للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تعريف الملأ في الفكر الإسلامي

(من صفات الملأ)

عثمان جمعة ضميرية

لو عدنا إلى القرآن الكريم، وتتبعنا الآيات الكريمة، التي يتحدث الله تعالى

فيها عن أولئك الملأ ومواقفهم من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، لوضعنا أيدينا

على مفتاح شخصية أولئك الملأ وتعرفنا على صفاتهم، وسنشير فيما يلي إلى

أهم هذه الصفات، ولعلّ الحديث - فيما يأتي - عن وسائل الملأ في محاربتهم لدعوة الرسل والصَّد عنها، يعطينا ملامح أخرى لشخصية الملأ وصفاتهم أيضاً.

أولاً - الملأ يستكبرون في الأرض بغير الحق:

وتلك شنشنة قديمة نعرفها من الملأ، الذين نصبوا أنفسهم دعاة للضلال

والصد عن الدعوة ولمعاداة الأنبياء والكفر بهم، فقد أخذتهم، العزة بالإثم عندما

بعث الله تعالى لهم رسلاً من البشر، يدعونهم إلى الله تعالى وتوحيده وعبادته،

فاستنكفوا عن ذلك، وقعدوا بكل صراط يوعدون ويكذبون، ويصدون عن سبيل الله

من آمن ويبغونها عوجاً، فاستحقوا - بذلك - الخلود فى النار:

[إنَّ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا واسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ولا

يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ وكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ] ... [الأعراف: ٤٠] .

وقد وصف الله تعالى أولئك الملأ بالاستكبار، حتى أصبح ذلك وصفاً لازماً

لهم، وها هي الآيات القرآنية الكريمة تحدِّثنا عن موقف أولئك الملأ من أنبيائهم،

عليهم الصلاة والسلام، واستكبارهم عن اتباع الهدى:

أ - فالأشراف والسادة المستكبرون من قوم نوحٍ - عليه السلام -، يكذِّبون

نوحاً؟ لأن أتباعه من البشر، بل هم من فقراء البشر وأراذل القوم - بزعمهم -

من أصحاب المهن البسيطة، كالباعة والحاكة، وغيرهم، ولذلك فالسادة

المستكبرون يأنفون أن يكونوا معهم فى دعوة واحدة، وفي صف واحد يجمعهم:

[ولَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلَى قَوْمِهِ إنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (٢٥) أَن لاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ اللَّهَ

إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقَالَ المَلأُ الَذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إلاَّ

بَشَراً مِّثْلَنَا ومَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلاَّ الَذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ومَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن

فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ] [هود: ٢٦ - ٢٧] ، [قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ واتَّبَعَكَ]

[الشعراء: ١١١] .

وكأنهم طلبوا من نوح - عليه السلام - أن يطرد المؤمنين عنه؛ احتشاماً

ونفاسة منهم وأنفة أن يجلسوا معهم -تماماً كما طلب سفهاء قريش من النبي - صلى

الله عليه وسلم - أن يطرد عنه جماعة من الضعفاء، ويجلس معهم مجلساً خاصاً -

ولكن نوحاً - عليه السلام - أجابهم بما حكاه الله تعالى عنه، فقال:

[ومَا أَنَا بِطَارِدِ الَذِينَ آمَنُوا إنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ ولَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ...

(٢٩) ويَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إن طَرَدتُّهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ] [هود: ٢٩-٣٠] .

[ومَا أَنَا بِطَارِدِ المُؤْمِنِينَ (١١٤) إنْ أَنَا إلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ] [الشعراء: ١١٤- ١١٥] .

ب -وبعث الله تعالى هوداً - عليه السلام - إلى عاد، وكانوا ذوي شدة وبأس

وقوة، وكأنهم قد وصلوا إلى قمة الإبداع المادي والحضارة الصناعية والرفاه -

وقتذاك - إلى حد الترف والإسراف، فاتخذوا من البناء على جوادِّ الطرق المشهورة

ما يبهر العقول، ومن البروج المشيدة والبنيان المخلد ومآخذ الماء ما يثير الإعجاب، وكل ذلك لا لحاجةٍ لهم، بل هو يفيض عن حاجتهم، فيتخذونه عبثاً وتكاثراً ولهواً

ومفاخرة:

[أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ] ...

[الشعراء: ١٢٧-١٢٨] .

