للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البوطي والسلفية

وقضايا أخرى ... !

عبد القادر حامد

من منهج مجلة البيان أنها لا تدخل في مهاترات وخلافات شخصية، مما يقع

كثيراً بين المسلمين أفراداً وجماعات وعلماء، وهي إن أشارت إلى بعض الأسماء

فليس من أجل فتح معارك شخصية توغر الصدور وتفرق الصف المسلم بل لبيان

وجه الحق في مسألة ما، ونقد بعض المناهج والأساليب التي يلجأ إليها من يحبون

إثارة المعارك الفكرية التي يكون محورها أشخاصهم وأهواؤهم.

ومن هؤلاء الذين درجوا على إثارة المعارك الدكتور محمد سعيد رمضان

البوطي، فقد أخذ هذا الرجل على عاتقه مهمة الوقوف بقوة وبكل ما أوتي من

مواهب في وجه التيار الذي ينادي بالعودة إلى الكتاب والسنة، وتحكيمهما في واقع

المسلمين المعاصر، ولم يدخر جهداً أو وسيلة للهجوم على هذا التيار، فهو يستخدم

المسجد الذي يخطب فيه، والكرسي الجامعي الذي أسند إليه، والمؤتمرات التي

يدعى إليها، والكتب التي يسودها يستخدم كل ذلك وغيره من أجل تشويه كل من

يمت بصلة إلى هذا التيار.

ولقد أصبحت القضية عنده كأنها قضية حياة أو موت، وعندما تستعرض ما

يكتبه في شأنها تتبدى أمامك شخصية قلقلة تتصنع ركانة ليست من طبعها، كأنها

شخصية من يحاول جر واحتياز شيء ثمين سبقه إليه من هم أقوى منه سواعد،

وأصعب منه قياداً ومراساً.

لقد انتهى الأمر بالبوطي إلى أن حدد مساره بوضوح، وذلك بأن يعمل على

جبهتين، ويحشد طاقاته لتسير على خطين متوازيين:

١- العمل على رمي الاتجاه السلفي بما يستطيع من عظائم وسخائم، وتضييع

أوقاته التي يسترخصها في هذا المجال العقيم.

٢- بناء اسم ومجد شخصي له في حياته بواسطة هجومه الشرس الذي لا يكن

ولا يكل على هذه الطائفة التي أصبحت عظيمة -والحمد لله- هذا من جهة، ومن

جهة أخرن نعومته و (تحضره) ورزانته المزعومة التي يبدو بها أمام غيرهم ممن

هم أولى بأن يصرف همه إليهم، ويقف جهوده على الإشارة إلى أفاعيلهم، وهم

كثير في البلاد التي يصول فيها ويجول، لا يتطلب التعرف عليهم إلا أن ينظر إلى

يمينه ويساره.

لقد تصدى البوطي في أواخر الستينات لما سماه (اللامذهبية) ووضع كتيباً

بعنوان تهويلي هو: (اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية) خطب ...

وحاضر وسب وشتم حول هذا الموضوع، ورُدَّ عليه في حينها، ولكنه شعر أنه لم

يكسب الجولة، فقد وجد أنه إذا كتب رسالة رد عليه برسائل، وإذا أصدر كتيباً،

رد عليه بكتاب.

فماذا يفعل! ؟ وجاءت الفرصة، حين تشتت أعداؤه شذر مذر، لأسباب لا يد

له هو فيها، فمنهم من يقبع في غياهب السجون، ومنهم من أجبر على الهجرة،

ومنهم من ألجم بلجام الخوف والإرهاب، فانبرى الرجل من جديد يعيدها جَذَعة،

ويستأنف طريقته في النقاش والهجوم، والعلم والتعليم، مع أن الفروسية تقتضي أن

يسكت حيث سكت -أو أسكت- خصومه، ولكن يبدو أن العرب الذين علموا

البشرية الفروسية ماتوا، أو لا يعرفهم البوطي. ففي عام ١٤٠٨هـ أصدر كتاباً

جديداً بعنوان: (السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب) . يصلح أن يتخذ نموذجاً

لما يجني التعصب والحقد والغرور والكبر على صاحبه وعلى العلم.

