للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البوطي ...والمنهج

عبد القادر حامد

تخبط وتناقض:

إن ميزة الكتب النافعة أنك لا تقرؤها مرة إلا وتجد فيها فائدة لم تكن وجدتها

في القراءة الأولى، لكن كتاب البوطي هذا على الضد، لا تقرؤه إلا وتجد فيه

خبيئة فاتتك في القراءة السابقة. ولو استعرضنا جميع التناقضات التي اكتشفناها في

هذا الكتاب لطال الكلام ولملّ القارئ، ولكن نكتفي ببعضها.

يقول - عند كلامه على العوامل التي أدت إلى تطوير أساليب الصحابة

الفكرية وطرقهم التربوية! وعاداتهم السلوكية! تحت عنوان: العامل الثالث: -

« ... ولما رأوا أنفسهم يعيشون في بلاد غير التي عرفوها، ويقابلون

عادات غير التي ألفوها، ويجابهون مشكلات لا عهد لهم بها، (كمشكلة المناخل!)

اضطروا إلى فتح باب الرأي بعد أن كان مغلقاً، وإلى التعامل معه والأخذ به بعد أن

كان ذلك أمراً مرفوضاً ومستهجناً.

ومن أشهر الصحابة الذين انتشروا في الأمصار، ورفعوا لواء الاتجاه في هذا

الطريق (طريق الرأي! انتبه!) الخلفاء الراشدون وعبد الله بن عمر وعائشة،

وهؤلاء كانوا في المدينة، (إلى أين انتشروا؟) وعبد الله بن عباس وقد كان بمكة

(أين ذهب؟ !) » [ص٣٤] .

ففي هذه الفقرة تخبط ومجازفة واضحة، فالخلفاء الراشدون كلهم - ماعدا علياً؛ وفي أيام خلافته فقط - عاشوا في المدينة ولم ينتشروا في الأمصار! ولم يطوروا

من أساليبهم الفكرية، وطرقهم التربوية، وعاداتهم السلوكية، ولم يفتحوا باب

الرأي بعد أن كان مغلقاً! وبخاصة أبو بكر الذي توفي بعد الرسول - صلى الله

عليه وسلم - بعامين ونصف تقريباً، ولم يدرك هذه الأزمة الفكرية المفترضة التي

يصورها المؤلف هذا التصوير (الدرامي) .

وفي [ص٨٠] يقرر في الفقرة الأولى قضية تنقضها الفقرة التي تليها، فيقول:

(إن قواعد اللغة الدلالية والبيانية قواعد لغوية صافية لا تتأثر بأي جهة دينية ...

أو مذهب فكري، وهذا معنى قولنا عنها: إنها قواعد حيادية) .

وهذه مسألة فيها نظر؛ من وجهة نظر شرعية ومن وجهة نظر لغوية بحتة،

وليس هذا مجال بحثها. وهذه القاعدة التي ذكرها ينقضها هو نفسه في الفقرة التالية

حيث يقول:

(غير أن الكثير من هذه القواعد، وإن كان محل اتفاق من أئمة اللغة، إلا أن فيها أيضاً، ما هو محل نظر وخلاف فيما بينهم) .

لكن القول السديد في هذه المسألة - التي أعاد البوطي فيها القول ليوهم قراءه

أن (السليقة العربية) وقواعد اللغة كافية لمن حذقها (في فهم النصوص وإدراك

مراميها) [ص ٤٩]- هو ما قاله ابن تيمية وسنثبته هنا متحملين ومحتسبين وصف

البوطي لنا بالسطحية وعدم الصبر والاستيعاب، هذه العيوب التي انعكست علينا

من أسلوب ابن تيمية المضطرب يقول: (وقد انعكس هذا الاضطراب في كلام ابن

تيمية على أذهان كثير ممن يقرؤون له، بسطحية وبدون صبر واستيعاب) .

١٦١] لا حول ولا قوة إلا بالله.

يقول ابن تيمية:

(ومما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم ولهذا قال الفقهاء: (الأسماء ثلاثة أنواع:

نوع يعرف حده بالشرع، كالصلاة والزكاة؛

ونوع يعرف حده باللغة، كالشمس والقمر؛

ونوع يعرف حده بالعرف، كلفظ القبض، ولفظ المعروف في قوله:

[وعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ] [النساء: ١٩] ونحو ذلك.

