للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيان الأدبي

[السعادة الوهمية]

مؤمنة الشلبي

بدأت ظلمة الليل تتبدد وأخذ الفجر طريقه إلى الحياة، انسحب الليل بسواده

أمام الضياء الذي بدأ يطل على نافذة غرفة (سناء) التي كانت بصحبة خادمتها

(ناتالي) تُعدها، وتزينها، وتلقي النظرات الأخيرة على أناقتها قبل أن تخرج

لتستقبل يومها الأول في الجامعة.

ووقفت (سناء) أمام المرآة لتطمئن على أناقتها وأحاسيس مثيرة تنتابها وتملأ

كيانها بالغبطة والسعادة؛ فهي منذ اليوم ستكون فتاة جامعية لها شأنها.

وفي هذه الأثناء عاودتها ذكرى قدوم (ناتال) - الخادمة الفلبينية الوديعة

المحببة إلى النفوس من جميع أفراد العائلة - بما تقدم كل من إخلاص في الخدمة

وعذوبة في الحديث وتودُّد من الجميع لا نظير له ولا أدل على ذلك مما وجدته

(سناء) عندها من العطف والحنان، بل والحب الذي افتقدته عند والدتها التي لا تكاد

تنصرف عن زياراتها ومكالماتها مع صديقاتها، موكلة مهمة العناية بالبيت والأطفال

لخادمتها، بل طالما انصرفت الأم عنها وهي في شدة المرض لتمرضها (ناتالي)

وتهتم بها!

صحت (سناء) من شرود أفكارها على يد (ناتالي) الناعمة تُميل برأسها نحوها

وتضمها إلى صدرها، وتقبّلها قائلة: حسناً يا سناء، إنك بهذا الجمال وهذه الأناقة

تستحقين أن تكوني (الأستاذة سناء) !

وابتسمت (سناء) وهي تتابع كلام (ناتالي) بتعطش شديد فقد ضربت وتراً

حساساً لديها، فهي منذ الصغر تتلهف لليوم الذي تكون فيه أستاذة المستقبل يتحدث

الجميع باسمها.

وفي البهو الجامعي كانت المفاجأة السارة حيث التقت (سناء) مع صديقة

الطفولة وزميلة الدراسة (أمل) ، كان اللقاء حاراً استهلته (أمل) بإبداء الابتهاج

لنجاح سناء ودخولها الجامعة، واتبعت ذلك بالسؤال عما كانت تعانيه (سناء) من

صداع بين الحين والآخر.

فأجابتها (سناء) على الفور: الفضل كل الفضل في نجاحي يعود إلى خادمتنا

(ناتالي) التي سهرت على راحتي، وآنستني أثناء دراستي، وجلبت لي كل ما

يساعد على مواصلة السهر حتى الصداع الذي كنت أعانيه من جراء ذلك كان يزول

بأقراص السعادة العجيبة التي تقدمها لي!

وما زالت (سناء) تحدث (أمل) عن (ناتالي) بإعجاب وتصف شدة حبها

وتعلقها بها، و (أمل) لا تزيد أن ترد بابتسامة مجاملة لها، وقد اضطرم القلق في

عروقها.. إلى أن قطع الحديث بينهما بداية المحاضرة الأولى؛ فانسلت كل منهما

إلى قاعتها.

وتوالت اللقاءات بين (سناء) و (أمل) بتوالي الأيام، وفي كل مرة كان الشك

والقلق يزداد عند (أمل) .. إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان حين دخلت (أمل)

كافتريا الجامعة في أحد الأيام، وإذا بصديقتها (سناء) وقد استندت إلى أحد الكراسي، وقد بدا الشحوب على وجهها، وأمسكت برأسها تضغطه بكفيها وكأنها تريد أن

تستخرج منه شيئاً ما.

