للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون في العالم

النظام العالمي الجديد:

الوجه الآخر للاستعمار

-١-

د. أحمد عجاج

تجتاح العالم فرحة غامرة، وتسوده حالة من الارتياح والاسترخاء عقب انتهاء

حرب الخليج أو ما أصبح يعرف بحرب (تحرير الكويت) ، فالمعتدي، وهو هنا

طبعاً العراق، قد لقن درساً قاسياً ورد على أعقابه، والمنطقة بدأت تتنفس من جديد

هواء الحرية الذي حرمت منه في الأشهر الأخيرة.

فالمستقبل يحمل كل بشائر الخير للمنطقة، وعلامات الرضى والتفاؤل بدأت

تظهر ملامحها من خلال تصريحات المسؤولين الغربيين والمتجلية في إعادة ترتيب

أوضاع العالم والمنطقة بشكل خاص.

فنادراً ما نجد صحيفة أو مسؤولاً عربياً إلا ويتحدث عن الترتيبات الجديدة

التي من شأنها أن تنقل المنطقة بلمسة سحرية من حالة الفوضى وعدم الأمن إلى

واحة الاستقرار والحرية.

وجوهر هذا التفاؤل يرجع أساساً إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش في

خطابه الشهير أمام جلسة مشتركة لمجلسي الشيوخ والنواب في كانون الثاني حيث

أعلن صراحة ودون مواربة رغبته في بناء نظام عالمي جديد للعالم، وهذا النظام

سيتم بناؤه بإرادة الولايات المتحدة الأمريكية لأنها (هي الدولة الوحيدة بين دول

العالم التي لديها المبدأ الأخلاقي والوسائل المتوفرة لتنفيذه) .

إن ترديد معزوفة النظام الجديد، لم تعد محصورة في إطار التصريحات

السياسية، بل تعدتها إلى الدوائر الثقافية والاجتماعية حتى أصبحت تردد على ألسنة

العامة، دون أن يدرك بالفعل مكنونها ونتائجها. هذا الواقع بالذات يستدعي البحث

لكشف جوهر هذا النظام العالمي الجديد والأسباب التي أدت إلى ظهوره ونتائجه

المتوقعة على العالم ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص. ولتبيان ذلك فإنه ستتم

دراسة هذا النظام.

١- النظام الحالي أو ما يعرف بالنظام الثنائي:

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية شهد العالم مرحلتين من التغيير، تميزت

المرحلة الأولى بانحسار نفوذ الإمبراطوريتين العظميين بريطانيا وفرنسا بشكل

ملحوظ وتدريجي إلى أن بلغت ذروتها عقب حرب السويس عام ١٩٥٦ والتي

توجته بانسحابهما من منطقة الشرق الأوسط.

وبدأت المرحلة الثانية مع ظهور الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية

دولتين عظيمتين في الساحة الدولية، وبظهورهما ابتدأ العالم يعيش مرحلة جديدة

تختلف كلياً عن سابقتها. ولعل من أبرز صفات هذه المرحلة أو الفترة ظهور النظام

القطبي الثنائي على مسرح السياسة الدولية.

وما يقصد بكلمة القطبي الثنائي هو سيطرة دولتين فقط على مقاليد القوة

والزعامة في العالم دون مشاركة غيرهما. فالاتحاد السوفييتي الذي ظهر كقوة

يحسب لها حسابها عقب الحرب العالمية الثانية اعتنق الفكر الماركسي كعقيدة يسير

ضمن نمطها ونواميسها ويلتزم بموجبها بتقديم كل الدعم لحركات التحرر العالمية

التي تناضل من أجل حريتها وسيطرة الطبقة العاملة على مقاليد السلطة. فما يميز

السياسة السوفييتية هو الالتزام التام بدعم نظرية الصراع الطبقي الهادفة إلى تقليص

نفوذ البورجوازية في العالم، والسيطرة على حركات التحرر والعالم.

في الجبهة المقابلة ظهرت الولايات المتحدة التي دخلت الساحة الدولية بعد

فترة من الانعزال والانكماش كقوة عظمى استطاعت أن تحطم الآلة العسكرية

الألمانية شر تحطيم.