وروي عن ابن عباس أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه:

* تفسير تعرفه العرب من كلامها،

* وتفسير لا يعذر أحد بجهالته،

* وتفسير يعلمه العلماء،

* وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب.

فاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك، قد بين الرسول - صلى الله

عليه وسلم - ما يراد بها في كلام الله ورسوله، وكذلك لفظ الخمر وغيرها ومن

هناك يعرف معناها، فلو أراد أحد أن يفسرها بغير ما بينه النبي - صلى الله عليه

وسلم - لم يقبل منه. وأما الكلام في اشتقاقها ووجه دلالتها؛ فذاك من جنس علم

البيان، وتعليل الأحكام، هو زيادة في العلم، وبيان حكمة ألفاظ القرآن، لكن

معرفة المراد بها لا يتوقف على هذا.

واسم الإيمان والإسلام والنفاق والكفر هي أعظم من هذا كله؛ فالنبي - صلى

الله عليه وسلم - قد بين المراد بهذه الألفاظ بياناً لا يحتاج معه إلى الاستدلال على

ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك؛ فلهذا يجب الرجوع في مسميات

هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله، فإنه شافٍ كافٍ، بل معاني هذه الأسماء معلومة

من حيث الجملة للخاصة والعامة) . [مجموع الفتاوى٧/٢٨٦] .

وعند حديثه عن دوافع الشذوذ والخروج عن مقتضيات المنهج المتفق عليه في

تفسير النصوص (ولا تنس أنه منهج البوطي وحده) يذكر (أن هذه الدوافع تتجمع

في عاملين أساسيين:

العامل الأول: المغالاة في تحكيم العقل على حساب النص الصحيح والخبر

الصادق، أي تحميله فوق طاقته وجره في متاهات لا يملك السير السليم فيها إلا

على ضوء الخبر اليقيني الذي يتمثل في النصوص) . [ص١٢٧] . وهذا كلام سليم

وجيد لولا ما ينقضه ما جاء في [ص٦٣] عند كلامه عن (مراحله الثلاث) التي لا

يكون المسلم مسلماً إلا بها، حيث بعد أن يشترط لذلك: «التأكد من صحة

النصوص الواردة والمنقولة عن فم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم -، قراناً

كانت هذه النصوص أم حديثاً، (وهذه فائدة جديدة عثرنا عليها من قراءتنا الثانية

لهذه الفقرة، وهي التأكد من صحة النص القرآني! فيجب أن ندرسه - على زعمه

- رواية ودراية، حتى ننتهي إلى يقين!» بحيث ينتهى إلى يقين بأنها موصولة

النسب إليه، وليست متقولة عليه يشترط أيضاً شرطاً آخر وهو قوله: (عرض

حصيلة تلك المعاني والمقاصد التي وقف عليها وتأكد منها على موازين المنطق

والعقل (يعني: إخضاع النصوص، أو ما فهمه من تلك النصوص - قرآناً وسنة

أيضاً! - لتمحيصها ومعرفة موقف العقل منها) !

وحتى نجمع بين هذين التناقضين، ونُعمل كلام الشيخ فيهما معاً فلا نهمل

واحداً، ونعتمد الآخر، وذلك ضناً بكلامه النفيس جداً عن الإهمال والتعطيل؛

نقول: لا بأس من تحكيم العقل في النص الصحيح قرآناً وسنة، لكن دون مغالاة!

وبذلك يتسق أول الكلام مع آخره! ومن يدري؟ ! فقد نستحق جائزة أو شكراً على

الأقل منه على ذلك!

تلبيس وتدليس:

كثيرا ما يلجأ البوطي إلى التعميم والتلبيس، فيصدر حكماً، أو يضع مقدمات

يتركها بلا دليل ولا إثبات. وهذا الأسلوب في الكتابة شائع بين العلمانيين الذين

يهجمون على القضايا الفكرية الأساسية بجرأة عجيبة، وبخاصة على ما كان منها

متعلقاً بالأمور الشرعية التي لا علم لهم بها.

