى يُسْلِمَ حمارُ الخطاب» ! قال ذلك يأساً منه لِمَا كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام.

ورغم الآية الكريمة التي كانت تنهى المؤمنين عن أن يقدِّموا بين يدي الله ورسوله، إلا أن طبيعة عمر بن الخطاب ظلت بطابَعها السباق تقدم الآراء وتقترح الحلول وتطرح اجتهاداتها، والرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتفهم هذه الطبيعة في عمر ويشهد لها، بل ولتفوقها؛ فعند الترمذي عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» . وقال ابن عمر: «ما نزل بالناس أمرٌ قط فقالوا فيه وقال فيه عمر إلا نزلَ فيه القرآن على نحو ما قال عمر» .

- الشخصية القيادية شخصية جاذبة، تألف وتُؤلف:

إن الشخصية القيادية شخصية جاذبة، تَأْلَفُ وتُؤْلَف، تؤثر في الخلق بسلوكها وقيمها ومبادئها وشخصيتها الفذة، وهي في الوقت ذاته شخصية بليغة ذات بيان وتذوُّق للمعاني والصور والعبارات. وهي تستطيع محاورة الآخرين وإقناعهم وإيصال الأفكار إليهم، وهي ببساطة: تقدم للناس مشروعاً مشتركاً، وترسم لهم منهجاً واضحاً، وتبرز لهم معالم الطريق، وتحدد لهم الهدف دون تعقيد أو تمويه.

إنها تسهّل الأفكار وتبسط المعاني ليكون الجميع عارفاً مقتنعاً مشاركاً ... لذلك أُعطي الأنبياء الفصاحة والبلاغة، وأعُطي نبينا الخاتم «جوامع الكَلِم» فإن أغلب ما يؤثِّر في الناس الرسالة الخطابية المناسبة الصحيحة.

لكن الأبلغ في هذا الجانب، هو ذلك الفيض من الوجدان وتلك المشاعر الفيَّاضة والروحانية العذبة التي تنبثق العبارات البليغة منها. فالقادة المؤمنون يحملون أسمى الروحانيات؛ فرجاؤهم بالله عظيم جداً، حتى في أصعب اللحظات يفجِّرون ينابيع الأمل.

{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إنَّا لَمُدْرَكُونَ} . [الشعراء: ٦١]

{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: ٨٧] .

{إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: ٤٠] .

إنهم لا يتركون مدخلاً لليأس والقنوط والعجز والانهيار عليهم أو على من تبعهم؛ بل يبذرون دائماً الأمل والفأل الحسن، ويبشرون بالخير، ويعززون الطموح، ويزرعون الثقة.

والقيادة بهذه المعطيات تمتلك الصلاحيات التالية: توقع الاحتمالات، إعادة ترتيب الأولويات، تغيير الخطة، وضع الحلول البديلة، توسيع دائرة الوسائل، تقدير المخاطر، اختيار الصف القيادي الثاني، وغير ذلك من القضايا، وفي ذلك توظيف لطاقاتهم الكبيرة واستغلال لمواهبهم المتعددة.

ربما يوصفون بالمغامرة؛ لكن هذا نابع عن شجاعتهم وميزة الريادة لديهم، ومهما كلفت مغامراتهم الأمة فإنها تترك في الأجيال القادمة روحاً متوقدة تردد:

على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ وتأتي على قَدْرِ الكرامِ المكارمُ

وتقول:

وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسادُ

إن مغامرات القادة محاولات في البناء يجب ألاَّ يلاموا عليها بقدر ما يجب تشجيعهم ونصحهم، واستدراك الخطأ لديهم. والذي يعرف سيرة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع القادة من صحابته يدرك هذا؛ والشواهد كثيرة، منها: محاولة تفسير أبي بكر لرؤيا الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وموقف عمر من ابن صياد، وحادثة خالد بن الوليد مع بني جذيمة، وغير ذلك الكثير.

إن هذا الأسلوب في التشجيع والاهتمام هو ما أدركه الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في سيرة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - حتى في تعاملهم مع أبنائهم؛ فعن ابن عمر قال: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها وإنها مثلُ المسلم، فحدِّثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييتُ، ثم قالوا: حدِّثْنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة» .

وفي رواية: «فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتَها أحب إليّ من أن يكون لي كذا وكذا» .

ومن مشكلاتنا التي نعاني اليوم منها إغفالنا لهذه المعاني في القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، على صاحبها أتم الصلاة والتسليم، وذهبنا نحشو مكتباتنا من كتب الغرب وعاداتهم في القيادة، وكأننا لم نُترَك على المحجة، ولم تأتنا كاملة ثرية، ولم يكن لنا سلف ولا تاريخ.

ولو أننا عدنا إلى الوحي المنزل وإلى الرعيل الأول وأئمة الهدى من بعدهم لوجدنا الكنوز في ذلك.

وختاماً: فإنّ من واجبات المرحلة اليوم إخراج القادة وبعثهم وإطلاقهم، هذا واجب الأمة وعلمائها بالدرجة الأولى، حتى لا يتخذ الناس رؤوساً جهالاً وأئمة ضلال، ويعبث بالأمة «السادة» و «الكبراء» الذين لا يملكون من خصائص وملامح القيادة الراشدة شيئاً ... وحسبنا الله ونِعْمَ الوكيل.


(١) مسند أحمد رقم ٦٦١٣.
(٢) الحاكم في المستدرك رقم ٢٤١٥، ٤٩٩٤.
(١) راجع: حديث فرض الصلاة ليلة الإسراء والمعراج، في البخاري ومسلم.
(٢) انظر الحديث في سنن الترمذي، في مناقب عمر.