للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الحكومة الفلسطينية الجديدة.. والسقف المنخفض جداً

د. محمد مورو

تنفَّس الجميع الصعداء عقب نجاح كلٍّ من رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) في التوصل إلى اتفاق حول الحقائب الوزارية، ومن ثم ظهور حكومة الوحدة الوطنية القائمة على تقاسم السلطة بين كلٍّ من فتح وحماس، وهو الأمر الذي تأخر قرابة شهر كامل منذ توقيع اتفاق (مكة) وحتى تسوية الأمور والتراضي بوزير داخلية محدد والذي كان أكبر العقبات في هذا الصدد، ومن ثم إعلان الحكومة، ثم حصولها على ثقة البرلمان الفلسطيني في ١٧/٣/٢٠٠٧م.

ومن الملاحظ هنا أن البرلمان ـ الذي يتكون من ١٣٢ عضو ـ لم يحضر منه سوى ٨٩ عضواً؛ لأن الباقين ما زالوا خلف أسوار السجون الصهيونية؛ بعد اختطافهم لهم بمن فيهم رئيس المجلس الدكتور (عزيز دويك) . وهذه إحدى المفارقات والتحديات التي تواجهها الحكومة الجديدة!

على كل حال؛ فإن تلك الحكومة قد حصلت على أغلبية (٨٣) صوتاً من (٨٩) ؛ لأن أعضاء الجبهة الشعبية رفضوا التصويت لتلك الحكومة بدعوى أنها حكومة فتح وحماس فقط وليست حكومة الوحدة الوطنية، أما حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية فإنها أصلاً غير ممثَّلة في البرلمان الفلسطيني؛ لأنها رفضت أصلاً دخول الانتخابات البرلمانية، على أساس أن ذلك نوع من الاعتراف الضمني بمشروعية اتفاقية أوسلو، ومن ثم نوع من الاعتراف بالحكومة الصهيونية المحتلة.

ويرى بعضهم أننا الآن أمام ثلاثة اتجاهات في الواقع الفلسطيني: اتجاه يرى ضرورة التمسك بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر وعدم الاعتراف ـ من ثم ـ بأي اتفاقات موقعة؛ سواء كانت اتفاقات أوسلو أو قرارات ما يسمى بـ (الشرعية الدولية) أو (مقررات القمة العربية) .

والاتجاه الثاني يرى إقامة دولة فلسطينية على كل الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧م، أما الاتجاه الثالث فيرى الحصول على أي مكاسب حتى ولو كان إقامة الدولة على جزء من أراضي ١٩٦٧م؛ لأن هذا هو الممكن والمتاح.

حصلت الحكومة الجديدة على ثقة البرلمان، وأصبحت أمراً واقعاً، وفي خطاب تكليف الحكومة قال الرئيس محمود عباس (أبو مازن) : إن الفلسطينيين ينبذون العنف بكل أشكاله، ودعا الدولة العبرية إلى استئناف مفاوضات السلام؛ للتوصل إلى حلٍّ يستند إلى الشرعية الدولية.

أما رئيس الوزراء إسماعيل هنية فأكَّد أن حكومته ستعمل على إقامة الدولة الفلسطينية دون الاعتراف بالدولة العبرية، وقال: إن حكومته تحترم جميع قرارات الشرعية الدولية والاتفاقات التي وقَّعتها منظمة التحرير.

الملاحظة الأولى التي لاحظها المراقبون أن تلك الحكومة هي حكومة فتح وعباس أكثر منها حكومة حماس وهنية من زاوية الخطاب السياسي التي التزمت به، أو برنامجها الذي قدَّمته، ومن زاوية الحقائب الوزارية المسندة إلى كل طرف؛ فالحقائب الهامة والسيادية ذهبت إلى فتح، مثل: وزير الخارجية، ووزير المالية، وحتى وزير الداخلية إلى حدٍّ ما، مع الأخذ في الاعتبار هنا أن مجموعة الأجهزة الأمنية الموجودة على الأرض - ما عدا القوة التنفيذية - أصعبُ من أن ينجح أي وزير داخلية مهما كان انتماؤه من أن يطوعها خارج الولاء لفتح أو حتى لشخصيات داخل فتح لها أجندتها الشخصية وارتباطاتها الخارجية المعروفة، ومن ثم فإن التحدي الأكبر الذي ستواجهه هذه الحكومة، وسيكون الصراع في حقيقته حول بناء أجهزة أمنية حيادية لا تنتمي إلى تيار سياسي معين أو استمرار سيطرة فتح على تلك الأجهزة ومن ثم محاولة تذويب القوة التنفيذية التابعة لحماس في هذا الاتجاه.