كلمة حول الكتاب:

من صفات العالم الحق أنه يعرض ما يراه من آراء وما يكتبه من بحوث

وموضوعات على آخرين، فيستفيد من ملاحظاتهم وإشاراتهم، فيخرج عمله خميراً

ناضجاً، ولكن يبدو أن البوطي يعيش في وقت غير طبيعي، وفي مشاعر غير

طبيعية، أما الوقت غير الطبيعي: فهذا واضح من تراجع المؤسسات العلمية التي

تعلم العلم الشرعي مقارنة بغيرها من المؤسسات، فعصرنا هذا -وهو عصر

البوطي- تميز بالضغط الشديد على هذه المؤسسات، هذا الضغط المتمثل بالإغلاق

أو التحويل أو المسخ أو التشويه، وكذلك تميز بكبت الأصوات الحرة والعقول

النيرة، وعندما تبتلى الأمم بمثل هذا الفراغ يسارع إلى أخذ الدور وملء الفراغ من

لا يغني فتيلاً، بل يُصْنَع من يسد هذه الخلة صنعاً، ولكن على عين الذين أرادوا

للأمة أن تعيش في ظل الفراغ. ولذلك فقد يعتذر البوطي بأنه لا يجد أحداً يعرض

عليه آراءه وأفكاره، وقد يكون حاله كحال دعبل الشاعر التي يمثلها قوله:

ما أكثر الناس! لا بل ما أقلهم ... الله يعلم أني لم أقل فندا

إني لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثير! ولكن لا أرى أحدا!

وهنا نصل إلى قضية أن البوطي يعيش في مشاعر غير طبيعية. فكيف

يتصور من البوطي أن يتنازل ليعرض ما يكتبه على غيره؟ (وهل في الميدان

غير حديدان؟ !) ولكننا نزعم أن الساحة لم تخل، ولن تخلو، وأن البوطي يلبس ...

نظارة مكبرة بالمقلوب، تكبر له نفسه جداً وهو النحيل الجسم -كما نعلمه- وتصغر

له من اصطنع خصومتهم حتى يراهم كالذر، أو لا يراهم شيئاً! ولو طامن من

نفسه قليلاً لكان أليق به، وأكثر بركة على الإسلام والمسلمين.

إن الرجل لو عرض كتابه على من يظن بهم العلم للفتوا نظره إلى كثير من

المجازفات التي رماه فيها تسرعه ونزقه، ولبينوا له أن ما نصب له نفسه أمر قد

استتب -والحمد لله- ولا رجعة فيه، ولا تضره كتب تكتب على عجلة، وتتلون

بالغيظ الفائر من خلف الكلمات حيناً، وبالمداورة والتلبيس والعبارات الملتوية التي

ليست من سمات المنهج العلمي في شيء، ذلك المنهج الذي أشار إليه البوطي كثيراً، وأبدأ وأعاد في بهره، ودار حوله واقترب وابتعد وحين ظن أنه اقتحمه مكتشفاً له

مفتحاً أبوابه المسحورة؟ لم يدر أنه كان مثل الظمآن في الصحراء، أبصر على

البعد ما ظنه ماء فأسرع إليه وطوح مغمضاً عينيه فإذا به لم يطوح في غير السراب!

العمود الفقري للكتاب:

تعارف الناس أن يكون فهرس الكتاب خلاصة لما في الكتاب، تبدو فيه

القضايا الأساسية التي بحثها المؤلف، ولكن القارئ إذا أراد أن يطبق هذا الأمر

المتعارف عليه بين الناس على هذا الكتاب بعد قراءته فإنه سيكتشف أن هذا الأمر

المعروف للناس غير معروف للبوطي، فالقارئ لا يخرج بتعريف للسلفية في اللغة

والاصطلاح، ولا يقبض على شيء من المنهج الذي أعاد فيه القول وحوله كثيراً،

وظن أنه فصل ووضح ووضع النقاط على الحروف، أما تطبيقاته فجاءت كفاء

منهجه: تناقض واضطراب مضحك، وإن كان يثير الشفقة. وقل مثل ذلك في

وقفته مع ابن تيمية.

أما الشيء الذي يخرج القارئ به ويتعثر به أينما جال بنظره في الكتاب فهو:

كره شديد للدعوة السلفية ودعاتها يعبر عنه صراحة؛ بألفاظه التي تنم عن

الكبر الموجود في نفسه، ومداورة؛ حينما يحاول أن يتزيا بزي العلماء ويستخدم

عباراتهم.

* حرص على النيل من ابن تيمية وابن القيم كلما لاحت له فرصة في مناسبة

أو غير مناسبة.

* افتراء وتهويل على خصومه.

