للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الرؤية المركَّبة

(١ - ٢)

د. عبد الكريم بكار

في هذا الكون عدد كبير من الثنائيات، حيث نلمس في حياتنا المعنويَّ والمادي، والقريبَ والبعيد، والمباشرَ وغير المباشر، والمرئيَّ والخفي، والذاتيَّ والغيري، وقويَّ التأثير وضعيفه، والمرادَ وغير المراد، والمقصودَ والعفوي ... وهذه كلها تؤثر في حياتنا وقراراتنا ونجاحاتنا على درجات متفاوتة. ويمكنني أن أتشجَّع وأقول: إننا إذا دقَّقنا النظر في كل ما يحيط بنا، فإننا لن نجد أي شيء يمكن أن نصفه بأنه بسيط أو أحادي، حيث إن الأسباب والظروف والمعطيات التي تكتنف حياتنا ليست معزولة، وإنما هي ذات علاقات وامتدادات كثيرة وطويلة؛ وهذا كله يفرض علينا ألا نركن إلى الفهم الجزئي السريع، وأن نحاول دائماً توسيع الرؤية حتى نتمكن من إدراك كل أبعاد الظواهر التي نعايشها. إن من سنن الله ـ تعالى ـ في الخلق احتياج الظواهر الإنسانية الكبرى إلى تفسير معقد يشتمل على عدد من العوامل والأسباب، وإن من الابتسار ومجانبة الصواب اللجوء إلى الاقتصاد في اكتشاف العوامل المؤثرة في وجود الأشياء وتطورها. وقد تعوَّد كثير من الناس الاختزال، والمسارعة إلى التفسيرات الغريبة لما يرون ويسمعون من أحداث وأوضاع، وهذا دفع بهم في اتجاه اللجوء إلى المعالجات الجزئية لمشكلات ذات أسباب مركَّبة ومعقدة، ومن الطبيعي حينئذ أن يكون الإخفاق أعظم من النجاح. ولعلِّي أسوق بعض الأمثلة الموضحة لما أقول:

١ ـ الفقر:

الفقر ظاهرة عامة واسعة الانتشار، وهو فعلاً من الظواهر الكبرى التي يعاني منها أعداد كبيرة من الناس، وثمَّة مساعٍ عالمية كبيرة جداً من أجل الحدِّ من انتشاره. وأعتقد أن المدخل للعلاج على المستوى العام وعلى المستوى الشخصي يكون بتكوين رؤية مركّبة للأسباب التي تجعل الناس عاجزين عن الوصول إلى إشباع حاجاتهم الأساسية، ولعلَّ من هذه الأسباب الآتي:

ـ العيش في بلد شحيح الموارد، حيث لا تكون هناك معادن يمكن تسويقها، ولا أراضٍ خصبة أو مياه كافية لزراعة المحاصيل بكميات كبيرة..

ـ وجود نظام سياسي وإداري فاسد وغير كفء، ينشر التحايل بين الناس على كسب الرزق، ولا يهيِّئ الحد الأدنى من تكافؤ الفرص.

ـ عدم توفر الحد الأدنى من البنية التحتية المطلوبة لإنعاش الاقتصاد، مثل: الطرق والمطارات والموانئ والسوق المالية المنظمة والمدارس الجيدة والجامعات المتميزة ...

ـ وجود عقيدة جبرية مستبطَنة، تدفع الناس نحو القعود عن طلب الرزق وبذل الجهد، وذلك كاعتقاد أن الرزق مقسوم مع التقاعس عن الأخذ بالأسباب وبذل المساعي في تحقيق الغايات.

ـ النشوء في أسرة محطمة تربِّي على اليأس والاحتجاج عوضاً عن التفاؤل والإيجابية.

ـ السكنى في موقع جغرافي أو معزول عن التواصل مع العالم الخارجي.

ـ وجود عادات وتقاليد تدفع إلى الإسراف وسوء التدبير.

ـ مؤسسات تعليمية مهترئة لا تخرِّج الكفاءات المطلوبة لسوق العمل.

