للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيان الأدبي

[صور من الحياة]

د.عمر عبد الله

ما إن أخذت مكاني من الطائرة، حتى رأيت ذات الرجل ... كان أكثر

المسافرين حديثاً وانشراحاً ... ولم يترك فرصة لتقديم المساعدة لأحد إلا بادر..،

وعلى الرغم من جسده النحيل وقامته الصغيرة، فإنه بدا أكثر أهل الحافلة الجوية

نشاطاً!

أقبل نحوي وقال: يبدو أنك صديقي في الرحلة..، ومرافقي في المقعد. -

أجبت: يبدو ذلك.

استقر على الكرسي المجاور.. وتنهد ثم قال:

- كم من الوقت ويحل وقت المغرب؟

- ربع ساعة.

- اللهم يسر ولا تعسر.. لقد كان الجو لطيفاً اليوم.. حمداً لك يا واهب النعم. أخذ في ترتيل دعاء السفر ... ثم التفت إلي قائلاً:

- أتعرف أنني تعلمت هذا الدعاء من مذيع الطائرة ... جزى الله خيراً من

بادر لنشره وإذاعته.

-- يبدو أنك تسافر كثيراً؟ .

- نعم.. كل أسبوعين.. كل نصف شهر أسافر إلى الرياض لأخذ

«الكيماوي» .

- الكيماوي؟ !

- علاج.. لقد ابتليت بمرض خطير ... انظر ... ثم وقف يريني ندباً من

أثر الجراحات التي بدت متعددة.. استأصلوه من البطن لكنه انتشر في بقية الجسم

بعد عامين من العملية.. قضاء.. وقدر..!

-الحمد لله على كل حال.

وأخذت أسترسل معه في الحوار، فعرفت أنه فراش في دائرة حكومية وأنه

أب لسبعة أطفال أكبرهم في التاسعة، وبقية ذريته من الإناث، ثم تابع:

- تعرف يا أخي.. إن نعم المولى كثيرة..، ووالله إنني بخير.. أشعر أنني

بنعمة مادمت أدب على الأرض، وعقلي معي ولساني يلهج بالثناء لصاحب المجد

والملكوت.

سألته وقد كانت هيأته تدل على ضعف الحال:

- هل تملك داراً لك ولأولادك؟

- يا «مطوع» السعيد هو الذي يملك داراً هناك في الفردوس.. أما هنا

فالديار عارضة!

كان يصر على مناداتي بلقب (يا مطوع) وحينما أعلن دخول وقت الإفطار

أصر على أن لا ألمس أكل الطائرة قائلاً:

- أكل خواجات يا مطوع ... لا يصلح لنا، هاك التمر الحقيقي.. دع عنك

«المعلب» ! .

- كلاهما خير.

- نعم ولكن حلفت عليك إلا أن تأكل.

- شكرته وأكلت من قصعته ... فإذا به يفاجئني وقد أخرج قرطاسا مليئاً

«بالسمبوسة» وأقراص «الفلافل» .

- سم الله وكل يا مطوع.

- جزاك الله خيراً.

- أبداً يكفي اثنين، دائماً أحضر فطور جاري في المقعد.. أتعرف أجر

المفطر.. لا شك أنك تعرف يا مطوع..

- دعوت له وأخذت تحت إلحاحه آكل وأتحدث معه عن أسرته ومصاعبه

المادية فبدا إيمانه عميقاً، وتوكله مطلقاً مع ما يواجهه من نوائب.

- تعرف أنني لا أملك بيتاً ولكني مطمئن.. مطمئن تماماً لو نزل القضاء

قريباُ.

-كيف، هل هناك أقرباء يرعونهم؟

- يا مطوع.. كنت أحسبك ستفهم.. وراءهم من يطعم الطير في أعشاشها

ويرزق الأجنَّة في الأرحام.. لن ينساهم ربهم..، إنني أتركهم في حال أسعد من

حالي حين تركني والدي يتيماً ... دع عنك المستقبل وتأمينه.. لا يؤمن القادم إلا

رازق كل ذي كبد رطب! !

- صدقت، لكن الأسباب مطلوبة..

- علم الله أنني لم أقصر ... هاأنذا أقطع رحلتي السبعين طلباً للعلاج ...

وهاهم أهلي يطلبون مني أن أقلل من جهدي بسبب المرض.. إنني أعمل «قهوجياً» في حفلات الأعراس ... وهي مستورة ... مادام أنه رزق شريف، وكدح

لا يعيب.. فأنا بخير.

استمر الحديث حتى قطعته إطارات الطائرة وهي ترتطم بالأرض.. ولا

أدري لماذا شعرت بالارتباط بهذا الإنسان البسيط، لقد تعلمت منه معاني عظيمة

نعرفها جميعاً، لكن لا يطبقها أو يمارسها بتلك القناعة سوى من رزقوا توكل الطير

الخماص وهي تغدو، كم كان رائعاً وهو يضع مفاهيم القدر والسبب، وكم كان

مقنعاً وهو يعيش النظرية والتطبيق بلا انفصام، كم كان كريماً وهو الفقير، ومقداماً

وهو الضعيف، وشريفاً وهو المكافح، ومطمئناً في عصر القلق..

ودعته وأنا أقول كما قال أحد العلماء: «اللهم امنحني إيماناً كإيمان العجائز» وتفارقنا.. وأنا أصر أن يقبل دعوتي لإيصاله للمستشفى وهو يجيب بلهجة

حازمة:

- سائق سيارة الأجرة ينتظرني.. إني أعرفه، وأنا أعينه وهو أبو العيال

عندما أنقده الأجرة.. لا جعلك الله سبباً في قطع رزق محتاج! ! !

حقاً كم هو عظيم هذا الدين وهو يحول هذه الشخصيات إلى أمثلة للفطرة

السليمة والإيمان العميق في عصر القلق والبعد عن الله.