* إشارات مبسوطة في عرض الكتاب هنا وهناك تشير إلى اهتمامه بنفسه

وحرصه على البروز. ومن مجموع هذه الإشارات ترتسم شخصية (نرجسية) [١]

معقدة لا تأبه بما يقوله الآخرون.

هذا هو الجد الذي يخرج به قارئ الكتاب، وهذا ما يستخلصه من هذه المعاناة

التي عاناها المؤلف وهو يجلد نفسه من أجل أن يثبت أن:

١- السلفية بدعة، بل أخطر من كل سائر البدع التي وجدت والتي ستوجد.

٢- ابن القيم لم يأت بما يشفي الغليل في أعلام الموقعين.

٣- إذا جاز لنا أن نكفر ابن عريي فيجوز لنا أيضاً أن نكفر ابن تيمية!

٤- السلفيون جهلة.

٥- السلفية يستخدمها الاستعمار لتفريق المسلمين.

كبر ومكابرة:

نحن الآن في عصر اختلطت علينا فيه الأمور وأصبحنا في جهالة جهلاء

حتى إننا لم نعد قادرين على معرفة من هو المسلم، وما هي شروط ممارسة الإسلام

يقيناً وسلوكاً، ولكن رحمة الله أدركتنا بإرسال البوطي ليؤلف هذا الكتاب ليقول لنا

فيه: إن الإنسان لكي يمارس الإسلام يقيناً وسلوكاً، لا بد أن يجتاز المراحل الثلاث

التالية:

أ- التأكد من صحة النصوص الواردة والمنقولة عن فم سيدنا محمد -صلى الله

عليه وسلم-، قرآناً كانت هذه النصوص أم حديثاً بحيث ينتهي إلى يقين بأنها

موصولة النسب إليه، وليست متقولة عليه.

ب- الوقوف بدقة على ما تتضمنه وتعنيه تلك النصوص، بحيث يطمئن إلى

ما يعنيه ويقصده صاحب تلك النصوص منها.

ج- عرض حصيلة تلك المعاني والمقاصد التي وقف عليها وتأكد منها، على

موازين المنطق والعقل (ونعني بالمنطق هنا قواعد الدراية والمعرفة عموماً) ،

لتمحيصها ومعرفة موقف العقل منها. (وطبيعي أن من لم تتحقق عنده الشروط لا

يحكم له بأنه مارس أو يمارس الإسلام يقيناً وسلوكاً) هكذا يقول الشيخ! وشرط

رابع نسيناه (نستغفر الله) وهو المهم، فهو الأداة ... المنهج ... وما أدراك ما

المنهج؟ !

يقول الشيخ: (واجتياز الإنسان بهذه المراحل الثلاث لا يتم إلا بعد الاستعانة

بأداة، وهذه الأداة هي ما نعنيه بكلمة (المنهج) .

مجموعة واحدة من المسلمين تستثنى من الذين اقتضت إرادة الشيخ أن

يخضعهم لهذا البلاء الذي سماه المنهج: أتدري من هم! ؟ إنهم أصحاب رسول الله

-صلى الله عليه وسلم- فقد (كان لهم شرف الاستثناء من هذا الاحتياج طبقاً لما

أوضحناه من قبل) (ص ٦٣ من كتابه المذكور) والحمد لله، أن استثنى الشيخ

بتواضعه الجم الصحابة من أن يخضعوا لجبروت منهجه، وإلا لأصابهم ما أصاب

التابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!

إذن فمنهج المعرفة الإسلامية (وهو منهج البوطي) والانضباط بمبادئه وأحكامه

يتكون من ثلاثة أجزاء، كل منها يتكفل بحمل صاحبه إلى ثلث الطريق، ومن

تلاقي هذه الأجزاء الثلاثة متدرجة على الترتيب الذي ذكرناه؟ تتم الرحلة إلى

معرفة الإسلام والانضباط به اعتقاداً وسلوكاً.

وهكذا فقد اتضحت لنا المعادلة بحدودها شاخصة عارية، وهي:

١- اجتياز المراحل أ، ب، ج + الأداة = شخص يمارس الإسلام يقيناً

وسلوكاً.

٢- اجتياز واحدة من هذه المراحل = ثلث مسلم!