٣ هل فرَّطت حماس في ثوابتها؟

تنفَّس الناس الصعداء ليس أملاً في أن تصبح حكومة الوحدة الوطنية ـ التي تم تشكيلها ـ قادرةً على حل مشكلات الحصار والتردي الاقتصادي والحل السياسي وإنهاء الفلتان الأمني، ولكن على الأقل؛ لأن الفشل في ذلك يعني عودة الاقتتال الداخلي بين حماس وفتح، وهو أمر يدمي قلوب كل الناس بكل ألوان الطيف السياسي الفلسطيني والعربي والإسلامي.

وهذا يدفعنا إلى تفهّم موقف حماس التي يرى بعضهم أنها فرَّطت في عدد من الثوابت أو أنها راوغت بالكلام المطاط حولها؛ لأن البديل كان صعباً ومروعاً، ولكن هذا الأمر يعني أن حماس تم استدراجها إلى الانتخابات أصلاً، ومن ثم تشكيل الحكومة من خلال خطة مبرمجة لدفعها تحت ضغط التلويح بالحرب الأهلية للقبول بما لا يمكن أن تقبله من قبل، ومن ثم فإن الحصار الأمريكي والصهيوني، والحرب التي شنَّتها قطاعات معينة داخل فتح لها ارتباطات أمريكية وصهيونية كان لدفعها دفعاً في هذا الاتجاه.

أيّاً كان الأمر فإن تمسك حماس بالثوابت أصبح أمراً عليه بعض الغبار، فلا يمكن ـ مثلاً ـ أن يقول إسماعيل هنية ـ رئيس الوزراء التابع لحماس ـ إن حكومته تحترم قرارات الشرعية الدولية! والاتفاقيات التي وقَّعتها منظمة التحرير الفلسطينية، مثل: أوسلو، وواي ريفر، والقاهرة، وخارطة الطريق، وقررات القمم العربية.. إلخ، ثم يقول بعدها أنه لا يعترف بالدولة الصهيونية.

وبديهي أن الكلمات المطاطة هذه لن تجدي شيئاً في المسألة، فلا يمكن في علم المنطق الجمع بين المتناقضات، وكل ما يأمله المحبّون لحماس أن يكون ذلك من باب الضرورات التي تبيح المحظورات، وألا يستمر مسلسل النزول؛ من وثيقة الاتفاق الوطني، إلى برنامج حكومة الوحدة الوطنية، إلى القبول بقرارات الرباعية الدولية.. إلخ. وأما أن يكون القول حول أن ذلك يمثل الحكومة ولا يمثل حركة حماس ذاتها حتى ولو كانت مشاركة في الحكومة فهذا ـ فيما نحسب ـ كلام ليس له رصيد على أرض الواقع، خصوصاً وأن حركة حماس - وليست حكومة حماس - حتى الآن في تهدئة فعلية مع الكيان الصهيوني، رغم أن الجيش الصهيوني ـ مثلاً ـ قام باقتحام مدينة نابلس في اليوم نفسه الذي تم فيه أداء الحكومة لليمين الدستورية!

أكثر من هذا فإن وزير الخارجية زياد أبو عمرو ـ وهو من فتح طبعاً ـ ولكونه وزيراً ضمن وزارة يرأسها إسماعيل هنية طبعاً ويعبِّر عن الوزارة كلها وفقاً للأعراف الدستورية التقليدية؛ قد صرَّح عقب تشكيل الحكومة مباشرة لصحيفة (جيورزاليم بوست) الصهيونية أن برنامج الحكومة الجديدة ينطوي على اعتراف صريح بـ (الدولة الصهيونية) ، وأن هذا الاعتراف تضمّن في العديد من بنود هذا البرنامج الذي يتحدث عن احترام الاتفاقات الموقعة، ومن بينها: الاعتراف المتبادل بين الدولة العبرية ومنظمة التحرير، علاوةً على اتفاقية أوسلو.

