للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عوامل الاستقرار]

أ. د. عبد الوهاب بن لطف الديلمي

إن الأمن والاستقرار من أهمِّ مطالب الحياة؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يقوم بالعبادة على الوجه المطلوب، ولا أن يمارس أي عمل من شؤون الحياة اليومية ما دام الخوف مخيماً، والقلق والاضطراب يسيطر على الأفراد والجماعات، ذلك أن الإنسان في ظل فقدان الأمن يصبح مستهدَفاً في ماله ودمه وعرضه يترقب متى تنزل به مصيبة.. ومن هنا ندرك أهمية الحاكم المسلم الذي يحفظ على الناس حقوقهم العامة والخاصة. وإذا كان هذا يعني: ضرورة إقامة السلطان؛ فإن من أهمِّ الأمور أيضاً ـ بعد وجود الحاكم ـ ضرورة حسن العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ لأن الحياة لا تستقيم إلا بالتعاون بينهما؛ فالإسلام قد أوجب على الحاكم واجبات بمقتضى ولايته، كما ألزم المحكومين بواجبات نحو المحاكم، فإذا ما قام كل منهما بواجبه استقامت الحياة واستقرت. ومن أهمِّ واجبات الحاكم أمران:

١ ـ إقامة العدل الذي لا يعرف المحاباة، ولا المداهنة، بحيث يستوي في إقامته الغني والفقير، والكبير والصغير، والرجل والمرأة، والحاكم والمحكوم؛ حتى يشعر الناس بعدم التمييز بين الأفراد والطبقات، وأنهم يعيشون في ظل الإسلام الذي بعث الله به رسوله رحمةً للعالمين، وبهذا يتحقق قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا ... } الآية [النساء: ١٣٥] .

٢ ـ الاهتمام البالغ من ولاة الأمور، وأهل العلم بالدعوة إلى الله ـ تعالى ـ وبذل الجهد في تربية الفرد والأسرة والمجتمع، بحيث تتكاتف جهود الجميع بالقيام بهذه الفريضة التي كادت تغيب من مجتمعات المسلمين، فإن نوازع الشر الكامنة عند كثير من الناس لا يمكن كبحها وإطفاء جذوتها، إلا بغلبة جانب الخير عند المرء وبقوة الإيمان، وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتعاهد أصحابه بالمواعظ، وهم السابقون إلى الإسلام، الذي عاصروا نزول الوحي، وعاش بين أظهرهم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ فالانحراف في حقهم مستبعد، ولذا يقول الله ـ تعالى ـ في شأنهم: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ... } الآية [آل عمران: ١٠١] . ومع ذلك لم يكونوا في غنى عن التذكير بصورة دائمة والتربية والموعظة، وهذه كانت إحدى مهمات الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ التي بعثه الله ـ تعالى ـ لتحقيقها، قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ... } الآية [آل عمران: ١٦٤] .

وفي الصحيح عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتخوّلنا بالموعظة في الأيام، مخافة السّآمة علينا» متفق عليه.

وفي هذا دليل على تعاهده ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأصحابه بالموعظة في غير ما إفراط ولا تفريط.

والوصول إلى هذه الغاية ـ أعني: التأسِّي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر ـ لا يمكن تحقيقه إلا من خلال دوام التذكير، والتربية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتأتَّى كل هذا إلا بالأمور التالية:

أـ أن تتوجه وسائل الإعلام بجميع أشكالها إلى خدمة هذا الهدف العظيم، بحيث لا تنشر شيئاً مناقضاً ولا مصادماً لما يراد الوصول إليه من بناء المسلم السوي في تصوراته، وسلوكه، وأخلاقه، ومعاملاته، ومن باب أَوْلى عقيدته وعبادته.

ب ـ أن تتاح الفرصة للعلماء والدعاة بالمشاركة الواسعة في هذا المجال.

جـ ـ أن تنظم ندوات ومحاضرات علمية للدعاة في أماكن عامة، يُدعى إلى حضورها عامة الناس، على أن يتم اختيار موضوعات معينة، تعالج بعض الظواهر السلبية.

د ـ تشجيع كل من يساهم في هذا العطاء، مثل: خطباء المساجد وأئمتها، والكُتّاب، ودور التسجيلات الإسلامية، والعاملين في الجامعات والمعاهد والمدارس، ودور القرآن الكريم، والمدرسين فيها، وكذا تشجيع العاملين في المؤسسات الخيرية، التي تسعى إلى رفع المعاناة عن كاهل الشرائح المحرومة كلها، وتمثل همزة الوصل بين الأغنياء والفقراء، وتحيي روح الأخوة الإيمانية من خلال التكافل، وبذلك يسهل تربيتهم وتوجيههم وتحصينهم من الأفكار والدعوات الدخيلة.

