للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأوائل]

منصور بن محمد المقرن

يقوم عدد من المراكز العلمية والباحثين بتقليب صفحات التاريخ ومتابعة الأخبار اليومية لمعرفة الأشخاص الأوائل في كل علم وفن؛ فيحرصون على معرفة مَنْ أول من اكتشف كذا، وأول من قال كذا، وأول من فعل كذا، ونحو ذلك.

والناس عموماً مشغوفون بالتقارير والكتب والأبحاث التي تتحدث عن الأوائل، فلا يكادون يعرفون شيئاً عنهم حتى يبادروا إلى الحديث عنهم في مجالسهم وملتقياتهم. إلا أن الغريب والعجيب في الأمر هو ندرة من يسعى ويجتهد لأن يكون من الأوائل أنفسهم؛ فيبادر إلى أمر صالح لم يسبقه إليه أحد، أو يسارع إلى إنجازٍ لم يبلغه غيره، أو يأتي بفكرة جديدة ينتفع بها خلق كثير.

وفي الشرع الحنيف نصوص كثيرة تحثُّ على ذلك وتشوق النفوس إليه:

منها: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من سنَّ في الإسلام سُنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء» (١) ، وهذا الحديث بشارة نبوية ومنحة ربّانية لمن بادر إلى الأعمال النافعة غير المسبوقة. وسبب هذا القول النبوي أن قوماً من مُضر جاؤوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد بلغ بهم الفقر والجهد مبلغه، فسألوه العون، فقام ـ عليه الصلاة والسلام ـ خطيباً يدعو الناس للصّدقة، فكان أول من قام رجل يحمل بين يديه صرّةً كادت كفّه تعجز عن حملها، ثم تتابع الناس على أثر ذلك المشهد المحفّز.

قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ عند شرحه هذا الحديث: «فيه الحثُّ على الابتداء بالخيرات وسنِّ السُّنن الحسنات.. وسبب هذا الكلام في هذا الحديث أنه قال في أوله: فجاء رجل بصرّة كادت كفّه تعجز عنها فتتابع الناس. وكان الفضل العظيم للبادئ بهذا الخير، والفاتح لباب هذا الإحسان» (٢) .

ومنها: ما ورد عن بعض الأنبياء ـ عليهم السلام ـ من سرورهم واغتباطهم بأن جعلهم الله ـ تعالى ـ من الأوائل، فهذا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أنا أول من يُؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يُؤذن له أن يرفع رأسه..» الحديث (٣) . وقال ـ أيضاً ـ: «أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشقُّ عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع» (٤) .

ومنها: توسُّل الصالحين إلى الله ـ تعالى ـ بكونهم من الأوائل، فهؤلاء سحرة فرعون لما أسلموا وتوعّدهم فرعون بالقتل قالوا: {لا ضَيْرَ إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: ٥٠ - ٥١] ، فهم ـ رضي الله عنهم ـ لما فعلوا ما فعلوا ـ من ممارسة السحر، وتسخيره في دعم طغيان فرعون ـ طمعوا أن يغفر الله لهم ذلك كله بكونهم أول من آمن بموسى عليه السلام.

ومنها: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد رتّب أجراً أكثر لمن يعمل عملاً ينجح فيه من أول مرة عمّن ينجح فيه في المرة الثانية وما بعدها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل وَزَغَةً في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة ـ لدون الأولى ـ وإن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة ـ لدون الثانية» (٥) .

قال النووي ـ رحمه الله ـ: «وأما سبب تكثير الثواب في قتله بأول ضربة ثم ما يليها فالمقصود به الحثُّ على المبادرة بقتله والاعتناء به، وتحريض قاتله على أن يقتله بأول ضربة؛ فإنه إن يضربه ضربات ربما انفلت وفات قتله» (٦) .

فإذا كانت المبادرة إلى قتل حيوان حقير بسرعة ـ حتى لا يفوت ـ عليها أجر، فكم فات الدعاة من الأجور بضعف المبادرة إلى المشاريع والأعمال الخيرية (١) ؟

ومنها: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أوجب الجنة لأول من يغزو في البحر، وكذلك لأول من يغزو مدينة قيصر، فقال في الحديث الصحيح: «أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أَوْجَبوا. ثم قال: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم» (٢) . ويظهر ـ والله أعلم ـ أن من الأسباب التي أوجبت لهم الجنة ما في مبادرتهم من تضحية عظيمة ومخاطرة جسيمة، حيث لم يسبق لأحد من المسلمين أن ركب البحر للغزو، وأهوال البحر ووحشته معلومةٌ لمن ركبه مسافراً آمناً، فكيف بمن ركبه ليحارب عدوّه فيه؟ كذلك لم يسبق لأحد من المسلمين أن غزا الروم في عقر دارهم، ولا يخفى قوة الروم آنذاك عند قتالهم في أطراف ثغورهم، فكيف بمن يقاتلهم عند عاصمتهم؟

ولذلك فالفارق كبير جداً بين من يبادر إلى عمل غير مسبوق كثير الأعباء والتبعات، وبين من ينتظر نتائج تلك المبادرة؛ فإذا رأى نجاحها لحق بأهلها ليشاركهم الأجر، وقد قال الله ـ تعالى ـ: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: ١٠] .