لكن ننبه القارئ الكريم إلى أن في الطرف الأول من المعادلة الأولى وردت

كلمة الأداة وهي منهج البوطي، والمعادلة نفسها كاملة هي المنهج أيضاً، وحتى

يفهمها على وجهها الصحيح لا بد أن نحيله على صمويل بيكيت ومسرحيته (في

انتظار غودو) وإذا استثقل ذلك ورفض الإحالة فنقول له: العلم سر ولا ينفتح لمن هب ودب، بل لا بد له من استعداد ومواهب من نوع خاص!

وقد وعد المؤلف بأنه سوف يثبت ملخصاً للجزء الأول والثاني من المنهج

(أي مرحلة: أ، ومرحلة: ب) ويدع الجزء الثالث لمصادره المنطقية الخاصة به (لسنا ندري ماذا يريد بهذه العبارة) ولعلها مما سماه البلاغيون: حشو اللوزينج! وفي طريقه إلى توضيح الجزء الأول والجزء الثاني من منهجه العتيد يقول بعبارة مضمخة بالاشمئزاز: (فإن كثيراً من الذين يتحدثون اليوم عن الإسلام والمسلمين؛ يصرون على تقسيم المسلمين إلى سلفيين وبدعيين وخلفيين؛ زيادة على الانقسامات المبتدعة المؤسفة التي انتشرت فيما بينهم قد لا يعلمون من هذا المنهج إلا النزر اليسير، ولعلهم لا يقيمون له وزناً، ولا يرون له وظيفة ولا شأناً) (ص ٦٤) وتعليقنا على ذلك: الحمد لله على أن هؤلاء كثيرون، وحبذا لو عدل المؤلف هذه العبارة في الطبعة الثانية لتصبح: (لا يعلمون من هذا المنهج شيئاً، ولا يقيمون له وزناً، ولا يرون له وظيفة ولا شأناً) فهي أشق لصدره، وأصدق في وصف حالهم!

إن البوطي حينما يلقي لنفسه العنان وينهد للتنظير والمنهجة [٢] ؛ يأتي

بالفواقر والأعاجيب، ويوقع قارئه في الحيرة: من أين يبدأ في الرد من البدايات أم

النهايات أم الأواسط؟ ولكنه حينما يعرج على ما يعرفه الناس ويرجع بك إلى

القضايا التي يتحرش بها ليريك علمه وبعد غوره فهو سهل الخطب، مسترخي

الحبل. ولكي يدخلنا في الجد فقد ساق لنا رأيه في خبر الآحاد، وقضية خبر الآحاد

من القضايا المهمة التي تُكُلِّم فيها قبل البوطي كثيراً، وتكاد تكون من أبرز القضايا

التي يتمايز بشأنها المسلمون قديماً وحديثاً، بل نؤكد أنها لب المسائل التي ينقسم

الناس من المسلمين بشأنها إلى قسمين رئيسيين:

١- قسم يرجع كل أموره إلى كتاب الله وما صح من سنة رسول الله -صلى

الله عليه وسلم- غير مفرق بين ما صح في مجال العقائد أو الأحكام أو السلوك.

٢- وقسم آخر يعطي لنفسه أو لشيوخه الحق في التحكم والتفريق بين أصناف

الصحيح، فهذا يأخذ به في الأحكام والمعاملات؛ وذاك يهمله لأنه في العقائد، وهو

خبر غير متواتر. لكن المؤلف يعتبر القسم الأول مبتدعاً وجاهلاً وسطحياً وعميلاً

للاستعمار، بينما الذي يتبع منهجه هو المسلم الحق! والموضوعية والعلمية تقتضي

من المؤلف إذا أراد أن يناقش هذه المسألة أن يضع رأيه وحججه واضحة، وينقل

رأي خصمه وحججه واضحة أيضاً، ويحرر مكان الاختلاف ويرد حجج الخصم

بعبارة غير محتملة، فهذا الأمر قضية علمية محددة وليست موضوعاً إنشائياً

فضفاضاً، لكنه لم يفعل شيئاً من هذا واكتفى بعرض رأيه في قضية خبر الآحاد

فقال:

«هذا القسم الثاني (أي خبر الآحاد) لا تتكون منه حجة ملزمة في نطاق

الاعتقاد، بحيث يقع الإنسان في طائلة الكفر إن هو لم يجزم بمضمون غير صحيح

لم يرق إلى درجة المتواتر، وبقي في حدود رواية الآحاد. بل يسعه أن لا يجزم به

دون أن يخدش ذلك في سلامة إيمانه وإسلامه (! !) وإن كان ذلك يخدش في

عدالته ويستوجب فسقه» . هل تريد دليلاً على هذه الطامة! ؟ خذ -إذن- هذه

الطامة الكبرى: (دليل ذلك أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ما في ذلك ريب ولا

