للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكومة الوحدة الفلسطينية هل تنجح في فك الحصار؟]

فرج شلهوب

تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية كنتاج مهم لاتفاق مكة الذي جمع حماس وفتح برعاية سعودية؛ رفع سقف التوقعات الفلسطينية بإمكانية فتح ثغرة في جدار الحصار المالي والسياسي على الشعب الفلسطيني المفروض منذ فوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي قبل نحو عام. بل إن هناك من المراقبين الصهاينة من ذهب إلى أبعد من ذلك، في أن نجاح الفلسطينيين في إنهاء حالة الاحتراب الداخلي وصولاً إلى تشكيل حكومة وحدة، هو نذير بخسارة الدولة العبرية ما راهنت عليه طوال الوقت: كسر حماس وإخراجها من المعادلة السياسية الفلسطينية عبر ضائقة الحصار المالي والسياسي، بعدما تعذَّر تطويعها للاعتراف بالدولة العبرية والقبول بشروط الرباعية، وهو ما عبَّر عنه رئيس الوزراء الصهيوني (إيهود أولمرت) في أول لقاء له مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بعد اتفاق مكة، بقوله له: (لقد خنتني) ، حيث كانت الجهود قبل الاتفاق (الفلسطيني ـ الفلسطيني) أمريكياً وصهيونياً وبمشاركة إقليمية ودولية وفلسطينية منصبّة على حشر حماس في خانة الاختيار بين الخروج من المعادلة السياسية أو القبول بشروط الرباعية، حتى لو اقتضى الأمر دفع الساحة الفلسطينية إلى حالة خطيرة من الجوع والإفقار والاقتتال الأهلي.

حكومة الوحدة إذاً وبتقديرات الكثيرين شكَّلت رافعة مهمة تسمح للفلسطينيين بمواجهة الضغوط الخارجية - وفي ذروتها الحصار المالي - من نقطة مختلفة، وعلى نحو انتقل فيه الطرف الفلسطيني من مربع ردِّ الفعل إلى مربع صناعة الفعل، فوحدة الموقف الفلسطيني أعطت ميزة مهمة وطاقة إضافية للفلسطينيين لمواجهة الضغوط الخارجية.

أولاً: باستجماع القوة الفلسطينية جميعاً للوقوف صفاً في مواجهة الحصار.

وثانياً: بإخراج طرف فلسطيني مهم ومؤثر من مربع الشراكة مع الصهاينة في فرض الحصار ونقله إلى مربع مقاومة الحصار.

وثالثاً: زيادة حجم الضغوط النفسية والعملية على الأطراف التي تقف وراء الحصار، فما يتم حصاره الآن ليس حكومة حماس، وإنما إجماع الشعب الفلسطيني.

دون أن نغفل أموراً أخرى أسهمت بفاعلية في بلورة القناعة بإمكانية كسر الحصار وتجاوز الفلسطينيين لما تفرضه عليهم الدولة العبرية من عقوبات، فوقوف المملكة العربية السعودية بكل ثقلها السياسي والاقتصادي والديني وراء اتفاق الفلسطينيين؛ أعطى هذا الاتفاق حصانة عربية وثقلاً دولياً، وهو ما ظهر جلياً في تردُّد الإدارة الأمريكية وتل أبيب في إعلان رفض اتفاق مكة، وارتباك أدائهما السياسي في التعاطي مع حكومة الوحدة الفلسطينية؛ قبولاً أو رفضاً.

وإذا كانت أطراف عربية قبل اتفاق مكة اختارت الوقوف في مربع فرض الحصار على حكومة الشعب الفلسطيني التي شكلتها حماس، فإن انحياز المملكة العربية السعودية إلى لعب دور أساس في إعادة ترتيب الأوضاع الفلسطينية، وعلى قاعدة الاعتراف بنتائج الانتخابات وتكريس الشراكة السياسية بين الفرقاء الفلسطينيين، أعاد صياغة الموقف العربي على القاعدة ذاتها اعترافاً وقبولاً بالشراكة، وهو ما عبرت عنه الأطراف العربية بقبول اتفاق مكة والانفتاح على حماس، بصورة أو أخرى.