أسرعت إليها (أمل) تستوضح حقيقة الأمر؛ لتقوم ببعض الواجب تجاه

صديقتها وخاصة في مثل هذا الموقف وفوجئت بسناء تقول لها وببرود قاتل: لا

عليك يا عزيزتي؛ فالأمر لا يحتاج إلى اهتمام كبير فلقد اعتدت هذا، وما عليك إلا

مساعدتي للوصول إلى المنزل، وهناك تدبر أمري (ناتالي) بحبوب السعادة التي

تقضي على كل الآلام، وتعيد لي نشاطي وقوتي!

ولمعت الدهشة في عيني (أمل) ، وبدأ الشك الذي تسرب إلى نفسها يتحول

إلى يقين.. ولكن لم يكن بإمكانها في مثل هذا الموقف إلا الإسراع لتلبية طلب

(سناء) ، فاتصلت بوالد (سناء) في عمله والذي حضر لتوّه دون أن يظهر عليه أي

تأثر بالغ، فقد اعتاد هو الآخر على مثل هذه المواقف.

وفي المساء كانت (أمل) في بيت (سناء) لتطمئن عن صحتها ولم تتمالك نفسها

من إظهار الدهشة والإعجاب وهي ترى صديقتها بكامل صحتها ونشاطها، وقد تألق

وجهها بفيض من ملامح السرور والسعادة، واندفعت نحو (أمل) تضمها إليها وهي

تردد - والضحكات لا تفارق ثغرها -: ألم أقل لك يا عزيزتي بأن الفضل كل

الفضل يعود إلى الفتاة العظيمة (ناتالي) ، فما إن أوصلني والدي إلى المنزل وعاد

إلى عمله حتى احتضنتني (ناتالي) بعطفها وحنانها، وما إن ناولتني الأقراص

سرعان ما زال ألم الصداع، وعشت في عالم من السعادة، ودب النشاط في جسمي، وذهب أثر الشحوب عن وجهي وبدأ يتألق بالجمال كما تقول (ناتالي) ، وقهقهت

بخبث وهي تردف قائلة:

هل تصدقين يا أمل بأن (ناتالي) مقتنعة جداً بجمالي، فهي لا تفتأ تبدي

إعجابها وتردد على مسامعي: جمالك بارع جداً يا سناء ولكنك تشوهينه بهذا

الحجاب اللعين! ، سمعتها وهي تشتم أن يكون مولدي في هذا المكان، وأنه لمن

الظلم أن أظهر للمجتمع بلبوس العجائز! ، واتبعت ذلك بضحكة عريضة وهي

تقول: ألا توافقين على ذلك يا أمل؟ !

كانت (سناء) مسترسلة بحديثها المحبب إلى نفسها ولم تكن تدري ما يجول في

خواطر (أمل) التي تمالكت أعصابها وقالت: ثم ماذا؟ ! تابعي حديثك يا سناء.

فقالت سناء: أجل لقد نسيت أن أخبرك بأن (ناتالي) كثيراً ما كانت تؤكد لي

بأنها مستعدة لجلب تلك الحبوب لكل مَن أحبها وأثق بها من زميلاتي، وبأسعار

معقولة، بل إنها ستقدمها بدون مقابل للمرة الأولى فقط! ، فما رأيك يا (أمل)

بتجريب تلك الأقراص؛ فإنها ستكون عوناً لك على مواصلة السهر أثناء الدراسة

الجامعية، وإشعارك بنوع من السعادة الخفية العجيبة؟ !

وفي تلك اللحظات كان الانفعال قد بلغ ذروته عند (أمل) ، وارتسمت على

وجهها ظلال من الخوف الممزوج بالغضب، وجمدت كلمات مخنوقة في حلقها،

ومرت برهة صمت غمر فيها (أمل) شعور مَن يرى عزيزاً عليه يغرق في مياه

آسنة، ثم اندفعت الكلمات من حلقها - وهي تزمجر كالأسد الهائج -: لا.. لا..