خلاف (من يرتاب في ذلك! ؟) والاعتقاد انفعال قسري وليس فعلاً اختيارياً

(الرجل ليس نائماً ولا يشرب، ونحلف على ذلك!) فإن وجد العقل أمامه ما يحمله

على الانفعال واليقين بأمر ما، اصطبغ بذلك اليقين لا محالة، دون أن يكون له في

ذلك أي اختيار (أي اختيار مهما صغر! ؟) وإن لم يجد أمامه ما يحمله على ذلك

الانفعال واليقين، هنا بيت الفرس!) لم يجد بداً من الوقوف عند درجة الريبة أو

الظن، دون أن يكون له أيضاً في ذلك أي إرادة أو اختيار (!) فإن أجبرت العقل

مع ذلك بالجزم واليقين، دون أن تتوافر أمامه موجبات الجزم؟ فقد حملت العقل ما

لا يطيق (مسكين العقل!) ، ودين الله تعالى مبرأ من ذلك (ص ٦٦) .

هكذا يستدل الرجل! ألا يصلح كلامه شرحاً لهذه الرباعية من رباعيات عمر

الخيام:

لبست ثوب العمر لم أستشر ... وحرت فيه بين شتى الفكر

وسوف أنضو الثوب عني ... ولم أدرك لماذا جئت أين المفر! ؟

«أما في نطاق الأحكام السلوكية من عبادات ومعاملات ونحوهما، فقد دل

الخبر اليقيني المتواتر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن المسلم متعبد

في ذلك بالأدلة الظنية. فحيثما وجد حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

يتضمن حكماً في العبادات أو الأحكام الشرعية الأخرى، وكان الراجح والمظنون

في ذلك الحديث هو الصدق لتوفر شرائط الصحة فيه، وجب عليه -بالدليل اليقيني

المتواتر- التمسك بذلك الحديث والاهتداء بهديه والالتزام بمقتضاه.

أما الدليل اليقيني على ذلك، فهو ما تواتر عن رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- من إرساله آحاد الصحابة إلى البلاد والقبائل المجاورة والبعيدة، ليعلموا أهل

تلك البقاع أحكام الشريعة الإسلامية من عبادات ونحوها. وقد علمنا أن العقل يظل

يفرض احتمال السهو والغلط والنسيان في حق أولئك الآحاد، ومع ذلك فإن النبي

عليه الصلاة والسلام كان يأمر أهل تلك البلاد باتباع ما يرشدهم إليه هؤلاء الآحاد

الذين يبعثهم منتشرين في تلك الأصقاع. فكأنه بذلك يقول لهم: حيثما أخبركم

هؤلاء الرسل بشيء من أمر دينكم، مما يدخل في نطاق التطبيقات السلوكية،

وظننتم الصدق في كلامهم، فواجبكم تطبيق ذلك والأخذ به» (ص ٧٦) .

لم يفصل لنا المؤلف سر هذا التفريق بين العقائد والأحكام السلوكية من

عبادات ومعاملات! ولم يسق أدلة على هذا التفريق، بل إن الأدلة التي أشار إليها

تدل على غير ما يريد، فآحاد الصحابة الذين كان رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- يرسلهم إلى القبائل والبلاد كانوا يحملون رسائله ووصاياه وكان من تبلغه هذه

الرسائل أو الوصايا مكلفاً بطاعتها برمتها، لا أن يتوقف فيما يخص العقائد أو

يرفضها؛ ويقبل الباقي، بل إن التفريق بين أحكام الشرع إلى عقائد وعبادات

ومعاملات لم يعرفه الصحابة ولا العصور الأولى المفضلة وإنما حدث فيما بعد ذلك.

ثم إن قوله عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «فكأنه بذلك يقول لهم:

حيثما أخبركم هؤلاء الرسل بشيء من أمر دينكم مما يدخل في نطاق التطبيقات

السلوكية» تقول على النبي عليه الصلاة والسلام، ونسبة ما لم يقله إليه -صلى

الله عليه وسلم- فمن أين له هذا القيد: مما يدخل تحت نطاق التطبيقات السلوكية‍!؟

ولا أدل على مجازفة البوطي من قوله عن الحديث الضعيف أنه يجوز العمل

به فيما ذهب إليه جل علماء الحديث في فضائل الأعمال، بشرط أن لا يصل

الحديث إلى درجة متناهية في الضعف، وبشرط أن لا يعتقد راوي الحديث صحته

ففي هذه العبارة (أ) عدم دقة في الصياغة، فالأدق أن تكون هكذا: «يجوز العمل

به في فضائل الأعمال، فيما ذهب إليه ... »

ب) تلبيس وتدليس مقصود في قوله جل علماء الحديث.