فكان ذلك الثراء العريض والتقدم الصناعي، الذي أُتخموا فيه، سبباً من

أسباب استكبارهم وغرورهم واستعلائهم.. فوقفوا ضد هود - عليه السلام -،

وانطلق الملأ الكافر منهم -إذ كان فيهم من قد آمن بهود - عليه السلام - يكذِّب

ويصد عن الدعوة، وينشر الأراجيف والشائعات الكاذبة، بحجة أن هوداً - عليه

السلام - من البشر، وكيف يؤمنون لبشر مثلهم؟ :

[وإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ

(٦٥) قَالَ المَلأُ الَذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وإنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ] ، [الأعراف: ٦٥-٦٦] .

[وقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ الَذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحَيَاةِ

الدُّنْيَا مَا هَذَا إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ ويَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) ولَئِنْ

أَطَعْتُم بَشَراً مِّثْلَكُمْ إنَّكُمْ إذاً لَّخَاسِرُونَ] ، [المؤمنون: ٣٢-٣٤] .

[فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً] ، ... ... [فًصِّلت: ١٥] .

ج - وهاهم أولاء الملأ من قوم صالح - عليه السلام - يدفعهم الكبر إلى

الاستعلاء والتكذيب والكفر: [قَالَ المَلأُ الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا

لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ

(٧٥) قَالَ الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ] ، [الأعراف: ٧٦] .

فهم كفروا بما آمن به هؤلاء المؤمنون المستضعفون، استكباراً أن يكونوا

مثلهم مؤمنين، وكأنها نكاية بهم أو مشاكسة ومعاكسة لأولئك المؤمنين المستضعفين! وكيف يرضون لأنفسهم أن يطيعوا رجلاً من البشر؛ ويصيروا مرءوسين له؟

وهم أصحاب الزعامة والسيادة والمال والثراء:

[كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقَالُوا أَبَشَرًاً مِّنَّا واحِدًاً نَّتَّبِعُهُ إنَّا إذًاً لَّفِي ضَلالٍ

وسُعُرٍ (٢٤) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ] ، [القمر: ٢٣ - ٢٥]

وكما كانت عاد في قمة التقدم الصناعي والرفاه والوفرة حتى أهلكهم الله تعالى

بسبب تكذيبهم، كذلك كانت ثمود، فقد جاءت بعدها تخلُفُها في هذا المتاع الذي أنعم

الله تعالى به عليهم وكان سبباً لاستكبارهم وكفرهم:

[واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن

سُهُولِهَا قُصُوراً وتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ

مُفْسِدِينَ] [الأعراف: ٦٧] .

[كَذَّبَتْ ثَمُودُ المُرْسَلِينَ (١٤١) إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢)

إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ (١٤٤) ومَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ

إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (١٤٦) فِي

جَنَّاتٍ وعُيُونٍ (١٤٧) وزُرُوعٍ ونَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (١٤٨) وتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ

بُيُوتاً فَارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ (١٥٠) ولا تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ (١٥١)

الَذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ولا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قَالُوا إنَّمَا أَنتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ

(١٥٣) مَا أَنتَ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ] ، [الشعراء:

١٤١-١٥٤] .

د -وكذلك وصف الله تعالى الملأ من قوم شعيب - عليه السلام - بالكبر،

فقال:

[قَالَ المَلأُ الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ

مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً

إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ومَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ

رَبُّنَا وسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ

وأَنتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ (٨٩) وقَالَ المَلأُ الَذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إنَّكُمْ إذاً

لَّخَاسِرُونَ] [الاعراف: ٨٨-٩٠] .

هـ - وهي الصفة بعينها، يصف الله تعالى بها الملأ من قوم فرعون:

[ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى وهَارُونَ إلَى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا

وكَانُوا قَوْماً مُّجْرِمِينَ] ، [يونس: ٧٥] .

[ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (٤٥) إلَى فِرْعَوْنَ

ومَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وكَانُوا قَوْماً عَالِينَ (٤٦) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وقَوْمُهُمَا لَنَا

عَابِدُونَ] ، [المؤمنون: ٤٦-٤٧] .

[فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ والْجَرَادَ والْقُمَّلَ والضَّفَادِعَ والدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاتٍ ...

فَاسْتَكْبَرُوا وكَانُوا قَوْماً مُّجْرِمِينَ] [الأعراف: ١٣٣] .

[ولَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ ومَا كَانُوا سَابِقِينَ] ، ...

[العنكبوت: ٣٩] .