لن أسح لتلك الشيطانة اللعوب أن تؤدي بك إلى الجحيم.. تنبهي يا (سناء) إن هذه

المجرمة تناولك السم بيدها، وثقي بأنها هي مصدر ما تعانيه من آلام الصداع،

والإرهاق، ولن يكون مصيرك معها سوى الموت أو الضياع! ، أو..، فقاطعتها

سناء ذاهلة - وهي تجاهد أن تملك نفسها من فرط العجب والدهشة لغضب (أمل)

المفاجئ -: ماذا جرى لك (يا أمل) ؟ ! .. وما هذا الذي تقولين؟ ! ؛ فأنا لا أسمح

لك أن تصفي (ناتالي) العظيمة الحبيبة بهذه الصفات! .

وأجابتها (أمل) باستنكار شديد: بل الغريب منك يا (سناء) - كيف لا تسمحين

لي أن أصف تلك المرأة الوثنية بالحقيقة؟ ! .. والأغرب من هذا أن تدافعي عن

العدوة الحاقدة، وتسمحي لها أن تصف دينك زوراً وبهتاناً بتلك الصفات القذرة،

وأن تهدر قيمة حجابك بكلمات خبيثة براقة، وتعترض على مولدك في المكان الذي

شرَّفه الله من فوق سبع سموات ...

أجل.. يا سناء لقد نسيتِ تحت تأثير الوهم القاتل (حبوب السعادة) - أن كل

ذلك هو مصدر عزتك وكرامتك بل ومصدر إنسانيتك الحقة التي تحميك ألم الذل

والمهانة والضياع، ومن ثم التردي والوقوع بين مخالب الذئاب المفترسين الذين

يريدون منك ومن كل مسلمة أن تكون بين أياديهم الظالمة الآثمة باسم الشعارات

المزيفة الجذابة ...

وفي هذه الأثناء بدت (سناء) متهالكة وقد فغرت فاها، وأمسكت برأسها،

وصرخت بأعلى صوتها: رأسي.. رأسي.. أين أنت يا (ناتالي) وبسرعة عجيبة - وهي تسدد إلى (أمل) نظرات حاقدة مشوبة بشيء من الحذر؛ فقد كانت خلف

الباب تسمع كل ما دار من حديث.. وضمت (سناء) إلى صدرها، ومسحت على

شعرها تحاول تهدئتها وقالت: لا بأس عليك يا حبيبتي؛ فكل شيء على ما يرام،

وما هي إلا لحظات وتستعيدي نشاطك وسعادتك! .

وهنا ارتفع رأس (سناء) مع ارتفاع حاد في صوتها وهي تخاطب (ناتالي)

بانزعاج بالغ: أخرجي هذه الفتاة من بيتنا.. لقد أثارتني وأحرقت أعصابي..

أخرجيها.. أخرجيها.. لا أحب أن أراها..

وأقبلت أم سناء مسرعة تستوضح سبب الضجة الغريبة في غرفة ابنتها،

وفوجئت بأعز صديقات ابنتها وهي تردد:.. أجل سأخرج من منزلكم الآن

مطرودة بسبب هذه الخادمة الشيطانة الماكرة، ولكن تأكدي بأني سأعود لزيارتكم

يوماً ما - إن شاء الله - معززة مكرمة.

وحاولت أم سناء أن تمسك بأمل لتعرف حقيقة الأمر، ولكن (أمل) انسلت

مسرعة، وقد عقدت العزم على القيام بالواجب الملقى على عاتقها تجاه أمتها،

ولإنقاذ هذه الأسرة المسكينة من براثن شر محدق لا يعلم مداه إلا الله.

ولم يمضِ وقت طويل على طرد (أمل) من منزل (سناء) حتى فوجى الأبوان - والد سناء ووالدتها - بالحادث الجلل الذي زلزل كيانهما، وأقضَّ مضجعهما،

ودمر ثقتهما بكل شيء، وهما لا يكادان يصدقان ما يجري في بيتهما من هول

الصدمة العنيفة، ولكنهما مجبران على التصديق.

فهذه ابنتهما الحبيبة (سناء) تُنقل إلى مستشفى الأمل للعلاج من أثر الإدمان

الخطير على الحبوب المخدرة التي كانت تجلبها لها (ناتالي) !

