للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الشورى.. هل نلتزم بها؟

(٢)

محمد العبدة

لا يرتاب عاقل أن من أشد الأمراض فتكاً بالأمة مرض الاستبداد، واستمراء

الشعب للذل والخنوع أمام دول متجبرة متكبرة.

وقد جاء الإسلام مضاداً لكل هذه الأدواء ومزيلاً لها. كانت شعوب المناطق

التي فتحها الإسلام خاضعة لرؤساء السياسة والدين خضوعاً مذلاً، فأزاح الإسلام

هذا الداء بتكريم الإنسان والتشنيع على المتبوعين الذين يوردون شعوبهم موارد

الهلاك، ولكن عندما ضعفت قليلاً روح الإسلام الحقيقية رجع هذا الداء لأنه كان

مستحكماً من قبل، وعادت الكسروية والقيصرية.

وفي محاولتنا الآن للنهوض واستئناف حياة إسلامية لا بد من معالجة هذا الداء

الذي أصاب كل شيء «إذ لا يعقل أن ترقى أمة وحقوقها مهضومة وأفرادها

مظلومة» [١] .

والدواء هو الشورى بكل معانيها بدءاً من الاستشارة والاستفادة من كل رأي

حكيم، وحتى الشورى بمعناها السياسي الإداري.

ومتابعة لما سبق نكمل سرد ما قيل في آيتي الشورى، ونذكر تطبيقات

الشورى في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعهد الخلفاء الراشدين.

جاء في تفسير الكشاف للزمخشري:

«إذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى فتوكل على الله في إمضاء أمرك

على الأرشد الأصلح» [٢]

ابن عطية:

«والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ومن لا يستشير أهل العلم

والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه» [٣]

[وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] : «أي لا ينفردون برأي ما لم يجتمعوا عليه» [٤]

والشورى صفة من الصفات المميزة للمسلمين ذكرها الله عقب الصلاة وقبل

الزكاة في قوله تعالى: [والَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وأَقَامُوا الصَّلاةَ وأَمْرُهُمْ شُورَى

بَيْنَهُمْ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] وهذا يدل على بالغ أهميتها [٥] . وقد جاء في السنة

عن عبد الرحمن بن غَنمْ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لو اجتمعتما

على مشورة ما خالفتكما» [٦] يعني بذلك أبا بكر وعمر. وروي عن أبي هريرة

قوله: «ما رأيت أحداً أكثر مشاورة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

لأصحابه» .

التطبيق العملي لمبدأ الشورى في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-:

١-في غزوة بدر:

استشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصحابة في قتال قريش وذلك قبل

بدء المعركة وهو في طريقه إلى بدر، فتكلم كبار الصحابة كأبي بكر وعمر والمقداد

ابن الاسود وسعد بن معاذ وسُرّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- من كلامهم وقال لهم: «سيروا وأبشروا» [٧] .

٢- غزوة أحد:

استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أيخرج إلى قريش أم يمكث في

المدينة ويقاتلهم في الطرقات، وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة، ولكن كثيراً من

الصحابة وخاصة الشباب منهم ألحوا عليه في الخروج، فعزم على الخروج والتقوا

عند سفح أحد [٨] وبعد هذه الغزوة نزلت آية [وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] تأكيداً لمبدأ

الشورى.

٣- غزوة الخندق:

لما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمسيرة الأحزاب إليه وتألبهم على

المسلمين، استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر

الخندق [٩] وعندما بلغ الضيق بالمسلمين ما بلغ أراد رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- التخفيف عنهم، فعرض على رؤساء غطفان - وهم من الأحزاب - أن

يعطيهم ثلث ثمار المدينة على أن ينصرفوا ويتركوا القتال، واستشار رسول الله -

صلى الله عليه وسلم- سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا: يا رسول الله إن كان الله

أمرك بهذا فسمعاً وطاعة، وإن كان شيئاً تصنعه لنا فلا حاجة لنا به، والله لا

نعطيهم إلا السيف، فصوّب رأيهما [١٠] .

غزوة بني المصطلق:

في هذه الغزوة وقع حديث الإفك الذي تولى كبره زعيم المنافقين عبد الله بن

أبي ابن سلول، وأبطأ الوحي في براءة عائشة رضي الله عنها، فشاور الرسول -

صلى الله عليه وسلم- علياً بن أبي طالب وأسامة بن زيد، فيما رمى أهل الإفك

عائشة، فأما أسامة فأشار بالذي يعلم من براءة أهله، وأما علي فقال: لم يضيق

الله عليك والنساء سواها كثير، واسأل الجارية تصدقك [١١] .