ـ الجهل بالأصول والآليات التي تساعد على إدارة الموارد الشحيحة والإمكانات المحدودة.

ـ وجود حروب أهلية أو نزاعات قبلية أو طائفية، مما يؤدي إلى إنفاق المتوفر من المال على التسليح ومتطلبات الفوز في الصراع.

هذه العوامل العشرة هي العوامل الأساسية في انتشار الفقر، وإن كان لا بد من ملاحظة أنه لا يكاد يخلو بلد مسلم من العديد منها، كما لا بد من ملاحظة أنها موجودة بنسب متفاوتة بين بلد وآخر، كما أنها تتفاوت أيضاً على مستوى الأشخاص. وإن التحدي الذي يواجه كل من يريد معالجة ظاهرة الفقر هو محاولة الاقتراب من معرفة الوزن النسبي لكل سبب من الأسباب السابقة؛ لأن هذه المعرفة ضرورية جداً لمعرفة المجالات التي ينبغي تركيز الجهد فيها؛ بسبب حيوية تأثيرها في إصابة الناس بالفقر والعَوَز. وقد تكون الدراسات الإحصائية والمسحية هي السبيل الأمثل لتحصيل تلك المعرفة.

إن من الطبيعي أن يؤدي التركيب في رؤية الأسباب إلى توليد رؤية مركّبة على مستوى الحلول والمعالجات، وفي هذا الإطار فإننا لم نتمكن إلى اليوم من بلورة خطة شاملة لمعالجة الفقر في أي بلد إسلامي ـ فيما نعلم ـ يأخذ القائمون عليها بعين الاعتبار كل العوامل التي أشرنا إليها، وهذا بسبب عدم الاهتمام وبسبب ما ألفناه من تبسيط الأمور.

\ ملامح الرؤية المركَّبة لعلاج الفقر:

أـ القيام بتعريف الفقر ودراسة توصيف أوضاع من هم تحت خط الفقر.

ب ـ تحسين وعي الناس بالعلل والأدواء المترتبة على انتشار الفقر.

جـ ـ القيام بحملة واسعة لمكافحة الفساد الإداري بوصفه أداة لنشر الظلم والفقر.

د ـ في حالة شحِّ الموارد الطبيعية يتم التركيز في خطط التنمية على الاستثمار في المعلوماتية والتقنية والصناعات الإلكترونية والدقيقة والمتطورة بسبب قلّة ما تحتاجه من المواد الخام.

هـ ـ التركيز في التربية الأسرية على أخلاق العمل، مثل: الجِدّية والأمانة والدقّة والإنجاز والتعاون.. كما يتم الاهتمام ببثِّ روح التفاؤل والاستبشار والثقة بسعة فضل الله ـ تعالى ـ وكرمه.

وـ إيجاد بيئة قانونية ونظمية تحفز على تدفق الاستثمارية الأجنبية بوصفها أدوات جيدة لتوفير فرص العمل للمواطنين.

ز ـ إصلاح التعليم، ومساعدة التعليم الأهلي بسخاء، وممارسة رقابة صارمة عليه.

ح ـ مساعدة الشباب على إقامة مشروعات صغيرة ذات تكلفة منخفضة.

ط ـ نشر حب الخير، وتشجيع العمل الإغاثي والتطوعي، وتشجيع كل المؤسسات التي لا تهدف إلى الربح.

ي ـ توفير أكبر عدد ممكن من مراكز التدريب التي تمكِّن الفقراء من اكتساب المهارات المطلوبة للانخراط في سوق العمل.

ك ـ إثراء الجانب الروحي في حياة المسلمين بوصفه مطلباً شرعياً، وبوصفه مصدراً للمسرَّات المجانية، وبوصفه باعثاً على التقليل من الاستهلاك. وهناك لا شك العديد من التدابير الأخرى.. وسأعرض في المقال القادم ـ بإذن الله ـ لذكر مثال آخر على بلورة الرؤية المركبة، ومن الله ـ تعالى ـ الحول والطول.