و والملأ من العرب، زعماء قريش وصناديدها، كانوا يستكبرون عن

آيات الله، وقد وصفهم الله تعالى بذلك فقال:

[اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ وكُنتُمْ عَنْ

آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ] ، [الأنعام: ٩٣] .

وفي المدينة كان المنافقون يأنفون أن يؤمنوا برسالة محمد - صلى الله عليه

وسلم -؛ لأن المؤمنين حوله هم من السفهاء بزعمهم:

[وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إنَّهُمْ هُمُ

السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ] ، [البقرة: ١٣] .

وقد كانوا إذا قيل لهم: تعالوا يستغفر لكم رسول الله صدوا وأعرضوا عما

قيل لهم استكباراً عن ذلك واحتقاراً لما قيل لهم، وكان يمثل ذلك الطاغية رأس

المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول [١] ، قال الله تعالى عنهم:

[وإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ ورَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ

وهُم مُّسْتَكْبِرُونَ] ، [المنافقين: ٥] .

* ونجد في السيرة النبوية نماذج لاستكبار الملأ من قريش، فيما كانوا

يطلبونه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم مجلساً خاصاً،

يجلس فيه معهم وحدهم، ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه، كبلال وعمار، وصهيب

وخباب، وابن مسعود، رضي الله عنهم، وليُفْرِد أولئك بمجلس على حده، فهم

يأنفون أن يجلسوا مع هؤلاء الضعفاء، ويتكبرون عليهم، فحذَّر الله تعالى نبيه -

صلى الله عليه وسلم - أن يميل إلى ذلك ونهاه عنه وأمره أن يصبر نفسه في

الجلوس مع هؤلاء المؤمنين الأتقياء [٢] .

[واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ

عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ

وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً] ، [الكهف: ٢٨] .

وعن سعيد بن أبى وقاص - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي - صلى

الله عليه وسلم - ستة نفر، فقال المشركون للنبي: اطرد هؤلاء، لايجترئون علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسميهما. فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع، فحدّث

نفسه. فأنزل الله عز وجل: [ولا تَطْرُدِ الَذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ

وجْهَهُ] [الأنعام: ٥٢] [٣] .

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: مرَّ الملأ من قريش على رسول

الله - صلى الله عليه وسلم- وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار. فقالوا: يا محمد

أرضيت بهؤلاء؟ فنزل فيهم القرآن: [وأَنذِرْ بِهِ الَذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إلَى

رَبِّهِمْ] إلى قوله: [أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ] [الأنعام: ٥١ -٥٣] [٤] .

وأخرج الإمام ابن جرير الطبري عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:

مرَّ الملأ من قريش بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده صهيب وعمار وبلال

وخباب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك؛ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم من بيننا؛ أنحن نكون تبعاً لهؤلاء؛ اطردهم عنك!

فلعلك - إن طردتهم - أن نتبعك! فنزلت هذه الآية: [ولا تَطْرُدِ الَذِينَ يَدْعُونَ

رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ] إلى قوله تعالى: [وكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ] إلى آخر الآية [٥] .

وأخرج أيضاً عن خباب - رضى الله عنه- في قوله تعالى:! ولا تطرد

الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) إلى قوله: معم فتكون من

الظالمين،، قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاريّ،

فوجدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قاعداً مع بلال وصهيب وخباب، في أناس

من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حوله حَقَروهم، فأتوه فقالوا: إنا نحب أن

تجعل لنا منك مجلساً تعرف العرب به فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن

ترانا العرب مع هؤلاء الأعبُد. فإذا نحن جئناك فاقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد

معهم إن شئت! قال. نعم!

قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً. قال: فدعا بالصحيفة، ودعا علياً ليكتب. قال: ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بهذه الآية: [ولا تَطْرُدِ الَذِينَ

يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ومَا مِنْ

حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ الظَّالِمِينَ] ، ثم قال: [وكَذَلِكَ فَتَنَّا

بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ] ،

ثم قال: [وإذَا جَاءَكَ الَذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ

الرَّحْمَةَ] ، فالقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيفة من يده، ثم دعانا، فأتيناه وهو يقول: [سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] ! فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله تعالى: [واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَذِينَ يَدْعُونَ

رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا]

[الكهف: ٢٨] . قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقعد معنا بعد،

فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها، قمنا وتركناه حتى يقوم [٦] .