والمفترض أن يكون أسلوب النقاش مع الشيخ البوطي يختلف عن الأسلوب

الذي يتبع مع هؤلاء، فهو شيخ وابن شيخ، وهذا أعرق له وأثبت قدماً في مجالات

العلم والبحث، وهو أيضاً حامل لشهادة الدكتوراه - وأظنها مع مرتبة الشرف إن لم

يكن أكثر - من الأزهر، وهذا أَطلَق لقلمه ولسانه، وأكثر ترويجاً للكتب في السوق

هذه الأيام، وبخاصة في بلاد كبلاد الشام حيث من اللائق بالشيخ أن ينشد:

خلت الديار فسدت غير مسود ومن الشقاء تفردي بالسؤدد

فكيف يهجم الشيخ هجوم أولئك؟ ! وما له يرسل الكلام إرسالاً، ويطلق ...

الأحكام إطلاق المتمكن الواثق؟ ! ألا تكفينا مجازفات العلمانيين وتعالم الجهلة الذين ...

أفسدوا العلم والثقافة، وسمموا العقول والقلوب؟ ! لمن يكتب هذا الكلام ومن أي ...

بئر يَمْتَح؟ ! :

(وهذا ما حدث، فقد كان في الصحابة والتابعين من أخذ يستنبط الأحكام تعليلاً واعتماداً على اجتهاده المرسل، استجابة لمقتضيات الظروف الطارئة والأوضاع الحديثة، (يقصد: الحادثة) وكان فيهم أيضاً من يتجنب ذلك ويحذر منه، بل يشتد في النكير على استعمال الرأي والأخذ به، خوفاً من تجاوز النصوص والاستبدال بها، مما يسبب الوقوع في زلات لا تغتفر) [ص٤٩] .

- لِمَ لم يذكر الشيخ اسم صحابى واحد كان يستنبط الأحكام تعليلاً واعتماداً

على اجتهاده المرسل؟

- ثم ما معنى الاجتهاد المرسل؟ نحن نفهم الاجتهاد المرسل على أنه الاجتهاد

الذي لا دليل عليه؛ لا من كتاب، ولا من سنة، ولا حتى من عقل، كالجمل

المرسل: لا خطام ولا عقال. والفرس المرسل: لا عنان، ولا لجام، ولا هِجار!

هل يقصد الشيخ إلى أمثال هذه التلبيسات قصداً؟ وهو فعل غير محمود

العواقب عليه وعلى قرائه؟

والجواب - والله أعلم - أن منها ما يأتي بسبب العجلة وقلة الصبر كهذه التي

أشرنا إليها آنفاً؛ ومنها التي تجمع إلى العجلة وقلة الصبر قليلاً من الهوى كهذه التي

نعثر عليها في هامش [ص ١٠١] حيث يقول:

(إلا ما ذهب إليه الإمام أحمد من حكمه بكفر تارك الصلاة ولو لم يكن جاحداً ...

لها) . فما الدافع لهذا الإجمال المخل؟ إن لم يكن ما ذكرنا؟ ! وإلا فالمسألة فيها تفصيل معروف عند العلماء، وليس هذا الذي ذكره هو رأي الإمام أحمد وحده، فقد قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي - رحمه الله - في كتابه في الصلاة:

(ذهب جملة من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم إلى تكفير تارك

الصلاة متعمداً لتركها حتى يخرج جميع وقتها، منهم: عمر بن الخطاب، ومعاذ

بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وجابر، وأبو الدرداء، وكذلك روي

عن علي بن أبى طالب، هؤلاء من الصحابة. ومن غيرهم: أحمد بن حنبل،

وإسحق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، وإبراهيم النخعي، والحكم بن عيينة،

وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبى شيبة، وأبو خيثمة

زهير بن حرب) . [كتاب الصلاة وحكم تاركها لابن القيم، ٥ ١] .

ولكن هناك من التلبيسات ما يبدو أنه يقصد إليه قصداً، كتلك الواردة في

١٠٢] (والصلاة جماعة خلف كل بر وغيره) !

فالمعروف عند المسلمين: الصلاة خلف كل بر (وفاجر) فما الداعي يا ترى

لوضع: (غيره) موضع (فاجر) هل هو النسيان؟ أم هو سبق قلم؟ أم أن الكلمتين

مترادفتان تقوم إحداهما مقام الأخرى؟ !

لا شك أن كلمة (غيره) أعم من كلمة (فاجر) .