ويبدو أن قيادات حماس كانت تدرك ذلك كله وتعرفه مسبقاً وأنها كانت بين خيارين أحلاهما مرّ؛ فإما الاستمرار في الحرب الأهلية، والانسحاب من الحكومة والسلطة والعودة إلى قواعدها، فتثبت أن خيارها كان فاشلاً من البداية، وأن خيار حركة الجهاد كان أصوب عندما قالت: إنه لا يمكن الجمع بين السلطة والمقاومة معاً؛ لأنهما نقيضان، ولأن للسلطة تحت قاعدة أوسلو ضروراتها الحتمية التي لا تتفق مع خيار المقاومة. وسيكون هذا الانسحاب بالنسبة لحماس يعني أنها فشلت في تحقيق ما وعدت به شعبها، ومن ثم فإنها تتخلى عن الشعب الفلسطيني لصالح عصابة ولصوص خطفوا قرار السلطة، وإما ـ وهو الخيار الثاني ـ أن تقبل بالهروب إلى الأمام وقبول حكومة وحدة وطنية مع تقديم تنازلات على المستويين السياسي والداخلي.. غير أنها قد اختارت الطريق الأخير على أساس أن الأيام ستضعف قبضة الذين خطفوا قرار فتح، وأن بالإمكان عدم التنازل أكثر منذ ذلك، وأن (الحكومة الصهيونية) لن تقدِّم شيئاً على المستوى السياسي يمكن قبوله، ومن ثم فهي لن تضطر إلى توقيع اتفاقات لا تقبلها، وأنها يمكنها ـ من ثم ـ تحقيق نجاح داخلي، دون التوسط في أمور وصفتها هي من قبل بالخيانة.

ولكن هل المسألة بمثل هذه البساطة، وهل حركة حماس بإمكاناتها وقدرتها على المناورة وذكائها الحمساوي تستطيع أن تحقق تلك المعادلة الصعبة.

٣ سياسة العصا والجزرة:

الموقف الأمريكي والصهيوني يتّسم بالغطرسة ليس تجاه الحكومة الجديدة فقط، ولكن تجاه اتفاقية مكة كلها، ولا ترضى أمريكا والحكومة الصهيونية بغير تصفية حماس، تماماً، وإنهاء جناحها العسكري (كتائب عز الدين القسام) ، وكذلك الجناح المقاوم في فتح (كتائب شهداء الأقصى) ، وخضوع كلٍّ من فتح وحماس للتوجهات الأمريكية والصهيونية، بل إننا نكاد نقول: إن (كونداليزا رايس) وزيرة الخارجية الأمريكية جاءت إلى المنطقة عقب اتفاق مكة في محاولة أخيرة لإفشال الاتفاق ومنع تنفيذه وإقامة حكومة الوحدة الوطنية، وجاءت مرة أخرى بعد تشكيل الحكومة الجديدة للهدف نفسه، وتحاول كل من الولايات المتحدة والحكومة الصهيونية الضغطَ بأقصى درجة على الوضع الفلسطيني في اتجاه إما (الخضوع الكامل) من جانب حماس أو ما تسميه بالقبول بمبادئ الرباعية، وتحديداً إنهاء وجود كتائب عز الدين القسام، وتغيير كل ثوابت حماس، وإما استمرار الحصار والتجويع والاعتداءات الصهيونية العسكرية، وهذه السياسة تفسر الموقف الأمريكي الصهيوني من الحكومة الجديدة؛ فرئيس الوزراء الصهيوني دعا إلى مقاطعة الحكومة الجديدة، بل ووصل الأمر إلى حدِّ التهديد بمقاطعة وزراء من فتح في الحكومة حتى المعروفين بـ (الاعتدال) ؛ لأن هؤلاء على حد قول المصادر الصهيونية لا يمكن النظر إليهم بمنظور آخر؛ لأنها حكومة واحدة تستفيد جميع وزاراتها من الأموال المحولة إليها بما فيها الوزارات التي يتولاها أعضاء حركة حماس.