صلح الحديبية:

عندما علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن قريشاً جمعت له الجموع

وأنهم سيصدونه عن البيت وقد جاء معتمراً قال: أشيروا عليّ أيها الناس، أترون

أن أميل إلى عيال وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟ فقال أبو

بكر: يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا ضرب أحد فتوجه

له، فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: فامضوا على اسم الله [١٢] .

وعندما تم الصلح على أن يرجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه

هذه السنة، أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصحابة بالنحر والحلق والتحلل

من العمرة، فلم يقبل أحد ما أمر به فدخل على أم سلمة وكلمها في ذلك، فأشارت

عليه أن يخرج ولا يكلم أحداً، ويحلق ويذبح، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل

بعضهم يحلق بعضاً [١٣] .

فإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو المسدد بالوحي المبلغ عن

الله شرائعه ودينه، وهو من هو في كمال صفاته البشرية، ومع ذلك يكثر من

المشاورة في الأمور العامة - فيما لا وحي فيه - وفي الأمور الخاصة، فالعجب

ممن يجعل الشورى من المندوبات إن شاء أقامها الحاكم وإن شاء تركها، وهذا في

الاستشارة فقط، فكيف يتكلم عن الإلزام بها، وكيف يستقيم حال أمة تحب الاستبداد! !

تطبيقات الشورى في عهد الراشدين:

لم ينص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على من يخلفه في حكم المسلمين

وإن كانت هناك إشارات واضحة على أن أبا بكر -رضي الله عنه- هو المؤهل

لذلك، وبعد المداولات التي وقعت في سقيفة بني ساعدة تم اختيار أبي بكر، ثم

بويع البيعة العامة في اليوم التالي فاختيار أبي بكر كان عن مشورة من الصحابة

وهم أهل الحل والعقل في عالم الدولة الإسلامية.

وأراد عمر -رضي الله عنه- أن يرسخ مبدأ الشورى ويقطع ألسنة الذين

يظنون أن بيعة أبي بكر كانت برجل أو رجلين ويمكن أن يفعلوا مثل هذا ففي

الحديث الطويل في البخاري من رواية ابن عباس أن عمر قال: «.. ثم إنه بلغني

أن قائلاً منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أن يقول

إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرها، وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرَّة أن يقتلا..» [١٤]

ويقصد الخليفة الراشد عمر -رضي الله عنه- أن بيعة أبي بكر لم يحضر لها

ويمهد لها، وأنها تمت في ظروف صعبة كان لا بد أن يختار الخليفة حتى لا يقع

الشقاق خاصة وأن الأنصار اجتمعوا ليبايعوا خليفة منهم، فتمت مبايعة أبي بكر -

رضي الله عنه- ووقى الله أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- شر الخلاف، ولكن

أبا بكر بويع بيعة عامة في اليوم التالي.


(١) محمد بن الحسن الحجوي / الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي ١/١٤.
(٢) الكشاف ١/٢٢٦.
(٣) تفسير ابن عطية ٣/٢٨٠.
(٤) التفسير الكبير للرازي ١٤/١٧٨.
(٥) انظر الإسلام وأوضاعنا السياسية / عبد القادر عودة النظريات السياسية الإسلامية / محمد ضياء الدين الريس.
(٦) رواه أحمد ورجاله ثقات واختلف في صحبة عبد الرحمن بن غنم الأشعري، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين.
(٧) مرويات غزوة بدر لأحمد محمد باوزير /١٤٤.
(٨) انظر زاد المعاد ٣/١٩٢.
(٩) المصدر السابق ٣/٢٧١.
(١٠) المصدر السابق ٣/٢٧٣.
(١١) إبراهيم بن إبراهيم قريبي / مرويات غزوة بني المصطلق / ٢٣٤- ٢٦١.
(١٢) د حافظ حكمي / مرويات غزوة الحديبية /١٦٥.
(١٣) المصدر السابق / ٢٢٦.
(١٤) وقوله (تغرة) أن يقتلا: أي من فعل ذلك فقد غرر بنفسه وبصاحبه وعرضهما للقتل وذلك لمخالفة جماعة المسلمين وجمهورهم وانفرادهما واستعجالهما بالأمر دون مشورة عامة المسلمين.