للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الصومال بعد رحيل سياد بري

محمد عبده آدم

لقد استبشر الصوماليون والعالم معهم بسقوط الطاغية «سياد بري» والذي

حكم بالنار والحديد طيلة عقدين من الزمن والذي أخر الصومال إلى الوراء أكثر من

عشرين قرناً، وهذا التأخير والتخلف ليس خاصاً في مجال معين دون مجال آخر،

بل عم جميع مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والصحية، وغيرها من

المجالات، حيث إنه لم يخلف للصومال شيئاً من مقومات الأمة، فهو لم يترك جيشاً نظامياً يحمي البلاد من الأخطار الخارجية ولا بوليساً يقوم بمهمة حفاظ الأمن الداخلي ولا ترك أي مرفق آخر من مرافق الحياة الضرورية..

وبالتالي يمكن القول أن الصومال أصبح أمة بلا كيان مهددة بالانقراض

والزوال واختفاء دورها الإسلامي في المنطقة حيث تخلو الساحة للدول الأخرى

ذات الطابع المسيحي والتي تقف اليوم متفرجة وشامتة بما يجري في الصومال

وذلك لأن الصومال يعتبر المنافس الوحيد للدول المسيحية المجاورة في المنطقة

ثقافة وعقيدة فالصومال دولة إسلامية عربية.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ماذا بعد سقوط سياد برِّي؟

لقد كان هناك عدة جبهات تحارب ضد سياد بري وكل واحدة منها تهدف إلى

إسقاطه وتخليص البلاد منه، وكان الشرط الأساسي المشترك لهذه الجبهات لوقف

إطلاق النار والحروب الأهلية الدائرة في البلاد، وكان شرطهم الوحيد ذهاب سياد

برِّي أو إسقاطه حيث أن وجوده في رأس السلطة يعتبر عقبة كؤوداً أمام أي تصالح

وطني أو قومي.

ولكن لماذا لم تتوقف النار والحروب الأهلية وأن الأمن والأمان لم يرجعا بعد، وأن اجتماع المعارضة الصومالية في مؤتمر وطني لم يحدث بعد، بل وصل

الأمر أن حصل الاشتباك وتبادل النيران بين فصيلتين من أكبر فصائل المعارضة.

والمعروف أن المعارضة الصومالية كانت تنادي وتجاهر علنا بأنها سوف

تجتمع وتعقد مؤتمراً وطنياً مشتركاً فور سقوط سياد بري لتشكيل حكومة مشتركة

ولكن لم يحدث شيء من هذا القبيل بعد رحيل سياد بري حيث تبرأت كل جبهة من

الأخرى، وزعمت كل منها أنها هي المسؤولة عن الأقاليم التي تسيطر عليها مما

يؤدي إلى قيام دويلات في الأقاليم المختلفة من البلاد على أساس قبلي.. ولكن ما

السر في عدم اتفاق الجبهات وعدم تطبيق البيانات التي كانوا يصدرونها معاً؟ ؟

المعروف أن معظم هذه الجبهات بدأت معارضتها مع سياد بري بعد الثمانينات

وأنها تشترك في النقاط التالية:

أولاً: أنها جميعاً حركات عرقية قبلية حيث أن كل جبهة تنتمي إلى عشيرة

معينة من عشائر الصومال، والمعروف أن القبلية في الصومال واقع سلبي وأنها

الداء العضال الذي ابتلي به الصوماليون الذي يفرق ويشتت بعد أن اشتركت جميع

عوامل الاتحاد الأخرى من عقيدة إسلامية ولغة وأرض ومصالح مشتركة أخرى..

ومن ناحية أخرى فليس هناك حد تنتهي إليه القبلية حتى تصل إلى أبناء الأب

الواحد المختلفين في الأم لتفرقهم.. وهكذا يتضح لنا أن القبلية لا يمكن أن تكون

كياناً سياسياً أو قومياً بل إذا كان للقبيلة المركز الأول فلن تقوم للصومال قائمة

وستستمر - لا سمح الله - هذه الحروب الأهلية القائمة حالياً في حال رفع لواء

القبلية المنتنة..