في الإطار نفسه قال المتحدث الرسمي باسم الحكومة الأمريكية: إن الحظر الذي تفرضه الولايات المتحدة على المساعدات للحكومة الفلسطينية سيظل قائماً. وعلى جانب موازٍ فإن المراقبين لمسوا تغيّراً طفيفاً من الدول الأوروبية تجاه موضوع الحصار بعد تشكيل الحكومة الجديدة، فوزير الخارجية النرويجي (ريموند يوهانسن) التقى رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية - وهو من حماس طبعاً - وهذا يعني: تخفيف المقاطعة الدبلوماسية الأوروبية للحكومة الفلسطينية، وهذا هو الاجتماع الأول بين هنية ودبلوماسي أوروبي رفيع المستوى منذ أن نجحت حماس في الانتخابات التشريعية. وفي الإطار ذاته قالت مجلة (ديرشبيجل) الألمانية: إن مسؤولاً رفيع المستوى في الخارجية الألمانية قال: (إن القيادات الفلسطينية بذلت مجهوداً كبيراً؛ فإذا تخلَّى الأوروبيون عنها بعد إعلان الحكومة الجديدة سيكون ذلك خطأ فادحاً) .

وبديهي أن تخفيف الحصار الأوروبي سيكون له مقابل سياسي سوف يطلب الأوروبيون دفعه في اتجاه تحقيق شروط الرباعية، فهل هي إذن عملية تقسيم أدوار حتى ولو بدون اتفاق مسبق بين أوروبا وأمريكا والحكومة الصهيونية؟!

٣ على ماذا تراهن حماس؟

لا يمكننا بالطبع أن نتصور أن قيادة حماس من الغباء بحيث إنها مستعدة للتخلِّي عن الثوابت أو طريق المقاومة أو جناحها العسكري، فبديهي أن ذلك سيقتل حركة حماس فوراً وبالسكتة القلبية، ومهما كانت (براجماتية حماس) ومرونتها فإنها غير قادرة على ذلٍّ أبداً، وإلا لانتهت صدقيتها، بل وصدقية التيار الذي تمثله أو تنتمي إليه في العالم كله، وهو ثمن باهظ، ومن ثم فمن الضروري أن تبحث عن تفسير آخر، وأعتقد أن حماس تراهن على أن الحكومة الصهيونية لن تقدم شيئاً يمكن أن يقبله أحد، ولا حتى فتح، ومن ثم فالطريق هنا مسدود، وسوف يضيع الوقت حول هذا الأمر، ولن تغير تلك الحكومة وأمريكا سياستهما، حتى تنتهي فترة الحكومة والعودة إلى (انتخابات تشريعية جديدة) فإما أن يكون الواقع قد تغير داخلياً، وإما تنسحب حماس من دخول الانتخابات أصلاً تحت أي ذريعة.

وإن قبول حماس ـ من ثم ـ بشروط فتح في حكومة الوحدة الوطنية يعطيها الوقت والمناورة لتحسين أوضاعها الداخلية، ويقرب حماس من الحكومات العربية، ويحقق نوعاً من الدعم العربي - الحتمي في تلك الحالة حتى لو لم توافق أمريكا على ذلك - للشعب الفلسطيني؛ ومن ثم تحقق حماس شيئاً من تحسين ظروف الفلسطينيين؛ لأن الحكومات العربية ـ بعد أن وافقت حماس على القرارات العربية ـ لم يعد هناك مبرر لاستمرار قبولها الضغط الأمريكي بشأن حصار حماس، وهكذا فإن هذه الدول سواء أقبلت أمريكا أم رفضت ستقوم بدعم الحكومة الجديدة وإنهاء حالة الحصار المفروضة عليها.

تلك ـ طبعاً ـ مناورة صعبة تقوم بها حماس، والله نسأل التوفيق لكل من يريد الخير للأمة والشعب الفلسطيني، ونسأله ـ تعالى ـ أن يخذل من خذلهم وأن ينصر من نصرهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.


(*) رئيس تحرير مجلة المختار الإسلامي.