وهنا تعليق جميل لسيد قطب ـ رحمه الله ـ يحسن ذكره، حيث يقول: (إن الذي ينفق ويقاتل والعقيدةُ مطاردةٌ، والأنصارُ قلّة، وليس في الأفق ظل منفعة ولا سلطان ولا رخاء.. غيرُ الذي ينفق ويقاتل والعقيدةُ آمنةٌ، والأنصار كثرة، والنصر والغلبة والفوز قريبة المنال. ذلك متعلّقٌ مباشرة بالله، متجرد تجرّداً كاملاً لا شبهة فيه، عميق الثقة والطمأنينة بالله وحده، بعيد عن كل سبب ظاهر وكل واقع قريب، لا يجد على الخير عوناً إلا ما يستمدّ مباشرة من عقيدته) (٣) (٤) .

ومنها: إظهار تعظيم الله ـ تعالى ـ لأماكن مخصوصة بكونها أول ما بُني للعبادة، فقد قال ـ تعالى ـ عن الكعبة المشرفة: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: ٩٦] . وذكر ـ سبحانه ـ أن أحقَّ المساجد أن يقوم فيه نبيه - صلى الله عليه وسلم - هو أول مسجد أسّسه عند دخوله المدينة، فقال ـ سبحانه ـ: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: ١٠٨] . فسبحان الله! حتى البقاع يزداد شرفها بكونها من الأوائل.

ولما كان هذا فضل المبادرة إلى الأعمال غير المسبوقة؛ كان للصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ النصيب الأوفر من ذلك؛ فأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ أول من أسلم من الرجال، وأول خطيب دعا إلى الله ـ تعالى ـ جهاراً في مكة، وأول من جمع القرآن. وعمر الفاروق ـ رضي الله عنه ـ أول من أرَّخ من الهجرة، وأول من وضع الديوان. وعثمان ذو النورين ـ رضي الله عنه ـ أول من هاجر بأهله من المسلمين. وغيرهم كثير.

بل قد كان بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يفرح أنه من الأوائل ويُحدِّث بذلك؛ فهذا أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ يقول في قصة إسلامه: «فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فكنت أول من حيَّاه بتحية الإسلام» (٥) .

وهذا عبد الله بن الحارث ـ رضي الله عنه ـ يقول: «أنا أول من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يبول أحدكم مستقبل القبلة، وأنا أول من حدَّث الناس بذلك» (٦) .

وأخيراً: فإن من أعظم ما يدفع للمبادرة إلى الأعمال النافعة غير المسبوقة العلمَ بفضلها وأجرها وأثرها ـ وقد سبقت الإشارة إلى طرف من ذلك ـ ثم عدم احتقار النفس باعتقاد أنها لا تقدر، أو احتقار العمل المراد إنجازه وأنه لا يستحق أن يُبادر إليه.

فأما احتقار النفس فلنا في حَبْر الأمة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أسوة حسنة، حيث لم يمنعه قِصَرُ صحبته الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - ولا صغر سنّه أن يدلي برأيه في مجلس فيه أكابر الصحابة رضي الله عنهم (٧) .

وأما عدم احتقار العمل المراد إنجازه ففي توجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفاية عندما قال: «لا تحقرنّ من المعروف شيئاً» (٨) ، وفي رواية لأحمد: «لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تعطي صلة الحبل، ولو أن تعطي شِسْع النعل، ولو أن تنزع من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تنحّي الشيء من طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق، ولو أن تلقى أخاك فتسلِّم عليه، ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض» (٩) .

فأيُّ شيء من أعمال الخير النافعة للمسلم أو لمجتمعه مهما كانت صغيرة ينبغي المبادرة إليها.

وصلَّى الله وسلَّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


(١) أخرجه مسلم: ١٠١٧.
(٢) شرح صحيح مسلم: ٧/١٠٥ ـ ١٠٦.
(٣) أخرجه أحمد: ٢٠٧٤٤.
(٤) أخرجه أبو داود: ٤٠٥٣.
(٥) أخرجه مسلم: ٢٢٤٠.
(٦) شرح صحيح مسلم: ١٤/٤٥٥ ـ ٤٥٦.
(١) ويستفاد من الحديث أيضاً: أن لا ييأس المبادر عند إخفاقه في المرة الأولى، بل يكرر المحاولة إلى أن ينجح.
(٢) أخرجه البخاري: ٢٧٠٧.
(٣) في ظلال القرآن: ٣٤٨٤.
(٤) ويدخل في هذا الفضل من أحيا سُنّة قد اندثرت، أو أتمَّ أعمالاً ومشاريعَ خير قد تُركت وهُجرت.
(٥) أخرجه مسلم: ٤٥٢٠.
(٦) أخرجه أحمد: ١٧٠٤٧.
(٧) مع التنبّه لحظوظ النفس ومقاصدها بألا يكون مرادها المدح والثناء. كما أن في سيرة ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ملحظاً للآباء لتحفيز أبنائهم وتربيتهم على عدم انتقاص أنفسهم والمبادرة إلى ما يحسنون.
(٨) أخرجه مسلم: ٤٧٦٠.
(٩) أخرجه أحمد: ١٥٣٨٩.