والمراهنة الآن فلسطينياً على تقدم الموقف العربي خطوة عملية أخرى باتجاه كسر الحصار المالي، تنفيذاً لقرارات عربية سابقة تنتظر التفعيل، وتتوفر لها هذه الأيام فرصة للتحقق؛ فالإدارة الأمريكية تعيش أسوأ ظروفها في العراق وأفغانستان، وأزمتها مع إيران في تصاعد وتفاقم ولا تجد طريقها إلى الحل، فيما تزداد حاجة هذه الإدارة إلى دعم العواصم العربية الرئيسة؛ القاهرة والرياض، ما يعني أن خطوة عربية جادة لكسر الحصار لن تحظى بممانعة أمريكية قوية، فيما يتوفر للأطراف العربية ظروف عمل أكثر ملائمة للتقدم خطوة أكثر على هذا الصعيد وغيره، وما يجعل الأمر أكثر يسراً لا أخلاقية الموقف الأمريكي الصهيوني في فرض العقوبات على الشعب الفلسطيني على خلفية تصويته في الانتخابات بعكس ما تريد واشنطن وتل أبيب، وهو الموقف الذي بات يثقل دول الاتحاد الأوروبي ويدفع ببعضها للابتعاد عن التزام الموقف الأمريكي والصهيوني إزاء هذا الموضوع.

إن الموقف الرسمي العربي ـ وفي طليعته الموقف السعودي على خلفية رعايته للاتفاق الفلسطيني ـ بات ملزماً من الناحية الأخلاقية والسياسية فعل ما يستطيع لإنجاح الاتفاق الذي تم باحتضانه ورعايته، ولعل ما تستطيعه المملكة العربية السعودية والدول العربية من ورائها على هذا الصعيد شيء كثير، ودون الالتفات للموقف الأمريكي والأوروبي. وإذا ما قررت الرياض أن تتخذ خطوة عملية على صعيد كسر الحصار المالي، فإنه سيكون لموقفها هذا تداعيات مهمة، عربياً ودولياً، وربما شكَّل الخطوة الأهم في فرض الأمر الواقع على كل من الدولة العبرية والولايات المتحدة، في ظل حالة تفكك باتت واضحة في الموقف الدولي؛ أوروبا والأمم المتحدة، إزاء استمرار الحصار. ولن يمضي وقت طويل ليتم إقناع الأمريكيين والصهاينة بالكف عن عبثهم وضغطهم على الفلسطينيين، والمسألة هنا تعني شهوراً قليلة وليس سنوات، بل هناك من يراهن على أن الموقف الأوروبي ـ وتحديداً فيما يخص كسر الحصار المالي ـ قد بات محسوماً ولا يحتاج إلا إلى بعض الوقت لترجمته، وإن التلكؤ فقط يستهدف عدم الاصطدام مع الأمريكيين سريعاً. ومعلوم أن الاتحاد الأوروبي ـ وليس أمريكا ـ هو المانح الرئيس للمساعدات للفلسطينيين.

إن جملة من العوامل والمعطيات باتت تفرض نفسها على سياق الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني. وإمكانية أن تظل الدولة العبرية ـ وفق مزاج يخصها ـ ممسكة بزمام الأمر والنهي في هذه الجغرافيا المثقلة بالهموم والتوقعات؛ لم يعد أمراً ممكناً؛ فحكومة (أولمرت) ـ التي تجرعت قبل شهور قليلة هزيمة منكرة في لبنان ـ لا تستطيع أن تعيش على حد السيف، وهي في هذه الأيام تعيش أسوأ أوضاعها الداخلية ويتراجع التأييد لرئيسها إلى مستويات مفزعة، فيما استمرار أسر الفلسطينيين للجندي الصهيوني يضغط على أعصاب الحكومة الصهيونية، ويذكرها بخيباتها، وأن بوسع الفلسطينيين رغم ضعفهم:

أولاً: الاحتفاظ بالجندي الصهيوني الأسير تحت عين الدولة العبرية دون أن تكون قادرة على تحريره.

وثانياً: إن اعتراف كل الأمم لا يمنح الدولة العبرية الشرعية طالما أن الفلسطينيين لا يقرون هذا الاعتراف، وهو ما تفعله حماس التي ترأس حكومة الوحدة.

إن حكومة الدولة العبرية الآن أو بعد قليل من الوقت، باتفاق مع إدارة بوش أو بدفع وضغط منها ستقف أمام استحقاقين مهمين، ولا بد أن تدفع الثمن، بعدما دشَّن الفلسطينيون نهاية عصر التنازلات المجانية.. هذان الاستحقاقان هما:

الأول: صفقة تحرير (جلعاد شاليط) بعدما استحال عليها تحريره كل الوقت الماضي.

الثاني: توسيع التهدئة باتجاه الضفة الغربية بعد تعزيزها في غزة كشرط لدفع المسار السياسي ولو شكلياً، كما ترغب واشنطن وتخطط له.

