للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الدعوة إلى الله بين

الأسلوب والمضمون

د. صلاح عبد الفتاح الخالدي

وجوب الدعوة إلى الله:

يتفق المسلمون على أهمية الدعوة إلى الله، ويتحدث كثيرون عن وجوبها

على المسلمين، ونحن مع هؤلاء في وجوب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر ونشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، وتذكير الناس ووعظهم

ونصحهم ... إن هذا واجب على جميع المسلمين، على اختلاف مستوياتهم، ولكن

هذا الواجب يتفاوت بتفاوت المسلمين علماً وفطنة وأسلوباً ومركزاً وعملاً ووقتاً..

وهذا الوجوب مستفاد من آيات كثيرة صريحة في القرآن.. كما في قول

الله - سبحانه -: [ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [آل عمران: ١٠٤] ، وقوله سبحانه -: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ

بِاللَّهِ] [آل عمران: ١١٠] وقوله - سبحانه -: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي] [يوسف: ١٠٨] وقوله - سبحانه -[ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل: ... ١٢٥] ، وقوله - سبحانه -: [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنكَرِ واصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ] [لقمان: ١٧] .

من أصناف المدعوين واستقبالهم للدعوة:

استقبال المدعوين للدعوة إلى الله ليس على صورة واحدة مطردة، ولكنهم

ينقسمون إلى أصناف عديدة: فمنهم من يرضى بها ويُقبل عليها ويتفاعل معها،

ويستجيب لأصحابها، ويثني عليهم ويتقبل كلامهم، ويدعو لهم، وهذا الصنف

الطيب الخيِّر موجود بكثرة بين جماهير المسلمين.

ومنهم من يغلق قلبه أمامها، ويصمّ أذنيه عن سماعها، ويعرض ويدبر

ويتولى، ويرفض أن يتفاعل معها.

ومنهم من يرفضها ويتوجه إلى الداعين بالاتهام والسخرية والاستهزاء

والانتقاد، ويجعلهم هم السبب في رفض الدعوة، ويتهمهم في أسلوبهم ومنطقهم

وتعاملهم مع المدعوين.. يتهمهم بالتزمت والتعصب والعنف والقسوة والإيذاء.

ومنهم - وبخاصة إذا كان صاحب مركز أو سلطان - مَن يرفض الدعوة

ويتهم أصحابها، ثم يوقع بهم من الإيذاء والتعذيب والاضطهاد ما يوقع، ويصدر

في حقهم من الاتهامات والانتقادات والإشاعات ما يصدر.. إنهم متعصبون..

متطرفون.. يصدون الناس عن الدين..

نصائح في عرض الدعوة:

يقوم بعض المسلمين -وبخاصة ممن يشغلون مراكز إسلامية رسمية - بتقديم

نصائح للدعاة بخصوص عرض الدعوة، ومخاطبة المدعوين بها، ويظهرون فيها

حرصهم على توصيلها وحسن تقديمها.. ويستشهدون في هذه النصائح بآيات من

القرآن تدل على أسلوب الدعوة، وبعض هؤلاء الناصحين لا ينقصه حسن النية

ونبل الباعث، ولكنه قد ينقصه حسن الاستدلال والاستشهاد والفهم لمعانى الآيات..

الآيات التي يستشهدون بها:

يعتمد هؤلاء الناصحون على آية صريحة في أساليب الدعوة إلى الله، وهي

قول الله - سبحانه: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل: ١٢٥] ويستخرجون منها أساليب عرض الدعوة على

المدعوين، ويقولون إنها ثلاثة أساليب: الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال

بالتي هي أحسن.. ويطالبون الدعاة بالتزامها في مخاطبة المدعوين.. وهذا حق

وواجب، لا مرية فيه..

فهم بعضهم للمقصود بالحكمة والموعظة الحسنة:

والعجيب أن بعضهم يفهم المقصود بالحكمة والموعظة الحسنة فهماً خاطئاً

يفرغ به الدعوة من جوهرها ومضمونها وغايتها، ويخلطون فيه خلطاً شديداً بين

أساليب عرض الدعوة وبين جوهرها ومضمونها، فيعممون الأسلوب على

المضمون والجوهر.