فالولايات المتحدة الأمريكية اعتنقت النظام الرأسمالي القائم على الحرية

والمبادرة الفردية في امتلاك وسائل الإنتاج والتوزيع. وهكذا فإن كلا النظامين

مناقض للآخر بطبيعته ويسعى كل منهما لإلحاق الهزيمة بالآخر. هذا الواقع دفع

الرئيس الأمريكي ترومان إلى القول أن العالم منقسم إلى قسمين: أحدهما: ... (ديمقراطي مبني على حكم الأكثرية) والآخر: (دكتاتوري مبني على حكم الأقلية التي تفرض نفسها على الأكثرية) لذلك فإن واجب الولايات المتحدة الأمريكية هو أن تقدم (الدعم للأحرار من الشعوب الذين يتحدون الخضوع للقلة الحاكمة التي تفرض نفسها عليهم عبر الدعم الخارجي) . وهكذا يتضح أن الصراع بين هاتين الدولتين هو صراع عقائدي ومصلحي في آن معاً؛ لأن انتصار أي منهم هو تهديد لأمن ومصالح الآخر. لذلك كان من الطبيعي جداً أن تعمد الولايات المتحدة الأمريكية إلى تقليص النفوذ السوفيتي في أية بقعة من بقاع العالم من أجل تدعيم موقفها، والسيطرة على مقاليد الزعامة التامة.

غير أنه رغم ضراوة هذا التنافس وشدته فإن هناك ضوابط ومعايير ونظماً

تحكم نمط أو أطر سياسة كل منهما بالآخر. وجوهر هذه الضوابط والنظم يتمثل في

اعتماد الدولتين العظميين نظرية الدمار المتبادل كمرتكز أساسي في سياستهما.

ومفاد هذه النظرية أن نتيجة السلاح النووي المتكدس في ترسانتها - والذي هو من

القوة والتدمير بمكان إذ يسمح بتدمير الكرة الأرضية خمس مرات إن هو استعمل-

تحتم على الفريقين حسب هذه النظرية تجنب أية مواجهة عسكرية مباشرة، لأنها

ستؤدي فعلاً إلى كارثة بشربة تنهي العالم. وبالفعل فإن الدولتين العظميين استطاعتا

عبر عقود من الزمن أن يتجنبا المواجهة المباشرة عن طريق تذليل أية عقبات مهما

عظمت أو تفاقمت، ولا تزال أزمة الصواريخ الروسية في كوبا مثلاً حياً على ذلك، إذ انتهت بسحب الصواريخ الروسية مقابل سحب الصواريخ الأمريكية في جنوب

تركيا، وتعهدت الولايات المتحدة الأمريكية بعدم التدخل بشؤون كوبا البلد الحليف

للاتحاد السوفيتي. إلا أن هذه المواجهة لم تمنع كلا الدولتين من الاتفاق على مناطق

نفوذ خاصة بينهما. فأوروبا الشرقية هي حكر خاص للاتحاد السوفيتي يفعل بها ما

يشاء دون أي تدخل مباشر من الولايات المتحدة، وما اجتياح الاتحاد السوفيتي

لتشيكوسلوفكيا والمجر وغيرها إلا دليل ساطع على اعتراف الولايات المتحدة

بسلطته المطلقة على البقعة، وكذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي

سيطرت على أمريكا اللاتينية دون أي تدخل مباشر من الاتحاد السوفييتي. إلا أن

هذا الاعتراف لم يمنع الدولتين من التسابق والتزاحم على الزعامة في العالم الثالث

وخصوصاً منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الخاصة لكل من الدولتين. إلا أن

هذا الصراع يبقى مرتبطاً ارتباطاً جذرياً بنظرية الدمار المتبادل التي تمنع أي

تطور في المجابهة من شأنه أن يقود إلى حرب مباشرة، وذلك من أجل الحفاظ على

مصالحها المشتركة.