ج) عدم استيفاء الشروط التي وضعها من أجاز العمل بالحديث الضعيف في

فضائل الأعمال ومنها: أن يندرج تحت أصل معمول به. أما قوله: جل علماء

الحديث؟ فهي عبارة موهمة من يقرأها يظن أن هذا رأي الأكثرين ولم يشذ عنه إلا

عالم أو عالمان؟ مع أن العكس هو الصحيح. وإليك ما قاله الشيخ أحمد محمد

شاكر في الباعث الحثيث

(ص٩١-٩٢) عمن أراد أن ينقل حديثاً بغير إسناده «من نقل حديثاً صحيحاً

بغير إسناده. وجب أن يذكره بصيغة الجزم، فيقول مثلا: (قال رسول الله صلى

الله عليه وسلم) . ويقبح جداً أن يذكره بصيغة التمريض التي تشعر بضعف الحديث، لئلا يقع في نفس القارئ والسامع أنه حديث غير صحيح. وأما إذا نقل حديثاً

ضعيفاً، أو حديثاً لا يعلم حاله، أصحيح أم ضعيف، فإنه يجب أن يذكره بصيغة

التمريض كأن يقول: (روي عنه كذا) أو (بلغنا كذا) . وإذا تيقن ضعفه وجب

عليه أن يبين أن الحديث ضعيف، لئلا يغتر به القارئ أو السامع. ولا يجوز

للناقل أن يذكره بصيغة الجزم، لأنه يوهم غيره أن الحديث صحيح، خصوصاً إذا

كان الناقل من علماء الحديث، الذين يثق الناس بنقلهم، ويظنون أنهم لا ينسبون

إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً لم يجزموا بصحة نسبته إليه. وقد وقع

في هذا الخطأ كثير من المؤلفين، رحمهم الله وتجاوز عنهم.

وقد أجاز بعضهم رواية الضعيف من غير بيان ضعفه بشروط:

أولاً: أن يكون الحديث في القصص، أو فضائل الأعمال، أو نحو ذلك،

مما لا يتعلق بصفات الله تعالى وما يجوز له ويستحيل عليه سبحانه، ولا بتفسير

القرآن، ولا بالأحكام، كالحلال والحرام وغيرهما.

ثانياً: أن يكون الضعف فيه غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين

والمتهمين بالكذب، والذين فحش غلطهم في الرواية.

ثالثاً: أن يندرج تحت أصل معمول به.

رابعاً: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط.

والذي أراه أن بيان الضعف في الحديث الضعيف واجب في كل حال، لأن

ترك البيان يوهم المطلع عليه أنه حديث صحيح، خصوصاً إذا كان الناقل له من

علماء الحديث الذين يرجع إلى قولهم في ذلك، وأنه لا فرق بين الأحكام وبين

فضائل الأعمال ونحوها في عدم الأخذ بالرواية الضعيفة، بل لا حجة لأحد إلا بما

صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من حديث صحيح أو حسن. وأما ما

قاله أحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك:» إذا روينا في

الحلال والحرام شددنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا «، فإنما يريدون

به -فيما أرجح، والله أعلم- أن التساهل إنما هو في الأخذ بالحديث الحسن الذي لم

يصل إلى درجة الصحة، فإن الاصطلاح في التفرقة بين الصحيح والحسن لم يكن

في عصرهم مستقراً واضحاً، بل كان أكثر المتقدمين لا يصف الحديث إلا بالصحة

أو الضعف فقط.

في العدد القادم البوطي والمنهج


(١) نرجس -في أساطير اليونان- شخص كان يجلس على حافة ماء فنظر فيه فرأى صورته، فأعجب بها، ثم قتل نفسه لشدة إعجابه بذاته، واعتقاده بتفرده! .
(٢) استجزنا هذا المصدر -مع أنه غير مسموع- قياساً على وزن الرباعي فَعْلَلَ، كدحرج.