للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

خواطر في الدعوة

أمراض القلوب

محمد العبدة

عندما تجد خللاً في الدعوة، وبطؤاً في السير، ففتش عن القلب، فأمراضه

أشد من أمراض الأبدان، كما أن اكتشافه أخفى، ويحتاج إلى خبير في ذلك، وليس

هناك وصف أدق لمكانة القلب من وصف الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين

يقول: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد

الجسد كله، ألا وهي القلب» .

ومن أمراض القلب التي تفسد على المرء دينه ودنياه مرض العجب، وهو

ناشئ عن الكبر، لأن المعجب بنفسه لا يزال يزداد إعجاباً وينفخ الشيطان فيه حتى

يزدري الكبار من العلماء والدعاة، وهو وإن حاول إخفاء هذا الإعجاب، لكنه

يظهر على فلتات لسانه أو على تصرفاته. والمؤمن يعرف نفسه، فيبادر إلى علاج

ما بها فوراً قبل أن يستفحل الداء ويعز الدواء.

ولعله من المناسب أن أنقل هنا كلاماً لأحد كبار علماء الإسلام، يتحدث فيه

عن نفسه بصراحة وأنه كان فيها عيوب وقد عالجها وبرئت بإذن الله، يقول ابن

حزم رحمه الله:

«كانت فيّ عيوب، فلم أزل بالرياضة (مجاهدة النفس) واطلاعي على ما

قالت الأنبياء صلوات الله عليهم والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين، في

الأخلاق وآداب النفس أعاني مداواتها، حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك

بتوفيقه ومنّه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق هو الإقرار بها

(العيوب) ، ليتعظ بذلك متعظ إن شاء الله.

فمنها: كلف في الرضاء [١] ، وإفراط في الغضب، فلم أزل أداوي ذلك

حتى وقفت عند ترك إظهار الغضب جملة بالكلام والفعل، وامتنعت مما لا يحل من

الانتصار وتحملت من ذلك ثقلاً شديداً، وصبرت على مضض مؤلم كان ربما

أمرضني، وأعجزني ذلك في الرضى [٢] ، وكأني سامحت نفسي في ذلك.

ومنها: عجب شديد، فناظر عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها حتى ذهب كله

ولم يبق له والحمد لله أثر، بل كلفت نفسي احتقار قدرها جملة واستعمال التواضع.

ومنها: محبة في بعد الصيت (حب الشهرة) والغلبة، فالذي وقفت عليه من

معاناة هذا الداء الإمساك فيه عما لا يحل في الديانة، والله المستعان على الباقي [٣] .

رحم الله أبا محمد، ولا شك أن أول درجات المعالجة ورياضة النفس هو

الاعتراف بالنقص، وقد راض نفسه وألجمها، وأما وصفه للدواء فيقول:

» من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه، فإن أعجب بفضائله، فليفتش عما

فيه من الأخلاق الدنية، فإن خفيت عليه عيوبه جملة حتى يظن أنه لا عيب فيه

فليعلم أنه مصيبة للأبد وأنه أتم الناس نقصاً، لأن العاقل من ميز عيوب نفسه

فغالبها وسعى في قمعها، فإن أعجبت بأرائك فتفكر في سقطاتك واحفظها، وإن

أعجبت بخيرك فتفكر في معاصيك وتقصيرك، وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا

خصلة لك فيه وأنه موهبة من الله ... « [٤] .


(١) استرضاء الأصدقاء والإخوان حتى تبقى المودة ولو على حساب الكرامة الشخصية، كما يفهم من كلام ابن حزم.
(٢) أي عجز عن معالجة هذا العيب.
(٣) رسائل ابن حزم الجزء الأول ص ٢٥٢.
(٤) المصدر السابق ٢٨٧.