ثانياً:أنها جميعاً حركات علمانية لا ترى للدين دوراً أساسياً وريادياً والمجتمع

الصومالي المسلم لا يرضى منهجاً غير منهج الإسلام، فالمعروف أن رجال حركات

المعارضة هم رجال سياد بري الذين كانوا يرددون بالأمس اسم سياد بري ويشيدون

بذكره وهم بطبيعة الحال ساهموا بشكل أو بآخر في تخريب البلاد مع سياد بري فهم

وزراء سياد بري وضباطه بالأمس، فارتداؤهم ثوباً نظيفاً أبيض خالياً من السقطات

والعثرات شيء لا يصدقه ولا يقبله الشعب الصومالي المسلم، والمعروف أنِّ أي

جبهة أو حركة علمانية ترفع شعار الإسلام في بداية طريقها وقبل وصول هدفها،

ولكن عندما تصل هدفها وأغراضها الدنيوية تتنكر لذلك، وتجعل محاربة الإسلام

هدفها، وهذا فعلاً ما هو حادث في الصومال فمن المعروف أن كل حركة كانت

تستعطف الشعب بأنها سوف تطبق الشريعة الإسلامية عندما تستولي على السلطة

من سياد بري، ولكن هاهم بعد سياد بري ولما يصلوا إلى هدفهم كاملاً بعد؛ وقد

اختفت كلمة تطبيق الشريعة الإسلامية، بل قد صرح بعضهم بإبعاد الدين عن الحياة، حيث قال إسماعيل محمود هره رئيس اللجنة السياسية للحركة الوطنية الصومالية

في مقابلة أجرتها معه جريدة الشرق الأوسط بعددها رقم ٤٤٥٦ الصادر صباح

السبت ٩/٢/١٩٩١م قال: «إننا لا نرغب في أن نسيء الدين بإدخاله إلى سوق

السياسة كما يفعل غيرنا..» ، ومدلول هذه الكلمة معروف لدى الجميع وهو فصل

الدين عن الدولة، وإبعاده عن واقع الحياة وهو كذلك تبنى مبدأ العلمانيين الموروث

من الكنيسة «ما لقيصر لقيصر وما لله لله» فعليك أن تتدبر قوله تعالى [أَمْ لَهُمْ

شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ] وقوله تعالى [قُلْ إنَّ صَلاتِي

ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] فالإسلام منهج للحياة كلها بما فيها

السياسة.

وقال في معرض تبريره أن توجههم إسلامي قال: «إن دستورنا ينص على

أن الإسلام هو دين الدولة» ولكن ألا يعلم «هره» أن أول فقرة في دستور سياد

بري كان هذا البند الذي ينص على أن الإسلام هو دين الدولة وهو كذلك كلمة

تستفتح للتبرك في جميع دساتير الدول العلمانية المتمسلمة ولكن لا يعدو أن يكون

حبراً على ورق حيث أن الواقع يثبت خلافه.

ثالثاً: إنَّ معظم هذه الحركات نشأت وترعرعت تحت رحمة إثيوبيا

وحضانتها العدو اللدود التاريخي للأمة الصومالية والإسلامية والتي لها مطامعها

التوسعية في الأراضي الصومالية الإسلامية، والصراع بين المسيحية والإسلام قديم

في القرن الإفريقي قدم الإسلام في تلك الديار.

لذا فإيواء إثيوبيا لحركات المعارضة وتسليحها ضد الحكومة الصومالية أو

حتى التسليح فيما بينهم يستهدف أولاً وقبل كل شيء إضعاف مركز الصومال

وإحداث الفوضى والبلبلة في داخله حتى لا تقوم للصومال قائمة بعد هذا الانهيار،

ثم يستهدف هذا الإيواء لحركات المعارضة تسليم السلطة في الصومال إلى رجال

موالين وعملاء في نفس الوقت لإثيوبيا كي لا تطالب الصومال مرة أخرى

بالأراضي الصومالية الي تحتلها إثيوبيا (أوغادين) والتي تعتبر مصدر التوتر بين

الدولتين، وتحقيق هذا الهدف سرعان ما ظهر في تصريحات رجال المعارضة

حيث يرددون في هذه الأيام بأنَّ العهد الجديد سوف يتسم بقيام علاقات ودية

وسياسية خارجية منسقة مع إثيوبيا.

