للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قديم جديد

الاستقلال والاتكال

كتب الأستاذ محمد كرد علي مقالاً في مجلة المنار بتاريخ ١٦ رجب ١٣١٩

الموافق ٢٩/١٠/١٩٠١ والمقال هو تعليق على كتاب (سر تقدم الانكليز

السكسونيين) للكاتب الفرنسي (أدمون ديمولان) ننقل هنا فقرات منه لأهميته، ولأن

المشكلة التي عالجها الكاتب، والمعلق الأستاذ كرد علي لا تزال تواجهنا، مشكلة

الاتكالية وحب الوظائف الرسمية وترك العمل والمغامرة.

- التحرير -

أعرف رجلاً في أحد مدن سورية الحافلة، له عراقة في محتده، وأصالة بين

قومه، وسعة من دنياه، وتراه مع هذا يصرف نهاره وليله في نيل الزلفى من

الأمراء كبتاً لخصومة! فيبذل كل عام في هذا السبيل من الصفراء والبيضاء، ما

يكفي لإعالة ألف نسمة من أصحاب البأساء، وكلما طعن في السن يزداد غلواً في

مباديه، وإصراراً على نكاية أعاديه، وهو دائماً أجول من قطرب وأشغل من ذات

النحيين ومساعيه أبداً مخفقة وآماله مخيبة.

وهكذا حال خصمه اللدود، له مال وبنون ومقام بين أهل حيه كريم ولكن لا

يهدأ له بال إلا بالجلوس على أرائك الحكم ومقاعد التصدر، يتلمس لبنيه إذناً

بملازمة الدواوين مزاحمة لأولاد الفقراء ليستأثروا بعد بالرواتب دونهم وينالوا

المعالي بنفوذ والدهم عفواً صفواً.

ولو عقلا لاستعاضا عن التلهي بهذه السفاسف بإدارة شؤون مزارعهما الواسعة

وتحسين طرقها وتنمية غلاتها وثمراتها ولكن هو حب الرئاسة يستلب الألباب وفي

الأمثال (يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة) ولطالما سمعنا أن فلاناً غادر سكنه

ومسكنه تاركاً دخلاً يكفيه وعياله، لأن يعيش عيش الاستقلال فيوكل به من يسرق

نصفه، لينتظم في سلك الموظفين، ويأخذ من استخدامه ما يوازي النصف الذي

فقده بغيابه، ويغتذي من دماء الأمة سحتاً بحتاً وحراماً محضاً، ليقال عنه أنه من

الموظفين، ويخاطب بالفضيلة والسعادة، ثم إذا كثر سواد أقرانه يمضي حياته قلق

الضمير وربما أنفق كل ما يملكه من تراث آبائه ليرتقي إلى وظيفة أعلى من

وظيفته، ويسبق من سبقوه أوهم لاحقوه. وما الموظفون في الحكومات الاستبدادية

براغبين أن يعدوا من ممثليها ليحموا ما يملكونه من اعتداء المعتدي وتعسف الظالم، كما هي دعواهم، بل ليكونوا جلادين في تلك الدولة، ويسوغ لهم إتيان كل منكر

أرادوه، بلا وازع ولا رادع!

أين حال الأغنياء والأعيان المتهافتين على المناصب في بلادنا من أهل تلك

الطبقة في إنكلترا مثلاً حيث الحكومة تخطبهم والشعب يطلبهم وشتان بين خاطب

ومخطوب.

كتب أحد سراة بريطانيا إلى صديق له يقول: دع الناس يطلبون الأرزاق من

الدولة؛ فأنا لا أنحو منحاهم، لأنني أقدر أن أكون غنياً بتساميّ عن الدنايا، ولا

أرتضي أن أشين خدمتي لوطني بفوائد ذاتية فإني أعمل في بستاني، واجتزئ

بالقليل من النفقة عن الكثير.

وهو كما رأيت من كلام من يوقن ان الإمارة ليست بمذهب طبيعي للمعاش،

بل كلام من ارتقى وتهذب وعلم علم اليقين أن الحكومات ليست إلا خادمة للأمم وأن

الشعب في غنية عنها ولا غنى لها عنه. فمتى يكون مثل هذا القول لسان حال

أعيان بلادنا حتى لا يكونوا على أمتهم أضر من العث في الصوف والدودة في

الكرمة.

ونحن لو استشهدنا التاريخ لرأينا أجدادنا كانوا في منازع حياتهم لا يعرفون

مع بسطة الجاه واتساع الثروة والملك إلا النشأة الاستقلالية بعيدين في كل أطوارهم

عن السرف والترف، فقد اشتهر من سيرة الصديق الأكبر -رضي الله عنه- أنه

كان يغدو كل يوم إلى السوق فيبع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه وربما

خرج هو بنفسه وربما رعيت له , وكان يحلب للحي أغنامهم. فلما بويع بالخلافة

قالت جارية منهم الآن لا يحلب لنا منائح دارنا فسمعها فقال: بل لعمري لأحلبنها

لكم، وإني لأرجو أن لا يغير بي ما دخلت فيه، فكان يحلب لهم. ثم قال ما تصلح

أمور الناس مع التجارة، وما يصلح إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم، فترك

التجارة وقيل أراده الصحابة على تركها وأنفق من مال المسلمين ما يصلحه وعياله

يوماً بيوم فكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم، وقيل: فرضوا له ما

يكفيه فلما حضرته الوفاة أوصى أن تباع أرضه ويصرف ثمنها بدلاً مما أخذه من

مال المسلمين.