يستخدم بعضهم هذه الآية في أساليب الدعوة في اتهام دعاة صريحين جريئين

في دعوتهم، ويعتبرون هذه الصراحة والجرأة منافية للحكمة والموعظة الحسنة،

ويصنفون هذه الفضائل ضمن المعوقات، ويجعلون صاحبها متصفاً بالتطرف

والتزمت والتشدد والعنف والحدة والقسوة والانفعال والإساءة.. أما المتصف ...

بالحكمة والموعظة الحسنة - عند هؤلاء - فهو الذي يقبل بالانحرافات، ويرضى

بتصرفات أصحابها، ويرتاد الأماكن والمجالس والمحافل التي تجري فيها مخالفات

شرعية، ويتباسط مع المخالفين فيها، ويسكت عن البيان والدعوة والنصح..

أما إذا قام بالنصح في هذه المجالس والمحافل، والتذكير والوعظ لأصحابها،

فإنه مجانب لأساليب الدعوة الحكيمة، متصف بالغلظة والشدة والقسوة..

أما إذا قام بالإنكار وغادر المجلس، أو لم يحضره أصلاً، فإنه متصف

بالتزمت والتعصب والتطرف.. والإسلام بريء من كل هذا والدعاة لا يتصفون

بهذا! ! .

الدعوة بين الأسلوب والمضمون:

إن هؤلاء - كما قلنا - يخلطون بين أسلوب عرض الدعوة وطريقة الاتصال

بالمدعوين، وبين جوهر الدعوة ومضمونها وما يقال للمدعوين عنها. وإن الخلط

بين هذين الأمرين، وعدم التمييز والتفريق بينهما يوقع بعض المسلمين في خطأ في

فهم الآيات، وخطأ في التعامل مع الآخرين، وخطأ في توصيل الدعوة لهم، وخطأ

في تقديم الدعوة لهم، وخطأ في النتائج التي قد يحققونها من خلال ذلك. وهي -

كما قلنا - مبنية على خطأ أساسي وهو المتعلق بفهم آيات الدعوة وإدراك معانيها

واستخراج دلالاتها..

الفرق بين الأسلوب والمضمون:

هناك فرق واضح بين الأمرين، بين الأسلوب والمضمون. بين المنهج

والطريقة، بين جوهر الفكرة وأسلوب تقديمها، بين الموضوع وكيفية تقديمه..

فرق بين ماذا نقول للناس وبين كيفية هذا القول للناس، وآداب تقديمه للناس..

وأي خلط بين هذه الأمور في موضوع الدعوة يوقع الدعاة والمدعوين،

والناصحين الموجهين، والناقدين المنظِّرين في نتائج خاطئة.

الأسلوب أو الطريقة أو الكيفية إنما في آداب الدعوة وعرضها وتقديمها للناس. في الصورة التي نقدم الدعوة من خلالها. والإطار الذي نضعها فيه، والآداب

التي نراعيها فيها.. في شكل الداعية الخارجى في مظهره وهندامه وتصرفاته

وحركاته.. في طريقته في العرض والكلام.. في نبرة صوته وقسمات وجهه

وحركات يديه وانفعالات كيانه.. في طريقة اتصاله بالمدعوين وتعامله معهم وتقديم

نفسه ودعوته لهم..

أما المضمون والجوهر فهو في نفس الكلام الذي يقوله وليس طريقة قوله..

في الحقيقة التي يقررها وليس في طريقة تقريرها.. في الموضوع الذي بينه وليس

في طريقة بيانه والتعبير عنه..

وبعض الناس يجعل المضمون والجوهر والحقيقة والفكرة من الأسلوب ...

والطريقة، فيقع في تحريف وتمييع في هذا المضمون والجوهر، ولا يقدم

الحقيقة كما يريد الله، فيخطئ في تقديم الدعوة، ويقصر في تبليغها.. ... هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا:

كل من أمعن في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطريقته في

تبليغ الدعوة ومخاطبة الآخرين، يرى الفرق واضحاً بين أسلوبه في عرض الدعوة

ومضمونها الذي بلّغه للناس، يرى الفرق واضحاً بين طريقته في مخاطبة الناس في

الدعوة وكيفية هذه المخاطبة، وبين الموضوع الذي خاطبهم فيه..

