للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرؤية المركبة (٢ ـ ٣)]

د. عبد الكريم بكار

تحدثتُ في المقال السابق عن (الفقر) بوصفه نموذجاً، نرى من خلاله أسباب هذه الظاهرة، وما يمكن أن يُطرح من حلول لمعالجتها، ووعدتُ بتقديم نموذج آخر لما نريد تقريره في شأن التفكير المعقَّد، وقد رأيت أن أتحدث اليوم عن (التعليم) عبر المفردات الآتية:

١ ـ تتخذ أمم كثيرة من التعليم اليوم مدخلاً رئيساً للتقدم والازدهار، والتخلص من الكثير من مظاهر التخلف. وهناك اعتقاد عالمي قوي بضرورة تطوير التعليم، كما أن هناك شكوى عالمية عامة من قصور المؤسسات التعليمية.

٢ ـ لدينا ميل شديد إلى التفسير الأحادي والرؤية البسيطة لما نراه من ضعف مؤسساتنا التعليمية على اختلاف مراحلها، والحقيقة أن معظم الناس يتحدثون عمَّا أدركوه إدراكاً فطرياً، أو ما انطبع في أذهانهم عن التعليم بسبب تجربتهم الفردية المحدودة. وقد أشرتُ في المقال السابق إلى أنه لا يصح تفسير الظواهر الكبرى بعامل واحد، وأنه لا بد من البحث عن العديد من العوامل التي تؤدي إلى ولادة الظاهرة الواحدة.

٣ ـ في تاريخنا الإسلامي تركيز شديد على نوعية الشيوخ والمعلمين الذين يمكن للمرء أن يأخذ عنهم، فإذا كان الشيخ عَلَماً في علم من العلوم، فإن الأخذ عنه يشكل فوزاً عظيماً لمن يتمكن من ذلك؛ وتزداد قيمة القراءة على الأعلام حين يقتضي ذلك السفر والرحلة من بلد إلى بلد.

٤ ـ لم يكن الارتباط بين المقدار الذي يحصِّله الطالب من المعرفة وبين الحصول على عمل أو على المال أو الرزق؛ واضحاً كالذي نراه اليوم، وهذا يؤثر في نظرة الناس إلى أهمية (العلم) في حياتهم.

٥ ـ لو تساءلنا عن أوضاع المؤسسات التعليمية لدينا مقارنةً بالمؤسسات التعليمية في البلدان الصناعية؛ فإننا سنجد عدداً من الفوارق التي يمكن أن نتحدث عنها على نحو من الظن والتخمين وعلى مقدار خبرتنا المحدودة، مع التنويه بأن ما سنذكره قد لا يكون موجوداً في كل مدارسهم وكل مدارسنا، فنحن هنا نتحدث عن عموميات، وليس عن مؤسسات بعينها. ومن تلك الفوارق الآتي:

ـ لدينا في قاعات الدراسة عدد أكبر من الطلاب، مما يجعل قدرة المدرِّس على التواصل مع جميع الطلاب دون قدرة المدرِّس لديهم.

ـ مدارسهم أغنى من مدارسنا بوسائل الإيضاح وبالمعامل والمختبرات وبالورش والمعدات ... كما أن نسبة المدارس المستأجرة لديهم إلى المدارس المملوكة للحكومة أقل.

ـ بداعٍ من قلة التجهيزات والإمكانات المادية يميل التدريس لدينا إلى الشرح النظري، على حين يميل التعليم لديهم إلى الاعتماد على التجربة والتطبيق، مما يجعل دور الطالب في العملية التعليمية أكبر، ويجعل ـ من ثم ـ استفادته من الدروس أعظم.

ـ يلاحظ في السنوات الأخيرة تراجع سوية الحماسة للتعليم لدى كثير من المعلمين لدينا، وتراجع سوية الحماسة للتعلُّم لدى كثير من أبنائنا، ولا أعرف أسباب ذلك على وجه التحديد، كما أنني لا أعرف الوضع الآن في الدول الصناعية بالنسبة إلى هذه المسألة.