وعلى كل حال؛ فكان يمكن أن تعد هذه هنة من الهنات التي لا يوقف عندها

لولا ما بلونا من الشيخ وضعه للرقة والنعومة والقسوة والتشنيع والتشهير في غير

مواضعها، فلعله - وهو في زمن كثر فيه هذا الصنف من الأئمة - لا يريد أن

يكسر خاطرهم بمثل هذه الكلمة التي قد يعتبرها نابية؟ ! أو لعله يجوز إمامة المنكِر

معلوماً من الدين بالضرورة أو من في حكمه - وهو غير برٍّ حتماً - وهكذا قد يظن

أنه بهذه (المجاملة) ينجو من المحذور فيقع في المحظور. ولكن هل عليه بأس

بمجاراة الزمن، والصحابة - الذين هم مَن هم - قد جاروه؟ !

ألفاظ غير لائقة بالشيخ:

يقول عن الصحابة والتابعين:

(ولكن، ها هم اليوم، وقد تمازج جيل التابعين مع الصحابة، قد غيروا طريقهم، وفتحوا صدورهم للجدل في كل مسائل الاعتقاد، (بلا استثناء؟ !) وفي مقدمتها تلك التي كانوا بالأمس ينغضون لها الرأس والفكر قبولاً واستسلاماً دون أي بحث أو نقاش..) [ص٤٢]

لا نريد أن نناقش هذه الفقرة من الناحية الموضوعية، بل من الناحية الشكلية

فقط، فنقول:

استخدام هذه الكلمة (ينغضون لها الرأس) في وصف الصحابة أو التابعين

أمر غير لائق، فقد وردت مرة واحدة في القرآن الكريم في وصف الذين لا يؤمنون

بالآخرة، وقد قال ابن عباس وقتادة في تفسير [ينغضون رؤوسهم] أي يحركونها

استهزاءً. [ابن كثير تفسير الآية ٥١من سورة الإسراء] ، لكن حرص الشيخ على

الأسلوب الأدبي الرفيع، واحتفاله به يجعله يضحي بالمعاني في سبيل الألفاظ!

كذلك قوله عن علم الجرح والتعديل ويسميه هو: فن الجرح والتعديل بأنه

(يقف ذيلاً وخادماً) فلِمَ هذا التكلف؟ ولم كل هذا الجبروت في منهجك حتى تجعل من علم الجرح والتعديل ذيلاً وخادماً له؟ ! يا أخي، لقد ملكت؛ فأسجحْ!

وانظر إليه كيف يستحسن - بتشفٍّ وحنق وشماتة ظاهرة - أن يصفع شرطي

فرنسي مسلماً (سلفياً) ويشتمه:

(لقد اشتدت هذه الخصومات ذاتها واهتاجت في أحد مساجد باريس منذ ثلاثة

أعوام، حتى اضطرت الشرطة الفرنسية (مشكورة!) إلى اقتحام المسجد، ...

والمضحك المبكي [١] بآن واحد، أن أحد أطراف تلك الخصومة أخذته الغيرة

الحمقاء لدين الله ولحرمة المساجد، (صحيح أحمق! لماذا يغار على دين الله وعلى

حرمة المساجد؟ أعلى مثل هذه الأمور يغار؟ !) لما رأى أحد الشرطة داخلاً

المسجد بحذائه، فصاح فيه (كذا) أن يخرج أو يخلع حذاءه (كذا) ولكن الشرطي

صفعه قائلا: وهل ألجأنا إلى اقتحام المسجد على هذه الحال غيركم أيها

السخفاء؟ ! ..) [ص ٢٤٥]

لمثل هذا فليكتب الكاتبون!

نقول:

لو أن الشيخ نقل لنا كلام الشرطي الفرنسي باللغة الفرنسية وأردفه بهذه

الترجمة لأحسن صنعاً، ولكان عمله أقرب إلى الدقة والموضوعية! ؛ لأننا في شك

طفيف من هذه العاطفة البادية في عبارة هذا الشرطي الورع الذي لم يلجأ إلى ما لجأ

إليه إلا بعد أن بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام الطُّبَيين! وإلا فهو - وكذلك بنو

جلدته - من أشد الناس معرفة بحرمة المساجد ومراعاة مشاعر المسلمين! !

أخي القارئ الكريم:

اقرأ هذه الفقرة، وعاود قراءتها حتى تمل، وإياك أن تظن أن كاتبها أدونيس

بل هو الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي صاحب حوالي عشرين مؤلفاً حول

القضايا الإسلامية، وسلسلة من ثمانية كتيبات بعنوان: أبحاث في القمة.

أي القمم؟ !