ومما يوضح هذا ما قاله إسماعيل هره رئيس اللجنة السياسية في الحركة

الوطنية الصومالية في المقابلة التي أجرتها معه جريدة الشرق الأوسط في عددها

الذي ذكرناه آنفاً، قال: «نحن لا نحب تسمية أوغادين بل نفضل بدلاً عنها اسم

الأراضي الإثيوبية التي يسكنها الصوماليون، وأوغادين اسم إحدى قبائل تلك

المنطقة وسياد بري هو الذي اخترع هذا الاسم» .

أظن أنَّ هذا الكلام لا يستحق الاهتمام أو التعقيب عليه إذ لا يعدو أن يكون

مجرد ادعاء وإنكار الحقائق الواضحة كوضوح الشمس وتجنٍ على التاريخ وعلى

القضايا الإسلامية، وحتى يكون القارئ على علم من أمر تلك المنطقة نعطي نبذة

قصيرة عن تاريخها في السطور التالية.

تعتبر قضية أوغادين في القرن الإفريقي بمثابة قضية فلسطين في الشرق

الأوسط وأوجه التشابه بينهما متعددة ولكن أهمها أن كل منهما اقتطاع أرض عربية

إسلامية لمصلحة دولة مسيحية أو يهودية، وتعاون إثيوبيا مع إسرائيل والصهيونية

العالمية شيء ضارب في الجذور، وخير دليل على هذا ما نشهده في هذه الأيام من

العلاقات الثنائية الطيبة بينهما، وليس تهجير يهود الفلاشا إلى أرض فلسطين

وإرسال الخبراء العسكريين إلى إثيوبيا إلا جزءاً من تآمر القوتين على الإسلام

والمسلمين في كل مكان.

وقد كان مع بداية مأساة هذه المنطقة عندما قسم الاستعمار الغربي الصومال

الكبير إلى خمسة أجزاء وكان من نصيب الحبشة «إقليم أوجادين» وقد ضمت هذا

الإقليم انجلترا إلى إثيوبيا عام ١٩٤٨م، وبعد استقلال بعض الأجزاء الصومالية

وتكوينها دولة مستقلة ظلت هذه المنطقة والمناطق الأخرى المحتلة موضع اهتمام

الحكومة الجديدة حيث لا يمكن أن تحظى أي حكومة بتأييد الشعب ما لم تهتم

وتطالب بالأجزاء المحتلة من الأراضي، وفعلاً لم يقصر الصومال بمطالبة

الأراضي المحتلة ولم يتنازل عن شبر، وكان الصومال البلد الوحيد الذي رفض

مبدأ القبول بالحدود الموروثة عن الاستعمار في المؤتمر التأسيسي لمنظمة الوحدة

الإفريقية الذي عقد في العاصمة الإثيوبية عام ١٩٦٣م وكانت الحروب تقوم من

وقت لآخر لتحرير المنطقة من الاحتلال، وكان من أشهر هذه الحروب حرب

١٩٧٧م المشهورة بحرب أوغادين والتي ألحقت بجميع الأطراف المشتركة خسائر

مادية وبشرية هائلة. وتعتبر هذه المنطقة مقر الحركات التحريرية الصومالية وكان

من أشهر هؤلاء المجاهدين الإمام أحمد جوري، الذي ولد في مقاطعة هرر عام

٩٠٨ هـ والذي حارب ضد الأحباش النصارى في القرون الوسطى حتى كاد

يستولي عليها وقد قال عنه المؤرخ الفرنسي «رينه باسه» (إن أشهر دور من

أدوار التاريخ الأثيوبي التي بقيت أخبارها محفوظة لدى الغربيين هو «أحمد

جوري الصومالي» الذي كاد يسحق النصرانية الحبشية ويعيدها كبلاد النوبة إلى

الإسلام) ومن هؤلاء المجاهدين الذين انجبتهم تلك المنطقة المجاهد الكبير «السيد

محمد عبد الله حسن» والذي حارب ضد الكفار المستعمرين أكثر من عقدين من

الزمن وألحق بهم خسائر وهزائم عديدة، وهكذا يتضح لنا أنَّ هذه المنطقة جزء لا

يتجزأ من تاريخ الصومال وكيانها ولا يمكن إنكاره أو منحه لمكافأة عدو الإسلام

والصومال مقابل إيوائها لبعض حركات المعارضة لأغراض معروفة لدى الجميع.