وعن عكرمة، رحمه الله، في قوله تعالى: [وأَنذِرْ بِهِ الَذِينَ يَخَافُونَ أَن

يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ] الآية، قال: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم

بن عدي، والحارث بن نوفل، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل، في أشراف من

بني عبد مناف من الكفار، إلى أبي طالب قالوا: يا أبا طالب، لو أن ابن أخيك

يطرد عنه موالينا وحلفاءنا، فإنما هم عبيدنا وعسفاؤنا [٧] ، كان أعظم في

صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتًّباعنا إياه، وتصديقنا به! قال: فأتى أبو

طالب النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثه بالذي كلموه به، فقال عمر بن

الخطاب: لو فعلتَ ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون وإلامَ يصيرون من قولهم؟

فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية: [وأَنذِرْ بِهِ الَذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إلَى

رَبِّهِمْ ...] إلى قوله [أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ] ، قال: وكانوا: بلال، وعمار بن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وصبيح مولى أسيد. ومن الحلفاء: ابن مسعود،

والمقداد بن عمرو، ومسعود بن القاريّ، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وعمرو بن

عبد عمرو ذو الشمالين، ومرثد بن أبي مرثد، وأشباههم من الحلفاء. ونزلت في

أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: [وكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا

أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا] الآية. فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر

من مقالته، فأنزل الله تعالى ذكره: [وإذَا جَاءَكَ الَذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ

عَلَيْكُمْ] الآية [٨] .

.. تعليل وتحذير

وفي تعليل موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - واجتهاده في دعوة أولئك

الملأ وما أعقب ذلك من توجيهات ربانية يقول الباحث محمد عزة دروزة -رحمه

الله-:

ولقد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن موقف الزعماء هو المؤثر في

الجمهور، وأن نطاق دعوته سوف يبقى ضيقاً، وأنها سوف تتعثر، وأن الأذى

سوف يشتدُّ على المؤمنين مادام الزعماء في هذا الموقف. وكان بعضهم معتدلاً، أو

أقل اندفاعاً في المناوأة والكيد والصدّ من بعض، فأدَّاه اجتهاده إلى بذل الجهد في

تألُّفِهم وإقامة الصِّلات معهم، بل ومسايرتهم شيئاً ما، ولو كان في ذلك بعض

الغضِّ أو الإهمال لأصحابه، على أمل كسبهم للدعوة وكسر الطوق المضروب

حولها.

وكان هذا الاجتهاد خلاف الأولى في علم الله عزَّ وجل، فاقتضت حكمة الله

تنبيهه إلى ذلك، وإلى أن مهمته هي: الإنذار والتبشير والدعوة، والاهتمام بالذين

آمنوا به وانضووا إليه، وعدم المبالاة بالزعماء الذين امتنعوا عن الاسستجابة أو

وقفوا موقف الصدِّ والأذى؛ بسبب استكبارهم، وخبث نياتهم، وسوء أخلاقهم،

واعتباراتهم الشخصية والأسرية. وأن كل ما عليه هو أن يتلو القرآن ويدعو إلى

الله ومكارم الأخلاق. فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضلَّ فإنما يضل عليها،

وأنه ليس هو وكيلاً عليهم ولا مسؤولاً، ولا جبَّاراً ولا مسيطراً، وإنما هو منذر،

على ما جاء في آيات عديدة في سُوَرٍ عديدة، منها هذه الآيات كمثال:

١ -[قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ومَا أنَا

عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ] [الأنعام: ١٠٤] .

٢-[قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ

ومَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ومَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (١٠٨) واتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ

واصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ] [يونس: ١٠٧ - ١٠٩] .

٣ -[إنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَذِي حَرَّمَهَا ولَهُ كُلُّ شَيْءٍ وأُمِرْتُ

أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ (٩١) وأَنْ أَتْلُوَ القُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَن

ضَلَّ فَقُلْ إنَّمَا أَنَا مِنَ المُنذِرِينَ (٩٢) وقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ومَا رَبُّكَ

بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] [النمل: ٩١-٩٣] .

٤ -[نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ومَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ

وعِيدِ] [ق: ٤٥] .

٥ -[فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ (٢٢) إلاَّ مَن تَوَلَّى

وكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ العَذَابَ الأَكْبَرَ (٢٤) إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ] [الغاشية: ٢١ - ٢٦] [٩] .