وأخيراً، فإن مما لا يليق بالشيخ أيضاً أن يشتم ويسب (السلفيين) ويصفهم

(بالكاذبين والمخادعين والمضللين) [ص٢٥٥] فهذه والله كبيرة، وأن يصف

(السلفية) - كمصطلح - بقوله: (تلك الكلمة المَيْتَة [٢] التي لا تنحط (! !) إلا

على واقع يضم أخلاطاً ومذاهب شتى من الناس) .

وهذه أكبر!

اللهم هذا ليس بكلام مسته بركة العلم الشرعي، واستروح نسائم الأدب

الإسلامي!

غرور وادعاء:

تكثر العبارات والفقرات الثقيلة التي محورها النفس والهوى - والعياذ بالله -

فهناك من الجمل الفضفاضة الكثير في ثنايا الكتاب، ونحن نشهد أن الكاتب حاول - جهده - أن يكف كثيراً من هذه العبارات التي تتزاحم لتندلق على صفحات كتابه، وتتجسد كلاماً يقرأ وتحسب له الحسابات، ولكن على رغم من جهده وعنائه في

كفكفتها؛ فإن قدراً منها لا بأس به قد غلبه وخرج يتلألأ ويلوح!

خذ مثلاً قوله [ص٦٩] :

(ولابد أن نقول هنا كلمة وجيزة نضمنها عصارة ما هو مدون في المطولات

والموسوعات التي تناولت هذا الموضوع عموماً، وهو منهج المعرفة بصورة عامة، والتي ركزت على هذا المدخل الذي نحن بصدده خصوصاً) .

انظر، ضمّن كتابه هذا العصارة! عصارة ماذا؟ عصارة ما هو مدون في

المطولات والموسوعات، فالمطولات وحدها لا تشفي غليل الشيخ، بل لا بد من

الموسوعات، والمطولات والموسوعات هضمها الشيخ هضماً، وعصرها عصراً،

حتى أخرج لنا هذه الآبدة!

صدق مَن قال: (المرء حيث وضع نفسه) !

وهذه ثانية:

(ومع ذلك فلنتبع هذا الباب، بباب آخر يزيد من وضوحه، نضع فيه النقاط

على الحروف، وننتقل فيه من البيان النظري الواضح الجلي! إلى التطبيقات الحية

كي نسد بذلك كل ثغرة قد يتسلل إلى الذهن منها وسواس، أو يتشابه من خلالها حق

بباطل. والله المستعان) . [ص ٩٤] .

إن الشيخ تعجبه نفسه كثيراً! وهو معجب بأسلوبه أكثر! ولو أن مقرّظاً قرّظ

كتابه بمثل هذا الكلام لصح أن يقال له: مهلاً، هوّن عليك، رحمة بالرجل فقد

قطعت عنقه!

فليت شعري، ماذا نقول للرجل وهو يتحدث عن نفسه هكذا؟ !

وثالثة:

اسمعه يصف منهجه:

(وسنزداد يقيناً، على أعقاب ذلك، بأن هذا المنهج هو الميزان ... والمقياس الوحيد لتصنيف الناس في مجال البحث عن هوياتهم (!) الاعتقادية والسلوكية، في أي عصر من العصور عاشوا، ومن أي القبائل أو الشعوب انحدروا، وهو المحور الذي أدرنا عليه سائر بحوث هذا الكتاب) . [ص ٩٨] .

ونحن نضيف على وصفه منهجه هذه العبارة:

(حتى لو أن قائلاً قال: إنه هو الميزان الذي عناه أبو طالب بقوله ... في قصيدته اللامية:

بميزان قِسطٍ لا يَخيسُ شعيرةً ... له شاهد من نفسه غير عائل

لما أبعد!

ورابعة:

(ولقد أصغينا طويلاً، ونقبنا كثيراً، فلم نسمع بهذا المذهب في أي ... من العصور الغابرة!) [ص٢٣١] . لم يقل لنا الشيخ: لمن أصغى، ولا أين نقب؟ ولكن هذا معلوم بديهة؛ فقد أصغى طويلاً لأهل العلم، ونقب كثيراً في بطون الكتب (والمطولات والموسوعات) وعصرها عصراً، لن ننسى ذلك أن الشيخ يجهد نفسه، ويحملها على أوعر الطرائق من أجل أن يُجهّل ويُبدّع ويُسخّف هؤلاء السلفيين، ويخرجهم من دائرة أهل السنة والجماعة!

لقد أتعبت نفسك يا رجل، ألا تستريح!