أساس دعوته ومضمونها وجوهرها: أن يوحدوا الله، ويؤمنوا برسوله -

عليه الصلاة والسلام -، هذا لم يتغير في أي ظرف أو زمان أو مكان. هناك

حقائق وقواعد وأسس لم يتنازل عنها أو يتراجع، ولم يفاوض حولها أو يهادن أو

يساوم: إن المؤمنين هم أهل الجنة، وإن الكافرين هم أصحاب النار، إن الكافرين

ليسوا على دين، وإن الحق حق والباطل باطل، وإن المعروف مطلوب والمنكر

مذموم متروك.. إلى غير ذلك من الحقائق الثابتة والقواعد الراسخة..

أما أسلوبه في تقديم هذه الحقائق، والصدع بهذه الأوامر، فقد كان متصفاً

بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن..

ودوا لو تدهن فيدهنون:

لقد أزعج الكافرين ثبات الرسول -صلى الله عليه وسلم- على مضمون

الدعوة وجوهرها. وعدم تراجعه عنها ومساومته عليها، ونجاحه في سلوك

الأسلوب الناجح في عرض هذه الحقائق وتقديمها للناس.. أزعجهم تفريقه بين

الأسلوب والمضمون، وفصله بين ما يجب أن يقال وكيفية وطريقة أن يقال..

ولهذا أرادوا أن يساوموه ويداهنوه، أرادوا منه أن يتراجع عن موقفه،

ويتنازل عن خصائصه..

[ودُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] [القلم: ٩] أرادوا أن يضيعوا المضمون ويميعوا

الحق، فعرضوا عليه الالتقاء في منتصف الطريق: نعبد إلهك يوماً وتعبد آلهتنا

يوماً! ؛ فجاء الحسم من الله في عدم المساومة على الحقائق [قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ

(١) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢) ولا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (٤)

ولا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ (٦) ] [سورة الكافرون] .

أرادوا أن يحرفوه عن الحق الذي معه، وأن يفتنوه عن الذي أوحاه الله إليه:

[وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً

* ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ

وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً] [الإسراء: ٧٣-٧٥] .

نماذج من الحقائق التي بلّغها:

أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يبلغ كل ما أمره به، وأن لا يخفي

من جوهره ومضمونه شيئاً، وأن لا يخشى في الحق لومة لائم؛ فقال تعالى: [يَا

أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ

مِنَ النَّاسِ] [المائدة: ٦٧] .

ولاحظ التعبير باسم الموصول [مَا أُنزِلَ إلَيْكَ] واسم الموصول يفيد العموم

والشمول والاستغراق.. يعني بلغ الناس كل الذي أنزل إليك من ربك، وإن أخفيت

بعضه فما بلغت رسالته.. [واحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ]

[المائدة: ٤٩] .

وقد كلف الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بتبليغ حقائق دينه وموضوع

دعوته بكلمة (قل) ، وهي (قل التكليفية التلقينية) وقد وردت هذه الكلمة التكليفية ...

ثلاثمائة واثنتين وثلاثين مرة في القرآن الكريم (انظر المعجم المفهرس لألفاظ

القرآن الكريم لمحمد فؤاد عبد الباقي: ٥٧-٥٧٥) وكثرة ورودها دليل على أهمية

تبليغ مضمون الدعوة وكثرة الحقائق التي يجب تقديمها للناس..

ونختار فيما يلى بعض هذه الحقائق التي كلف الرسول -صلى الله عليه

وسلم- ببيانها، والتي يظن بعض الناس أنها مما تخضع للإخفاء والمداهنة ... ... ... ...

والمساومة، والتي قد يكلف تبليغها جهداً ومشقة وعنتاً وإرهاقاً، والتي قد يصيب

المبلّغ فيها أذى وضراً.. والتي قد يعتبر تبليغها نوعاً من الغلظة والعنف والقسوة

مما لا يتفق مع الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة:

[قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وتُحْشَرُونَ إلَى جَهَنَّمَ وبِئْسَ المِهَادُ]

[آل عمران: ١٢] .

[قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ ومَا أُنزِلَ إلَيْنَا ومَا أُنزِلَ

مِن قَبْلُ وأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ] [المائدة: ٥٩] .

[قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ والإنجِيلَ ومَا أُنزِلَ

إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ولَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وكُفْراً]

[المائدة: ٦٨] .

[قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ وأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا القُرْآنُ

لأُنذِرَكُم بِهِ ومَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إنَّمَا هُوَ

إلَهٌ واحِدٌ وإنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ] [الأنعام: ١٩] .

[قُلْ إنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهُوَاءكُمْ]

[الأنعام: ٥٦] .

[فَإن رَّجَعَكَ اللَّهُ إلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَئْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ

أَبَداً ولَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُواً إنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ]

[التوبة: ٨٣] .

[وقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ

نَاراً] [الكهف: ٢٩] .

[قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (١٠٣) الَذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا

وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً] [الكهف: ١٠٣-١٠٤] .

[قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * ولا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ]

[سورة الكافرون: ١-٣] .

موسى أمام فرعون والقول اللين:

وكما نجد التفريق واضحاً في طريقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في

تبليغ الدعوة، بين الأسلوب والمضمون، نجد هذا واضحاً في هدي الأنبياء

السابقين - عليهم السلام - ونختار منهم موسى - عليه الصلاة والسلام -؛ فقد كلفه

الله بالذهاب إلى فرعون: [اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إلَى أَن

تَزَكَّى * وأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى] [النازعات: ١٧-١٩] .

وكلفه في سورة طه مع أخيه هارون عليهما السلام: [اذْهَبْ أَنتَ وأَخُوكَ

بِآيَاتِي ولا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ

يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] [طه: ٤٢-٤٤] .

ونفهم من هذه الآيات أنها تدل على أسلوب تقديم الدعوة إلى فرعون،

وطريقة توصيلها له ولقومه، واستخدام أسلوب الترغيب والحث والتحضيض:

[هَل لَّكَ إلَى أَن تَزَكَّى * وأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى] .. هل لك؟ بهذا اللطف

والترغيب وحسن العرض والإقناع.

[فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً] ، القول اللين إنما هو في طريقة القول وكيفيته

ودرجته وحالته.. إن هذه الآيات لا تتحدث عن جوهر الدعوة، ولا مضمونها،

وإنما عن طريقة عرضها وأسلوب تقديمها..

ماذا قال موسى لفرعون؟ ، ما هي الحقائق التي قدمها له بالأسلوب اللين

الهادئ؟

[قَالَ فِرْعَوْنُ ومَا رَبُّ العَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ومَا بَيْنَهُمَا إن

كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ ورَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ

إنَّ رَسُولَكُمُ الَذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ المَشْرِقِ والْمَغْرِبِ ومَا بَيْنَهُمَا إن

كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَ لَوْ

جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ] [الشعراء: ٢٣-٣١] .

هل تنازل موسى في هذه الآيات عن الأسلوب الهادئ والقول اللين في عرض

الدعوة؟ كلا. وهل خلط بين الأسلوب والمضمون، بين ما قال وكيف قال؟ كلا.

عندما اتهم فرعون موسى بأنه مسحور، وهاجمه في دعوته، هل سكت

موسى - عليه السلام - من باب القول اللين والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة؟

نستمع إلى آيات الاسراء..

[ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ

فِرْعَوْنُ إنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً (١٠١) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إلاَّ رَبُّ

السَّمَوَاتِ والأَرْضِ بَصَائِرَ وإنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً] [الإسراء:١٠١- ١٠٢] .

بماذا نصف موسى - عليه السلام - عندما قال ذلك لو لم يكن موسى نبياً؟

ولو كان داعية يعيش في هذا الزمان، وقال هذا الكلام نفسه، ماذا يقولون عنه؟

وبماذا يصفونه؟ ومع من يصنفونه؟ مع المتزمتين المتشددين المتطرفين ...

المتعصبين أصحاب الغلظة والشدة والقسوة والعنف؟ ! ! .