هؤلاء أتباع الأنبياء ... سنة ثابتة:

قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -[١٠] :

إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان غالب من اتبعه في أول بعثته

ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل، كما قال قوم نوحٍ لنوح: [ومَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلاَّ الَذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ]

الآية (هود: ٢٧) ، وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان، حين سأله عن تلك

المسائل، فقال له: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؛ فقال: بل ضعفاؤهم.

فقال: هم أتباع الرسل [١١] .

والغرض أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم، ويعذِّبون

من يقدرون عليه منهم، وكانوا يقولون: أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا؛ أي: ما

كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير، لو كان ما صاروا إليه خيراً، ويدعنا، كقولهم:

[لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إلَيْهِ] [الأحقاف: ١١] ، وكقوله: [وإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ

آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وأَحْسَنُ نَدِياً]

[مريم: ٧٣] .

قال الله تعالى في جواب ذلك: [وكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً

ورِءْياً] [مريم: ٧٤] . وقال في جوابهم، حين قالوا: [أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ

بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ] [الأنعام: ٥٣] أي: أليس هو أعلم بالشاكرين له

بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم فيوفقهم ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات

إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم، كما قال تعالى: [جَاهَدُوا فِينَا

لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] [العنكبوت: ٦٩] .

وفي الحديث الصحيح: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر

إلى قلوبكم وأعمالكم» [١٢] .

فتاريخ الرسالات السماوية وسنة الله في الدعوات، يدلان على أن الذين

يبادرون قبل غيرهم، ويسارعون إلى تصديق الرسل، عليهم الصلاة والسلام، فى

غالبيتهم من أولئك الفقراء والعبيد والمستضعفين، وهؤلاء هم الفئات المهضومة

حقوقهم، أو الذين حرموا من الامتيازات الاجتماعية أو السياسية، التي احتكرها

لأنفسهم الملأ المستكبرون الطاغون، الذين أوقعوا عليهم الظلم والاضطهاد بفعل

النظام السائد الذي يهدر آدمية الفقراء ويجعل الملأ الكبراء سادة بالفطرة، لهم على

العبيد حق السمع والطاعة والخضوع.

ويقول صاحب المنار: مضت سنة الله تعالى أن يسبق الفقراء المستضعفون

من الناس إلى إجابة دعوة الرسل واتباعهم وإلى كل دعوة إصلاح، لأنه لا يثقل

عليهم أن يكونوا تبعاً لغيرهم، وأن يكفر بهم أكابر القوم المتكبرون، والأغنياء

المترفون، لأنه يشق عليهم أن يكونوا مرؤوسين، وأن يخضعوا للأوامر والنواهى

التي تحرم عليهم الإسراف الضار، وتوقف شهواتهم عند حدود الحق ... والاعتدال [١٣] .

ومن الواقع التاريخي:

وإذا كانت هذه قاعدة عامة في الدعوات السماوية، كما حكاها الله تعالى في

القرآن الكريم، فإننا نجد لها أمثلة أخرى فى تاريخ البشر وواقعهم:

فقد كان في مقدمة الذين سارعوا في الدولة الرومانية إلى اعتناق المسيحية،

هم الأرقاء، لأنها وعدتهم بملكوت السماء، وأعلنت أنه ليس مقصوراً على السادة،

بل إنها أخبرتهم أن دخول الأغنياء الجنة هو أصعب من أن يلج الجمل في سم

الخياط، والمفروض أنه الغني الباغي الظالم المستكبر..

وفي التاريخ الجاهلي الحديث، كان من أكبر المؤيدين للثورة الفرنسية:

الفلاحون؛ كي تخلصهم من القيود الاقتصادية والاجتماعية التي فرضها عليهم

المُلاَّك الإقطاعيون، وأرباب الحرف والصنائع؛ لتحررهم من سيطرة نقابات

الطوائف، والعامة كي يكون لهم نصيب من الحكم الذي كان مقصوراً على الملوك

والنبلاء والفئات العليا ورجال الكنيسة [١٤] ، ولعل هذا يفسر شعار تلك الثورة

المعروف، وهو: (الحرية والإخاء والمساواة) الذي أطلقوه ليخدعوا به الناس

وليكسبوا الجماهير إلى صفهم.

.. جاهلية قديمة جديدة..