هـ ـ القضاء على كل مظاهر الفساد والإفساد، بحيث لا يرى المسلم ولا يسمع في مجتمعه وبيئته أينما اتجه إلا ما يساعد على استقامته على الحق، ويحيي في نفسه معاني الفضيلة والخير، ويقوي عنده دوافع الخير، ويجعله شديد الرغبة في الاستمساك بدين الله ـ عز وجل ـ في جميع شؤونه.

وـ إسناد وظيفة الحسبة إلى جماعة من أهل العلم ممن منحهم الله ـ سبحانه ـ القدرة على حسن التعامل مع الناس بالحكمة، وسداد القول، وحسن التوجيه؛ حتى يقوموا بواجبهم في إنكار المنكر، ومعرفة جوانب الخلل والانحراف الذي قد يظهر في المجتمع، على أن يكونوا قدوة صالحة في إبراز أخلاق الإسلام، وفضائله، بحيث يتمثل فيهم قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ... } الآية [آل عمران: ١٥٩] .

فإن تقويم سلوك الناس وحملهم على الحق لا يأتي عن طريق الغلظة والفظاظة، ولا تُغرَس الفضيلة في النفوس برفع السياط على الأظهر، فإن القسوة في التعامل قد تحدث سلوكاً متكلَّفاً مفتعلاً، يتحلل الإنسان منه كلما غابت عنه رقابة البشر وسطوته، وهذا أمر غير مطلوب؛ لأنه لا يعطي النتيجة المرجوة، بل المطلوب هو تقوية الإيمان، وغرس القناعة التامة بالسلوك السويّ، وأن يغلب على الداعية صفة الرحمة والرفق واللين والحلم؛ فقد كانت وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى ومعاذ ـ رضي الله عنهما ـ حيث بعثهما إلى اليمن أن قال لهما: «يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تُنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا» متفق عليه.

والتيسير ـ في إطار الشرع ـ مطلوب، خاصة مع كثرة الفتن اليوم، وشيوع الدعوات الهدامة، وانفراط عقد الأمة، وغياب هيبة السلطان، وهيبة العلماء.

ولا ينبغي أن تنحصر محاولة إقامة الناس على الحق في تتبُّع زلاتهم، وإنزال العقوبات والحدود على من يتجاوز حدود الشرع بالوقوع في المعاصي، فإن الإسلام لم يشرع إقامة الحدود من أجل إنزال العقوبات بالناس، وإنما شرعها بعد أن ضرب سياجاً قوياً على الفرد والأسرة والمجتمع من الإيمان والأخلاق، وقضى على مظاهر الفساد، ويسّر مجالات الكسب والعمل، ودعا إلى تيسير الزواج وحارب الأغلال التي تحول دون تحصن الشباب والشابات من وقت مبكر، ونشر التوعية في الأمة، وأقام العدل، وتعاهد العاجزين عن العمل والعاطلين عنه، وأحسن توزيع ثروة بيت مال المسلمين؛ إلى غير ذلك من الضمانات التي تحول دون الوقوع في الجريمة، ثم بعد ذلك إذا وُجِدَ في المجتمع أصحاب الشذوذ في أخلاقهم وسلوكهم يقام عليهم الحدّ عند وجود موجبه.

وهذا الأمر بهذه الصفة لا يكاد يوجد اليوم في أي مجتمع من المجتمعات المسلمة، وإن ادّعت بعضها لنفسها أنها تحتكم إلى الإسلام، وتحكم به، وتقيم حدوده.

والسير على غير هذا المنهج انحراف عن مسار الإسلام الصحيح، وتشويه لحقيقته ومقاصده، وإساءة إليه بفتح ثغرات ينفذ منها أعداء الإسلام للطعن فيه والتشكيك في أهدافه ومقاصده وحقيقته، ويبوء بالإثم كل من كان سبباً في ذلك.

ولا ننسى ما للسلطان من تأثير طيب بالغ في زجر الناس عن اقتراف المعاصي، إذا ما كان قدوة حَسَنةً في سلوكه، مُمَكِّناً للإسلام في سلطانه، وما أصدق قول عثمان ـ رضي الله عنه ـ: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» .