ولا عجب أن تكون هذه القضية قضية أساسية وبديهية لرجل الشارع

الصومالي، ولكن العجب العجاب أن تكون هذه القضية غامضة لدى رجل يدعي

أنه سياسي ومناضل وطني ومسؤول من مسؤولي الحركات المعارضة.

إنّه حقاً موقف مخز ووصمة عار في جبين الحركة الوطنية الصومالية ما لم

تتبرأ من هذا التجني على التاريخ وعلى الأمة الصومالية. أمّا تسمية المنطقة باسم

«أوغادين» فصحيح أنه اسم لإحدى قبائل تلك المنطقة ولكن يعتبر اسم الشهرة

التي اشتهرت في أوساط الباحثين والسياسيين في العالم، وهذا ليس شيئاً ذا أهمية

فالمعروف أن الأسماء والأعلام لا تعلل وأنّه لا مشاحة في الاصطلاحات، وإنما

المهم هو جوهر القضية الذي هو احتلال الأراضي الإسلامية الصومالية من قبل

نصارى الحبشة التي أنكرتها أنت يا سعادة (هره) واعتبرتها أرضاً إثيوبية.

أمّا قولك: إن سياد بري هو الذي اخترع هذه التسمية فهو أيضاً مغالطة

أخرى لحقائق معاصرة، فالمعروف أن سياد بري أسمى هذه المنطقة باسم الصومال

الغربي بدلاً من أوغادين، وهذا معروف لدى الجميع حتى أن الجبهة التي أسسها

سميت «بجبهة تحرير الصومال الغربي» .

وهكذا يتضح أن القاسم المشترك بين حركات المعارضة الصومالية المسلحة

أنها حركات قبلية وعلمانية وموالية لإثيوبيا، وعليه فإنها بصورتها الحالية غير

مؤهلة للتحول إلى حزب سياسي بل هي نوع من التكريس للتقسيم القبلي الذي يهدد

البلاد بالحروب الأهلية التي تلتهم الأخضر واليابس، وبالتالي فإنها لا تستطيع أن

تنقذ الصومال مما هو عليه من الويلات والتفكك ولا تقدر أن تقود السفينة إلى

شاطئ الأمان.

ولكن ما المخرج والمنقذ ممّا تعاني منه الصومال من المآزق والويلات؟

أعتقد أن إجابة هذا السؤال لا تحتاج منا إلى تفكير أو البحث عنه، حيث إنِّ

الحل الوحيد الذي يستطيع أن يحل المشاكل المستعصية في الصومال هو الإسلام،

الإسلام الذي ظلمناه واعتقدنا أنه كلمة تقال في اللسان فقط، والمعروف أنّ الشعب

الصومالي شعب مسلم بنسبة ١٠٠% وأنه تأكد تماماً فشل جميع المذاهب والمناهج

غير الإسلامية، فقد بدأ الشعب الصومالي المسلم بالنظام الرأسمالي وانتهى إلى

النظام الاشتراكي وقد وصل إلى ما وصل من التدهور والانحلال حتى الانقراض أو

الذوبان تماماً، وأعتقد أن تجربة ثلاثين عاماً وزيادة تؤكد لنا فشل تلك المذاهب

والمناهج المنحرفة، ولم يبقى للصوماليين إلاّ أن يأخذوا مأخذ الجد «المنهج

الإسلامي» وأن يطبقوه في شؤون حياتهم جميعاً لإنقاذ مما هم فيه ليسعدوا في الدنيا

والآخرة وليسوا مخيرين في هذا الاختيار فالله عز وجل يقول: [ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ

الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] .

وأوجه النداء الأخير إلى الشعب الصومالي المسلم أن يتحد ويتعاون لحل

مشاكله، وأن ينسى مخلفات العصر الجاهلي، وأن يستعيد التآخي والتآلف الذي

كان رائداً قبل أن يفرقهم الطاغية الراحل الذي مارس ضدهم سياسة «فرق تسد» وعلى الشعب الصومالي أن ينضم تحت لواء الحركة الإسلامية المباركة في

الصومال والتي تعتبر نظيفة من الأمراض والعيوب الموجودة لدى الحركات

الأخرى التي ذكرنا، كما أنهم يعتبرون أول من عارض الرئيس المخلوع حيث أنهم

وقفوا ضده في أيام شوكته وقوته وقدم كثير منهم روحه لصالح الإسلام والمسلمين

في الصومال.