وخامسة أخيرة:

بعد أن أظهر لنا في كتابه أنه ابن بَجْدة الفقه والأصول (ومنهج المعرفة

وتفسير النصوص) أراد أن يستولي على الأمد فيتسلق إلى علم العربية، فوقع.

استمع إليه وهو يتمايل ويتخايل:

(يدلك على ذلك أن (بل) لا تقع إلا بين نقيضين (!) فليس لك أن تقول، ...

وأنت عربي: لست جائعاً بل أنا مضطجع، وانما تقول: بل أنا شبعان (هكذا!)

وليس لك أن تقول: ما مات خالد بل هو تقي، وانما تقول: بل هو حي، ولا

تقول: ما قتل الأمير، بل هو ذو درجة عالية عند الله، لأن ثبوت درجته العالية

عند الله لا ينافي قتله (فافهم!) وانما تقول: بل هو ما زال حياً.) [ص ١٢٦] .

لا يغترّنّ أحد بحسم الشيخ وجزمه في قوله: (إن بل لا تقع إلا بين نقيضين) .

فهذا من (عندياته) وتهويلاته، أما كتب النحو ففيها شيء آخر، قال ابن

هشام في المُغني:

(بل) حرف إضراب، فإن تلاها جملة كان معنى الإضراب إما: ...

- الإبطال، نحو: [وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ]

[الأنبياء: ٢٦] ، أي: بل هم عباد، ونحو [أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ]

[المؤمنون: ٧٠] .

- وإما الانتقال من غرض إلى آخر ومثاله: [قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وذَكَرَ

اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا] [الأعلى: ٤ا-٦ا] ، ونحو: [ولَدَيْنَا

كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا] [المؤمنون ٦٢-٦٣] ، وهي في ذلك كله حرف ابتداء - لا عاطفة - على الصحيح.

ومن دخولها على الجملة قوله:

بل بلدٍ ملءُ الفجاج قَتَمُهْ

إذ التقدير: بل رب موصوف بهذا الوصف قطعته. ووهم بعضهم فزعم أنها

تستعمل جارّة.

وإن تلاها مفرد فهي عاطفة.

ثم إن تقدمها أمر أو إيجاب ك (اضرب زيداً، بل عمراً، وقام زيد بل عمرو) فهي تجعل ما قبلها كالمسكوت عنه فلا يحكم عليه بشيء، وإثبات الحكم لما بعدها.

وإن تقدمها نفي أو نهي فهي لتقرير ما قبلها على حالته، وجعل ضده لما بعده، نحو: (ما قام زيد بل عمرو ولا يقم زيد بل عمرو) [مغني اللبيب، ص ١٥١] .

وقد يلومنا بعض القراء أن وضعنا هذا المثال من تعالُم الشيخ تحت عنوان:

(غرور وادعاء) ولم نضعه تحت عنوان: (التواء وتهويل) فنقول:

الالتواء والتهويل ليسا بعيدين كثيراً من الغرور والادعاء، بل بينهما لُحمة

وكيدة وعلاقة وطيدة، تهويل يؤدي إلى الادعاء، وغرور يسوق إلى التهويل. ففي

هذا المثال؛ لولا الغرور والادعاء والإعجاب بالنفس التي تدفع بالشيخ لتجشم مثل

هذه الصعاب لما هوّل علينا بهذه الأمثلة التي يريد من ورائها إيهام قرائه أنه قادر

على الفتوى ليس في (السلف والسلفية) فحسب؛ بل في العربية أيضاً! وأمامك -

فانظر - فتاواه في هذين الشأنين.

*يتبع *


(١) طبعاً يستسيغ الشيخ أن يضحك على هذا الموقف، ولكن يبكي مَن ماذا وعلى ماذا؟ ! .
(٢) الضبط للكلمة من الشيخ نفسه، ولعل هذا الضبط أشفى لصدره! يقول الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) ، ٢/١١١: والميتة - بالتخفيف - هي في أصل اللغة: الذات التي أصابها الموت، فمخففها ومشددها سواء، كالميْت والميّت، ثم خُص المخفف مع التأنيث بالدابة التي تقصد ذكاتها إذا ماتت بدون ذكاة فقيل: إن هذا من نقل الشرع، وقيل: هو حقيقة عرفية قبل الشرع وهو الظاهر بدليل إطلاقها في القرآن على هذا المعنى.