فهل سيقبل الفلسطينيون أقل من تحرير أموال الضرائب الخاصة بهم والتي تحتجزها الدولة العبرية منذ نحو عام، والتي تجاوزت نصف المليار من الدولارات؟ وماذا بشأن استمرار الحصار وسياسات الإغلاق ومصادرة أموال الضرائب الفلسطينية مستقبلاً؟ لقد أظهرت اجتماعات الحكومة الصهيونية ـ التي انعقدت بعد تشكيل حكومة الوحدة الفلسطينية ـ تبايناً بين (أولمرت) وزعيم حزب العمل وزير الحرب الصهيوني (عمير بيرتس) ، ففي حين ضغط (بيرتس) لاتخاذ الحكومة الصهيونية قراراً بالتعامل مع وزراء الحكومة الفلسطينية الأعضاء في حركة فتح أو المستقلين، وتعزيز اللقاء مع (أبو مازن) لتنشيط العملية السياسية من أجل قطع الطريق على حماس، عارض رئيس الوزراء (إيهود أولمرت) فتحَ أي علاقة مع أيٍّ من وزراء الحكومة، وكانت حجته ـ التي من الممكن أن يكون فيها مقتله ـ أن (أبو مازن) ضعيف ولا يستطيع توفير البضاعة بالتعبير الصهيوني، وأن هنية وليس عباس هو الرجل القوي في غزة والضفة الغربية، ما يعني ـ حسب كلام (أولمرت) ـ أن طرح مبادرة سياسية مع عباس لا تقبل بها حماس، ويعجز (أبو مازن) عن تمريرها ستقود ـ حين يصبح الفلسطينيون أمام الجدار ـ إلى انتفاضة فلسطينية ثالثة لا تريدها الدولة العبرية، وهو ما عايشته بعد فشل مفاوضات بارك - عرفات في (كامب ديفيد ٢) باندلاع انتفاضة الأقصى في العام ٢٠٠٠م.

(أولمرت) وهو يقرأ هذا المسار يتجاهل أن استمرار الحصار وانسداد الأفق السياسي قد يدفع لما هو أسوأ مما يتوقع؛ فمن جهة: أي بديل يتوقعه الصهاينة إذا فشلت حكومة الوحدة الفلسطينية لهذا السبب أو ذاك؟ وهل ثمَّة ضمانة لاستمرار وجود سلطة فلسطينية من أي نوع في ظل تزايد الدعوات الفلسطينية لحل السلطة والعودة إلى معادلة (شعب في مواجهة احتلال) أو دعم خيار الدولة ثنائية القومية، بفعل الأمر الواقع وهو ما تخشاه الدولة العبرية أيضاً، المسكونة بإنجاز حلم الدولة اليهودية النقية من غير اليهود.. فيما الديمغرافيا الفلسطينية تنجز فعلياً على الأرض الأغلبية السكانية بين البحر والنهر العام القادم؟!

وحركة حماس كم يمكنها أن تنتظر لتتخذ قرارها إزاء استمرار الحصار ومحاولات شطبها من المعادلة السياسية، برغم كل المرونة التي أبدتها وتبديها للتعايش مع تعقيدات الوضع الفلسطيني؟ والأهم من ذلك هل يسع الدولة العبرية أن تغمض العين عما يجري داخلها وحولها وعلى مسافات ليست بعيدة عنها؟ وإذا ما قررت واشنطن أن تنسحب من العراق أو عجزت عن إيجاد حل لمعضلتها مع إيران؛ فماذا يمكن أن يحدث؟!

والواقع العربي هل يعيش في الفراغ خصوصاً بعد تردِّي القوة الردعية للدولة العبرية وتآكلها في لبنان وغزة؟ والحديث الصهيوني المتواصل عن استعدادات سورية وتزودها بالسلاح ودور إيراني محموم على تلك الجبهة؟ هل تقف المنطقة على شفير الحرب التي يمكن أن تندلع لأتفه الأسباب بفعل الاحتقانات الكثيرة وحجم التحشيد والاستعدادات؟ من الممكن أن تتجاهل حكومة الاحتلال كل هذا، إلا أنها لن تستطيع أن تتجاهل أن ثمّة شعباً مقهوراً تحتل أرضه وتفرض الوصاية على هوائه ومائه، بات ينزع للاستقلال مهما كلَّفه الثمن وهو في طور استجماع كل قدر من القوة ليفرض وجوده بخلاف ما يقرر الاحتلال ويرتب له، وأن الكثير من المعطيات الإقليمية والدولية تخدمه في هذا النزوع!!

والمحصلة من كل هذا أن إرادة الحصار بدأت تتراخى، وأن عوامل التآكل لاستمراره بدأت تفعل فعلها، وأنه لن يمضي وقت طويل حتى يقف الاحتلال الصهيوني أمام استحقاق: إما فك الحصار أو توقّع الأسوأ.


(*) مدير تحرير صحيفة السبيل الأردنية.