وهذه (ناتالي) - وقد حاولت أن تستنجد بدموعها أمام رجال المكافحة - علَّها

تقيها هذا الموقف الخطير، وتعفيها من الكلام، ولكن الأمور لم تكن لتسمح بذلك؛

فالجريمة فوق مستوى الرحمة والعطف ولابد من الاعتراف.

وفي مركز مكافحة المخدرات اعترفت الخادمة (ناتالي) بجريمتها التي كانت

تنفذها بمساعدة العديد من بنات جلدتها من المربيات والخدم الذين قدموا إلى ديار

الإسلام بخطة مدروسة لتدمير أبناء الإسلام.

وشعرت الخادمة (ناتالي) بقلبها يتحطم تحت وطأة المفاجأة؛ \ فقد رأت كيدها

يرُد إلى نحرها، وتتحطم كل الآمال التي بنتها أما (سناء) الراقدة في المستشفى

تحت العناية المركزة؛ فقد انقشعت سحابة الوهم من أمام عينيها، وأضاءت شمس

الهداية في قلبها، واهتز وجدانها وهي تشاهد صديقتها (أمل) بجوار سريرها،

فغطت وجهها بكفيها لتخفي ما ترقرق من الدمع في عينيها وهي تقول: سامحيني يا

(أمل) فقد ظلمتك وأخطأت في حقك كثيراً.

وتهلل وجه (أمل) بفيض من البِشر والسعادة، وقد لمست صدق الحديث من

صديقتها (سناء) فاقتربت منها وضمتها إلى صدرها وهي تردد على مسامعها كلمات

السماح والحب الصادق.

وتعاقبت الأيام، وتماثلت (سناء) للشفاء الحقيقي التام، وزالت عنها كل

أعراض مرض الإدمان، كالصداع، والإنهاك.. و.. وسمح لها بمغادرة المستشفى

لتملأ الدار بشراً ومرحاً، ولتتمتع برعاية أبويها اللذين اقتنعا بالخطأ الفادح باستقدام

الخادمة من بلاد الكفر والإلحاد، وشعرا بأن مهمة الأم الأساسية هي القيام بحقوق

الزوجية، والإشراف المباشر على تربية فلذات الأكباد لبناء جيل مسلم رشيد يعتز

بدينه وأمته.

وكانت (أمل) من أوائل الزوار لسناء في بيتها وقد حملت معها مجموعة من

الكتب والقصص الإسلامية، بديلاً عن الهدايا التي تقدم عادة كالورود والحلوى في

مثل هذه المناسبات.

وشكرت (سناء) صديقتها (أمل) لوقوفها إلى جانبها في محنتها، وناشدتها

قائلة - بأدب جم -: أرجوك يا (أمل) أن تقبليني أختا لكِ في الله، فلا تبخلي عليَّ بوقت ولا نصيحة عسى أن يوفقني الله وإياك لطاعته والذود عن حرماته.

وأشرق وجه (أمل) بصفاء عميق وهي تقول: أهلاً ومرحباً بكِ أختاً في الله،

وما عليك - يا أختاه - إلا أن تشحذي همتك؛ فالغاية مشرقة نيِّرة والسبيل إليها

هدْيه - صلى الله عليه وسلم -: «قل آمنت بالله ثم استقم» .

وبينما هما تتضاحكان وتتبادلان ذكريات الماضي.. إذ بصوت المذياع يعلن

عن إذاعة بيان صادر عن محكمة القضاء الأعلى.

وساد الصمت برهة جو الغرفة ومرت لحظات والفتاتان تصغيان بانتباه شديد، وما أن أُعلنت أسماء أفراد العصابة التي صدر بحقها الحكم الشرعي جزاءً على ما

اقترفته أيديهم من تهريب للمخدرات ونشر للفساد حتى فغرت الفتاتان فاهما، ونطقتا

بصوت واحد: ناتالي - الحمد لك يا رب.. لقد صدق قول الله فيها وفي أمثالها:

[كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ويَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً واللَّهُ لا يُحِبُّ

المُفْسِدِينَ] [المائدة: ٦٤] .