وإذا أصبح الناس يمارسون السلوك القويم، والأخلاق الحسنة؛ طواعيةً دون رهبة من السلطان، ولا خوف من رقابة الناس، فهذا دليل على نجاح الدولة التي استطاعت أن ترتقي برعاياها إلى هذا المستوى الرفيع، وأراحت نفسها من عناء ملاحقة المنحرفين، ورصد الأموال والرجال لتتبُّع أحوال الناس وسلوكهم وجعل الحياة مشحونة بالتوتر والقلق والريبة.

أما إذا كان الفرد في المجتمع لا يمارس السلوك السوي إلا تحت قهر السلطان، ومراقبة القانون، فهذا دليل على فشل الدولة في تربية أبنائها وحملِهم على مزاولة الحق رغبةً فيما عند الله ـ سبحانه ـ، وخضوعاً وانقياداً لأمره ونهيه.

وهنا لا بد من الإشارة إلى بعض العوامل التي تحمل على الانفلات والتحلل من الواجبات الشرعية، والوقوع في المنكرات، وغياب الوازع الإيماني؛ حتى يقوم العقلاء بتحاشيها، والتحذير منها، وإغلاق منافذها:

من هذه العوامل:

١ ـ إشاعة وسائل الفتنة في المجتمع وتيسير الوقوع في الفاحشة.

٢ ـ عدم التزام وسائل الإعلام بنشر الفضيلة، وترك الحبل على الغالب في الدعوة إلى ما يثير الشهوات أو يُعلِّم طرق ممارسة الجريمة، أو يروّج للكذب، أو يشوه تاريخ المسلمين، أو يرفع من شأن العابثين بالأخلاق أو بمقدرات الأمة، ويرفع كذلك من شأن سقط المتاع.

٣ ـ الاكتفاء بمجرد إقامة الحدود من قِبَل الحاكم ـ إن أقامها ـ، وقد يقيمها على طائفة دون أخرى، دون محاربة ما يدعو إلى الوقوع في الجريمة.

٤ ـ غياب رقابة ولي أمر الأسرة وملاحظةِ سلوك من ولاّه الله عليهم: من زوجة وولد وغيرهما، أخْذاً بحديث: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته..» .

٥ ـ وجود طبقات مترفة، لا تعبأ بأخلاق الإسلام، ولا تلتزم بآدابه، ولا تحسن التعامل مع سائر الطبقات الأخرى، مما يوجد الانفصام داخل المجتمع الواحد، ويغرس الضغائن والأحقاد.

٦ ـ التناقض الواضح في سلوك بعض من يدّعي الإسلام، مثل: التعامل بالربا وإشاعته والترويج له، والتشجيع على لعب الكرة دون ضوابط تجنّب سلبياتها التي تؤدي إلى ضياع الأوقات والأموال، وإثارة الأحقاد، وكشف العورات، ودون أن يكون هناك هدف شرعي يحقق مصلحة عامة للأمة من وراء ذلك. إلى غير ذلك من الأعمال المصادمة للشرع.

٧ ـ فتح الباب على مصراعيه لاستقدام العمالة، وخاصة الذي يعملون في البيوت داخل الأسر، مما أدّى إلى الدمار والخراب وهدم البيوت الذي لا ينكره أحد، خاصة من قِبَل الذي لا يدينون بالإسلام، بل الذين قد يكون لهم أهداف في تقويض مجتمعات المسلمين ونشر الفساد فيها.

٨ ـ مزاحمة أصحاب النفوذ لعامة الناس في معاشهم، والتحكم في مصادر العيش إلى حدِّ تضييق الخناق على كثير ممن يمارس الأعمال الحرة، مما يضطر الكثير إلى المهاجرة بأموالهم لاستثمارها خارج ديار المسلمين، هذا إذا لم يتعرض بعضهم للإفلاس مما يسبب كارثة على المسلمين.

٩ ـ تحجيم رسالة المسجد والتضييق على الدعاة.

١٠ ـ عدم الرجوع إلى العلماء عند النوازل، وعدم الأخذ برأي أهل الرأي من خلال إحياء الشورى بصورتها الصحيحة في شرعة الإسلام.

وفي الختام أسأل الله ـ تعالى ـ أن يبصِّرنا جميعاً عيوبنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يوفقنا إلى خدمة ديننا وأمتنا، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير (آمين) .


(*) وزير عدل سابق، ونائب رئيس جامعة الإيمان في صنعاء حالياً.