هذا النظام استطاع أن يؤمن نوعاً من التوازن في العلاقات الدولية تستطيع

الدول الأخرى بموجبه أن تلعب دوراً عن طريق الالتفاف حول دولة دون الأخرى

من أجل تأمين مصالحهم. وهذا الواقع استطاع أن يستمر فترة طويلة من الزمن منذ

قمة مالطا عام ١٩٤٥ بين الدولتين العظميين إلى أن تسلم الرئيس السوفييتي

غورباتشوف مقاليد السلطة والزعامة في الكرملين، حيث ادخل تغييرات جذرية

على نظرية الدمار المتبادل، مما أدى إلى زوال النظام القطبي الثنائي.

٢- التغييرات الجديدة في النظام القطبي الثنائي:

ما إن تسلم الرئيس السوفيتي غورباتشوف مقاليد السلطة حتى سارع إلى

عملية إعادة النظر في السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي، فالزعيم السوفيتي نتيجة

لأوضاع محلية واقتصادية متردية وغياب تام للحرية الفردية بدأ مرحلة من التطوير

البطيء في هيكلية السياسة الخارجية والداخلية لبلده، ذلك التحول بدأ بهدم السياسة

القديمة، والمبنية على دعم حركات التحرر من أجل نصرة الصراع الطبقي

والتصدي للإمبريالية، واستبدالها بنظرية الوفاق الدولي والتعاون الاقتصادي

خصوصاً مع الولايات المتحدة الأمريكية وإيجابية هذه النظرية الجديدة تتلخص في

تقليل الدعم المادي للحركات الثورية وإعادة استخدامه ضمن مشاريع اقتصادية داخل

الاتحاد السوفييتي من أجل دفع عجلة التنمية التي يحتاجها بصورة ماسة. إضافة

إلى ذلك فإن الاتحاد السوفيتي لم يعد يرى نفعاً في التسابق مع الولايات المتحدة

الأمريكية، لأن من شأن هذا التسابق أن يلحق الضرر بالطرفين وأن يهدد أمن

العالم في لحظة ما، لذلك رأى الاتحاد السوفيتي في الاعتماد على منظمة الأمم

المتحدة مدخلاً إيجابياً ومهماً في تطوير العلاقات الدولية وتوظيفها في خدمة السلام

العالمي، وهكذا فإن الاتحاد السوفييتي بسياسته الجديدة قد تخلى عن نظرية الدمار

المتبادلة لمصلحة إحلال التعاون والتبادل الاقتصادي بين الدولتين العظميين كبديل

واقعي ومنطقي. هذا التفكير قد لخصه المحلل للعلاقات الدولية (ولندر) في مقالة

عن الاتحاد السوفيتي حيث قال: (الدول العظمى لا يمكن أن تحمي أمنها ... عن طريقة المواجهة، لأن أية محاولة إلحاق الضرر بأي منها سيدفع الآخر إلى الرد، وهكذا فإن الحرب تصبح حقيقة. لذلك فإن حالة التصعيد المستمرة والبحث المتبادل عن إلحاق الهزيمة بالآخر سيؤديان إلى نقل الصراع من حرب غير مباشرة إلى حرب مباشرة بين طرفين لم يختاراها طائعين) .

وهكذا فالاتحاد السوفيتي، يكون قد تخلى عن سياسته القديمة تماماً، ولا

عجب إذن أن نجد كاتباً في صحيفة (إزفستيا) السوفياتية مقرباً من الرئيس

غورباتشوف يقول: (من الممكن جداً أن توجد حالة يضحي بها الاتحاد السوفييتي

بمبدأ الصراع الطبقي من أجل مصلحة أعم وأشمل) . وما يقصده بتلك المصلحة

هو زيادة التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية من أجل

الحصول على مساعدات اقتصادية لدعم الاقتصاد السوفيتي المنهار.

هذا التحول الهائل في سياسة الاتحاد السوفييتي لم يقابله أبداً حدوث أي تغيير

في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية على الإطلاق، فالولايات المتحدة

لم تتخل مطلقاً عن تفكيرها القديم الهادف إلى تقزيم النفوذ السوفييتي في العالم على

الصعيدين الأيديولوجي والعسكري. فعلى الصعيد الأيديولوجي توجته أمريكا بانهيار

النظرية الماركسية والتي اعترف بها قادة الاتحاد السوفيتي أنفسهم. أما على

الصعيد العسكري فقد اغتنمت الولايات المتحدة الفرصة ووظفتها لتقوية نفوذها

السياسي عبر السيطرة العسكرية، وتوظيف الطاقة العسكرية هو ناتج طبيعي

للسياسة الأمريكية التي أصابتها أيضاً بوادر الضعف والانحسار.