مضمون الدعوة لا يتغير:

مضمون الدعوة وجوهرها لا يتغير، وحقائق الدعوة ومبادئها لا تتبدل، بل

تبقى ثابتة على اختلاف الزمان والمكان والظروف والأشخاص.. إن هذه الأمور

غير خاضعة للتغيير أو التبديل أو الاجتهاد أو النسخ، لأننا لسنا نحن الذين فردناها

أو اخترناها، بل إن الله رب العالمين - سبحانه - هو الذي تكفل بأفرادها

واختيارها وبيانها لنا، وطالبنا أن نلتزم بها وأن لا نخرج عنها.

والداعية مطالَب أن يبلغها كلها للناس، وإن لم يفعل فما قام بالمطلوب ولا بلّغ

الرسالة.. ويحرم عليه أن يخفي منها واحدة، أو يجبن عن بيان واحدة، أو

يفاوض ويداهن على واحدة، ويساوم على حساب واحدة، أو يؤجل أو يعطل

واحدة، أو يحرف في معنى واحدة، أو يستحي من الجهر بواحدة.. إن الداعية

مطالب بالصدع بالأمر، والجهر بالحق، والقيام بالواجب..

مضمون الدعوة ثابت، وحقائقها راسخة.. وكل من اعتدى عليها لينال

رضاء الناس والقبول لديهم فقد خان الأمانة ونقض العهد وباء بسخط من الله

[فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاًً

فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ووَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ] [البقرة: ٧٩] .

من حقائق الدعوة الثابتة التي لا تغيير فيها ولا تبديل: بيان الحق والباطل،

وبيان الطريق إلى الله، وبيان الدين عند الله، وبيان أوصاف الذين يحبهم الله،

وأوصاف الذين يبغضهم الله، وبيان الوظيفة والغاية وبيان الحلال والحرام،

والمعروف والمنكر، وبيان ما يقرره الإسلام، وما يبطله في حياة الأفراد والأمة

السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والسلوكية والإيمانية، وبيان أوصاف

الكافرين والظالمين والمعتدين..

والداعية في هذه الموضوعات وغيرها ليس مجتهداً ولا مبتدعاً، وإنما هو

ملتزم بما ورد منها في الكتاب والسنة، فواجبه هو أن يتدبرهما ويستخرج منهما

بيان هذه الحقائق وتحديدها وتفصيلها.. [وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ

المُجْرِمِينَ] [الأنعام: ٥٥] .

وجوب تحسين الأسلوب ومراعاة آداب الدعوة:

الداعية الناجح - الذي يريد أن يوصل الدعوة إلى قلوب الآخرين، ويوجد

عندهم القناعة بها والقبول لها - يعمل باستمرار على تحسين أسلوبه في عرضها

وتقديمها، وطريقته في التعامل مع الآخرين، ويستخدم أفضل الأساليب وأجودها

وأجملها، ويدعو بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادل بالتي هي أحسن، ويقدم

مضمون الدعوة وحقائقها في غاية اللطف والرقة واللين، بحيث يكون أسلوبه سبباً

في قبولها، لو كانت مُرَّة شديدة!

والداعية يجدد في الأساليب، ويلون في وجوه البيان، وينوع في طرق

الخطاب والأداء، ويضيف إلى ذلك كل نافع وجديد وناجح ومؤثر..

وعلى الداعية أن يراعي آداب الدعوة، وهدي رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- في تبليغ الدعوة للناس، وطريقة الصحابة والعلماء في تقديمها للناس.

ويلتزم بهذه الآداب من مثل التواضع والحِلم والأناة واللين والرفق والصبر

والسماحة والبشاشة والرقة والمحبة والصدق..

ويتجنب أضداد هذه الأمور، فلا يكون فظاً غليظ القلب، ولا يكون متكبراً

متعالياً، ولا قاسياً ولا عنيفاً ولا غَضوباً ولا متهوراً ولا نزقاً ولا نكداً ولا معسراً.

وخلاصة هذه المسألة أن على الداعية أن يفرق بين الأسلوب والمضمون

فيطور في الأول وينوع ويجتهد، أما الثاني فإنه ملتزم فيه بالأصول وَقَّاف عند

النصوص.