ورغم الدعوات التي يطلقها كثير من الناس في الشرق والغرب، يزعمون

فيها أنهم دعاة تحرر الإنسان وأنهم جاؤوا لينقذوا الضعفاء والمهضومة حقوقهم،

وأنهم أنصار حقوق الإنسان، وأنهم سند لحق الشعوب في تقرير مصيرها، ومن

أجل ذلك أنشئت المنظمات الدولية وما تفرع عنها من مجالس ومنظمات.. رغم هذا

فإنهم هم الذين يكرسون الظلم والعدوان ويزدرون الضعفاء حتى ولو كانوا يجلسون

بجانبهم في مقعد من مقاعد منظماتهم التي اصطنعوها لتكون أداة سيطرة على

الآخرين.

يقول صاحب: (منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله) :

ومازال لهذه الطبقية الشاذة الهمجية جذور راسخة في عصرنا الذي يسمى

بعصر التقدم والمدنية:

-فبعض المنسوبين إلى أهل العلم يتطاولون على الذين لا علم عندهم! .

- والأغنياء المترفون - الرأسماليون والإقطاعيون - يحتقرون العمال

الكادحين والفقراء المدقعين، ولو كانوا أصحاب مواهب فذة! ! .

- وأرباب الوظائف الكبيرة يزدرون عامة الناس، ويتخذون من أنفسهم أرباباً

من دون الله! ! .

وهذه كلها مقاييس جاهلية، مهما نعق دعاتها بالمساواة والعدل.. ولله سبحانه

وتعالى مقياس ثابت لا يتزعزع: [إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] [الحجرات: ١٣] .

إن المتقين أعزُّ خلق الله، وأرفعهم شأناً، ولو كانوا شعثاً غبراً لا يملكون مالاً

أو جاهاً.. فهم مؤمنون أتقياء وكفاهم ذلك نسباً وشرفاً ...

درس للدعاة..

وإذا كان الاستكبار في الأرض بغير الحق، والاستعلاء على الناس، عقبة

أمام كل دعوة وإصلاح، وجسراً إلى النار، وسبباً للهلاك والبوار، فينبغي على

المؤمنين عامة، والدعاة خاصة، أن يكونوا على حذر من الكبر والغرور، وأن

يرتقوا إلى أفق مشرقٍ وضيء، فيكونوا من الموطئين أكنافاً الذين يَأْلَفُون ويُؤْلفون،

وأن يطامنوا من كبريائهم، وأن يخفضوا جناحهم لإخوانهم المؤمنين، فيدخلون في

زمرة عباد الرحمن الذين يمشون في الأرض هوناً، وعندئذ يمدون أبصارهم للدار

الآخرة التي جعلها الله تعالى للمؤمنين المتواضعين: [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا

لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ ولا فَسَاداً والْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] [القصص: ٨٣] .

وما أعظم ما أدبَّنا الله تعالى به، عندما اقتلع من نفوسنا كل بذرة تنبت الكبر

في نفس صاحبها! وما أعظم أدب الإسلام عندما جعل في نفس كل إنسان وازعاً

ونوراً يستضيء به، وحكماً عدلاً لا يخطئ الصواب يقضي بأن الكبر تزوير

للحقيقة وتعالٍ على الناس بدون حقٍ.. إذ لا شيء، مما يتيه به الإنسان فخراً على

الآخرين، ويتكبر عليهم بسببه، يسوِّغ له ذلك ويبرره.

* أرأيت العلم الذي تُفاخِر به وتتكبر؟ إنه من عند الله سبحانه، ومهما أوتيت

منه فلن تبلغه كله:

[وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] [البقرة: ٣١] .

[وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ] [يوسف: ٧٦] .

[ومَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً] [الإسراء: ٨٥] .

* أرأيت إلى الملك والسيادة والزعامة؟ إنها بقدر من الله تعالى، وهو

ينزعها منك متى شاء:

[قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وتُعِزُّ مَن

تَشَاءُ وتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [ال عمران: ٢٦] .

* أرأيت إلى الرزق والمال والمتاع المادي كله؟ إنك لم تخلق منه شيئاً، فهو

كله من عند الله، وليس لك فيه إلا الكسب:

[أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشَاءُ

لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧)

أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنزِلُونَ (٦٩) لَوْ

نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ] [الواقعة: ٦٣ - ٧٠] .

* وحتى الطاقة التي تستخدمها وتُسَخّرها لتيسير سبل الحياة لديك.. إنها هبة

من الله تعالى ومنحة للبشر:

[أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ

(٧٢) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ومَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ] [الواقعة: ٧١ - ٧٣] .