فأمريكا بعد عقود من الزمن قضتها في التصدي للشيوعية أصبحت دولة

منهكة اقتصادياً مما أجبرها على التراجع في ميادين المنافسة الاقتصادية التي هي

عنصر هام من عناصر القيادة العالمية. فالولايات المتحدة التي تصاعد نجمها بعد

الحرب العالمية الثانية تميزت بنمو اقتصادي سريع انعكس في زيادة فائض كبير في

رأس المال استطاعت أن توظفه في أوربا عبر مشروع مارشال الذي بلغ حوالي

١٣-١٥مليار وأن تمول به حلف شمال الأطلسي لمواجهة الاتحاد السوفييتي. إلا

أن النجم الأمريكي لم يتسن له أن يستمر في التطور الاقتصادي السريع نتيجة

ظهور قوى اقتصادية أخرى حدَّت من التقدم الاقتصادي الأمريكي. ففي الفترة

الممتدة بين عامي ١٩٤٥-١٩٥٨ استطاعت أوربا الغربية واليابان أن تظهر بقوة

على الساحة الاقتصادية، مما أثر بشكل بالغ على الناتج الإجمالي للاقتصاد

الأمريكي من إجمالي الناتج العالمي حيث تدهور من نسبة ٢٧% عام١٩٥٠ إلى ١٨

% عام ١٩٨٤

فالتردي الاقتصادي أجبر الرئيس الأمريكي نيكسون في فترة السبعينات

وبالتحديد عام ١٩٧١ وبقرار منفرد ودون الرجوع إلى صندوق النقد الدولي إلى

وقف قابلية تحويل الدولار إلى ذهب حسب اتفاق بريتون وودز لأن استمرار هذا

التعهد سيؤدي في النهاية إلى فقدان الولايات المتحدة الأمريكية رصيدها من الذهب

وبانتهاء عصر (بريتون وودز) فقدت الولايات المتحدة الأمريكية سلطتها في مجال

النقد الدولي إذ أن معظم التحويلات النقدية بدأت تتم خارج صندوق النقد الدولي

الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية.

وهكذا انقلبت المعادلة فأصبحت الولايات المتحدة مع مرور الوقت دولة مدينة

بدل أن تكون دائنة. فحسب الإحصاءات الرسمية والموثوقة فإن ديون الولايات

المتحدة قفزت من ١١٢ مليار عام ١٩٨٥ إلى ٢٦٣. ٦مليار دولار عام ١٩٨٦.

ومما زاد أزمة الولايات المتحدة الأمريكية سوءاً مبادرة الرئيس غورياتشوف

القائمة على نزع فتيل التفجير مما أدى إلى تقليل الدور العسكري الأمريكي لدى

الدول الغربية واليابان، إضافة إلى ذلك فإن عامل الانفجار الدولي أدى إلى تخفيض

الاتفاق العسكري الأمريكي مما هدد قطاع الصناعة العسكري الذي يلعب دوراً هاماً

في عجلة الاقتصاد. هذا العامل من الأهمية بمكان إذ أن تخفيض الإنفاق العسكري

سيؤدي إلى خلق نسبة عالية من البطالة في قطاع الصناعة الحربية مما ينعكس سلباً

على الوضع الاقتصادي والسياسي.

هذه المعطيات المتمثلة بتخلي الاتحاد السوفييتي عن سياسته القديمة

والصعوبات الاقتصادية التي تمر بها الولايات المتحدة الأمريكية دفعت الأخيرة إلى

التركيز على الدور العسكري من أجل تثبيت هيمنتها والتأكد من اندحار النظرية

الماركسية من أجل تكريس دورها في صناعة نظام جديد تستطيع من خلاله أن

تتخطى الصعوبات الاقتصادية، وتتابع دورها في العالم، وقد تسنى لها أن تحقق

ذلك الحلم عبر ما يعرف بأزمة الخليج.

(يتبع)