ـ كثير من المعلمين العرب والمسلمين لا يحصلون على مرتبات كافية، مما يجعلهم مضطرين إلى القيام بعمل إضافي في المساء؛ كإعطاء الدروس الخاصة وغير ذلك.

ـ لم تعد مهنة التعليم لدينا جذّابة كما كان الوضع في السابق؛ بسبب ضعف عوائدها المادية، وبسبب تدنِّي المكانة الاجتماعية للمعلِّم في العقود الثلاثة الأخيرة، وهذا يعني أن أصحاب أفضل العقول وأفضل المواهب لا يجدون في مهنة التعليم خيارهم الأول!

ـ لدينا أعراف وتقاليد ثقافية موروثة لا تحبِّذ منح الطالب حقَّ تقويم أساتذته والحكم على أدائهم، ولا تحبِّذ فصل بعض المعلمين من الخدمة بسبب آراء طلابهم فيهم، وهذا جعل بعض المعلمين يتمتع بحماية، لا يحظى بها نظراؤه في بعض الدول المتقدمة.

ـ يأتي الطلاب في الدول المتقدمة من أُسر أفضل تعليماً من كثير من الأُسر لدينا، وهذا يجعل الدعم الذي يتلقاه الطالب لديهم للتفوق والاستمرار في التعليم أكبر من الدعم الذي يتلقاه الطالب لدينا.

ـ التعليم الحكومي ـ في معظم الأحيان ـ مرتبك في تطوير نفسه. أما التعليم الخاص، فلدينا عدد قليل نسبياً من المدارس الجيدة، وعدد كبير من المدارس التي لا نستطيع عدَّها بين المدارس الجيدة أو المقبولة.

والمشكل هو الطالب الفقير الذي يملك الموهبة ويملك الطموح، لكن لا يجد المدرسة الحكومية أو الأهلية التي تنمِّي مواهبه، وتحقق طموحاته. والتعليم في كل دول العالم يمتلك بعض المؤسسات الرديئة وبعض المؤسسات الجيدة، وإن كانت النسبة تختلف من دولة إلى أخرى، لكن الذي يميز الدول المتقدمة في هذا الإطار شيئان:

الأول: وجود تنوُّع هائل في التخصصات؛ بدءاً من المرحلة المتوسطة، حيث يجد الطالب بيُسْر التخصّصَ الذي يرغب إكمال دراسته فيه، على حين أن هذا قليل جداً في الدول النامية والتي تكافح لتوفير الحد الأدنى من المؤسسات والتخصصات في مجال التعليم.

الثاني: وجود مدارس وجامعات ومعاهد على مستوى عالٍ جداً من الجودة، وفي تلك المدارس والجامعات تتخرج الكفاءات التي تقود الشعوب، وتقدم نماذج عالية للأجيال الجديدة.

ـ لدى الدول المتقدمة جمعيات ومؤسسات وهيئات ومجالس خيرية تقدم الدعم للتعليم، وتقدم القروض والمنح للطلاب مما يسهم في حل المشكلات المالية لكثير من المؤسسات التعليمية؛ وهذا لدينا ضعيف للغاية.

خلاصة هذه المقارنة هي: أن لدينا تعليماً ضعيفاً بل رديئاً أحياناً، وبعض مشكلاته لا يُحل إلا عن طريق المال، وبعضها لا يحتاج إلى أيِّ مال. وهذا الكلام الذي ذكرناه لا يصح أخذه على عمومه، فقد يكون لدينا مدارس نموذجية راقية جداً، وقد يكون في الدول المتقدمة بعض المؤسسات التعليمية القائمة على الغش والتزوير والرّشوة، إذاً؛ نحن نتحدث عن الطابع العام، وليس عن حالات بعينها. ومن وجه آخر فإنني لم أتحدث عن بعض ما يميز التعليم لدينا، ولا عن بعض المشكلات التي يواجهها التعليم في الغرب؛ لأن الهدف هو تكوين رؤية مركبة لحال التعليم لدينا ليس أكثر.

في المقال القادم سأحاول ـ بإذن الله تعالى ـ طرح رؤية مركبة لمعالجة مشكلات التعليم على نحو مقارب.

والله الموفق.