* وماذا بقي لديك؟ الحسب والنسب؟ فهل لك في ذلك إرادة واختيار؟ هل

كنت بمحض إرادتك من

بني فلان أو من بنى فلان آخر ... ؟ وما الذي يميزك عن غيرك، والكل

يمتون بالنسب إلى أصل واحد.. إلى آدم - عليه السلام -:

[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ

أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] [الحجرات: ١٣] ، «والناس كلهم لآدم وآدم من تراب» [١٥] .

فماذا بقي بعد هذا كله؟ ماذا بقي لك تتكبر به على الآخرين إلا العجز

والضعف ومعرفة الأصل الذي كنتَ والنهاية التي إليها تصير؟ .

فلتعد إلى نفسك، ولتضعها في مكانها، ولا ترفعها إلى ما لا تستحق، وليكن

لك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة.


(١) انظر: تفسير ابن كثير ٢/ ٣٧٢ - ٣٧٧، ٤/٣٧٠ - ٣٧٣، دار الفكر، بيروت.
(٢) انظر: تفسير ابن كثير ٢/٨١.
(٣) أخرجه الإمام مسلم في فضائل الصحابة برقم (٤٦) ، وابن ماجه في الزهد برقم (٤١٢٨) ، وقال الشيخ محمود شاكر في تعليقه على الطبري: ١١/ ٣٧٩: خرجه السيوطي في الدر المنثور، وزاد نسبته لأحمد وابن أبي حاتم وابن حبان وأبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم والحاكم والفريابي وعبد ابن حميد والنسائي وابن المنذر.
(٤) مسند الإمام أحمد: ١/٤٢٠.
(٥) أخرجه الطبري في التفسير: ١١/٥٧٤ - ٥٧٥، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ٧/٢٠: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح، غير كردوس، وهو ثقة، ونسبه السيوطي لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية، انظر: تفسير الطبري بتحقيق وتعليق محمود شاكر، في الموضع نفسه.
(٦) الطبري ١١/٣٧٦ - ٣٧٧، وابن ماجه برقم (٤١٢٧) في الزهد، قال المحقق: في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات وقد روى مسلم والنسائي والمصنف بعضاً من حديث سعد بن أبي وقاص وقال ابن كثير في التفسير ٢/ ١٣٦: (وهذا حديث غريب فإن هذه الآية مكية والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر) ونسبه السيوطي أيضاً لابن أبي شيبة وأبي يعلى وأبي نعيم في الحلية وابن المنذر وأبي الشيخ، وابن مردويه والبيهفي في الدلائل انظر: تعليق محمود شاكر على الطبري (١١/٣٧٧) .
(٧) العسفاء: جمع (عسيف) ، وهو العبد، والأجير المستهان به.
(٨) أخرجه الطبري بإسناده عن عكرمة في التفسير: ١١/٣٧٩ - ٣٨٠.
(٩) انظر بحثه القيم عن: (معركة النبوة مع الزعامة) ص ٢٤٦ - ٢٤٨، وهو البحث المقدم للمؤتمر العالمي الثالث للسيرة النبوية عام ١٤٠٠ هـ بالدوحة، ومنشور في البحوث والدراسات المقدمة للمؤتمر ٦/٤٠٧ وما بعدها، الطبعة الأولى ١٤٠١ هـ.
(١٠) تفسير ابن كثير ٢/١٣٦.
(١١) القصة بكاملها في البخاري، كتاب بدء الوحي رقم (٧) ، فتح البارى ١/٣١ - ٣٣ وفي مواضع أخرى منه، ومسلم في الجهاد والسير، برقم (٧٤) ٣/ ١٣٩٣ - ١٣٩٧، والإمام أحمد في المسند: ١/٢٦٢.
(١٢) أخرجه الإمام مسلم في البر والصلة برقم (٢٥٦٤) ، والإمام أحمد في المسند ٢/٢٨٥ و ٥٣٩، وابن ماجه في السنن، كتاب الزهد برقم (٤١٤٣) ، والبغوي في شرح السنة برقم (٤١٥٠) ١٤/٣٤.
(١٣) تفسير المنار للسيد رشيد رضا: ٨/٥٠٤.
(١٤) انظر: التفسير القرآني للتاريخ، د راشد البراوي: ص ١٥٨.
(١٥) أخرجه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، وإسناده حسن، مشكاة المصابيح بتحقيق الشيخ الألباني: ٣/١٣٧٣.