قال الأستاذ كرد علي بعد مقدمة الموضوع:

إن الأمم من حيث كيانها قسمان: استقلالية واتكالية. فالأمة الاستقلالية

هي التي طبعت على حب الانفراد يعتمد كل فرد منها على نفسه [١] لا على

حكومة ولا جمعية ولا حزب ولا عشيرة ولا أسرة.

وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعول في الدنيا على رجل

والأمم الاتكالية هي التي يعتمد أفرادها على مجموعها من الأمة أو الدولة

فيتوكأ كل فرد على غيره.

وبديهي أن العلم لا يكفي في سعادة الشعوب ما لم يقرن بالعمل، وفرنسا

وقعت مع من وقع في مثل ذلك من أمم الخليقة، فزاد فيها التكالب على المصالح

الهينة والوظائف اللينة، فكثر فيها الموظفون والمحامون والأطباء والمهندسون

وأهل الصحافة والأدب، بحيث تعذر قبول من تخرجهم المدارس العالية فسدت في

وجوه الناشئة أبواب الرزق لأن معظمهم يرى السعادة أن يعيش في باريس ونحوها

من المدن الحافلة، ليستمتع برفاهها ولو عاش في قلّ. وزهدوا في الاشتغال

بالصنائع الحرة كالفلاحة والصناعة والتجارة، وذلك غير معهود عند من كان دمه

سكسونيا إذ لا يرى حطة عليه أن يحترف أي حرفة كانت مهما كان علمه واستعداده

ليضمن لنفسه وذويه مرتزقاً فسيحاً وعيشاً استقلالياً لبابا، فإن لم يجد ما يعمل في

بلاده يغادرها ليستعمر مكاناً آخر من الكرة، ويستوي عنده العيش بلندن أو برلين

والعيش في زيلندة الجديدة أو مستعمرة الرأس أو زنجبار وإن شئت فقل في أقاصي

صحاري افريقية حيث الوحوش ضارية والسموم لافح والعيش مر المذاق.

وتأييداً لذلك أنقل هنا ما صرح به أحد علماء الأخلاق من الفرنسيين بهذا

الشأن قال: (يزعمون إن شهادة العالمية عندنا باب يدخل منه إلى كل سبيل،

وتسلك بحاملها في كل مسلك، وهي على التحقيق لا تفتح إلا ثقباً كبيراً هجم عليه

أصحاب الرغبات من كل صوب، فاستغرقت الحرف الشريفة ووظائف الحكومة

جملة بحيث وجب على الأمة أن لا تساعد على شر ما برح يتفاقم أمره منذ سبعة

قرون حتى صار جرحاً نغّاراً وضربة مبرحة. وأعني بذاك الشر داء الاستخدام

والتوظف.

(لفرنسا نظارة للمعارف العمومية ولأمريكا مدرسة للتربية فالأولى تعلم والثانية تربي. الأولى تلقن أبناءها كلمات يحفظونها والثانية تعلم مبادئ يسيرون عليها. تعد فرنسا أدمغة لحفظ قانون وتهيئ امريكا أذرعاً للعمل؛ الأمريكان رجال عمل والفرنسيين ليسوا كذلك) .

«اتكالنا»

بمثل هذا اللسان يخاطب الكاتب الفرنساوي أمته ويقرعها تقريعاً أمر من

الصاب والعلقم لتستفيق من غشية تخشى مغبتها وتفلت من الوقوع في مخالب أسود

السكسون لئلا يكون حظها في الوجود حظم الأمم البائدة كالرومان واليونات والفرس.

لقد أصبح من الرأي المقرر بين الناس أن كل من ليس له علاقة بالحكام

كعضو أصيب بالآكلة لا حيلة فيه إلا بالبتر أو الموت بيد أنه لا تثريب على الفقير

إذا رشح ابنه لأي خدمة كانت ليرتفع بها من الدنية ما دامت البلاد صفراً من

أصناف المعاش الذي يزعج صاحبه عن العيش الاتكالي ويورده موارد الاستقلال،

بل اللوم كل اللوم على رجل يعد من نواصي أهل وطنه وعليتهم وله من العقار

والقرى ما يسد عوزه وعوز مئات معه، وهو على ماله من الاعتبار بين جيله

وقبيله يسف إلى الاستخدام في وظيفة ليتباهى بها أمام العدو والصديق.